مذكّرة محكمة التوبة الرسوليّة حول سرّ الاعتراف
1 يوليو 2019
مذكّرة محكمة التوبة الرسوليّة حول الدفاع عن الختم الأسراري وقدسيّة سرّ الاعتراف
صدرت ظهر اليوم الاثنين مذكّرة عن محكمة التوبة الرسولية حول أهميّة احترام سرّية سرّ الاعتراف وقدسيّة الختم الأسراري جاء فيها: بتجسّده اتحد ابن الله نوعًا ما بكل إنسان؛ وبتصرفاته وكلماته قد أنار كرامته السامية وغير القابلة للإنتهاك؛ وبذاته أعاد إصلاح البشريّة الساقطة إذ غلب ظلمة الخطيئة والموت؛ وللذين يؤمنون به، فتح العلاقة مع أبيه. وإذ أفاض الروح القدس كرّس الكنيسة، جماعة المؤمنين كجسده الحقيقي وأشركها في سلطته النبوية والملوكيّة والكهنوتية لكي تكون في العالم امتدادًا لحضوره ورسالته وتعلن الحقيقة لرجال ونساء كل زمن وتقودهم إلى بهاء نوره وتسمح بأن تلمس حياتهم وتحوّلها. في هذه المرحلة المضطربة من التاريخ البشري، يبدو لنا أن التقدّم العلمي لا يتجاوب مع تنمية أخلاقية واجتماعية ملائمة بقدر ما يشكل انطواء ثقافيًّا وأخلاقيًّا ينسى الله ويصبح غير قادر على الاعتراف بالإحداثيات الأساسية للحياة البشرية واحترامها.
وتتابع المذكرة مشيرة إلى أننا وفي هذا الإطار نجد تأكيد حكم مسبق سلبي إزاء الكنيسة الكاثوليكية التي تُقدَّم ثقافيًا واجتماعيًّا من جهة في ضوء التوترات القائمة في داخل هرميّتها، ومن جهة أخرى انطلاقًا من فضائح التعديات الجنسية التي قام بها بعض أعضاء الإكليروس. هذه الأحكام المسبقة، التي تنسى طبيعة الكنيسة الحقيقية وتاريخها الحقيقي وتأثيرها الإيجابي في حياة البشر، قد تُتَرجم أحيانًا إلى “إدعاء” لا يمكن تبريره بأنّه على الكنيسة أن تطابق قواعدها القانونية مع القواعد المدنية للدولة التي تعيش فيها كضمان وحيد وأكيد للاستقامة. إزاء جميع هذه الأمور رأت محكمة التوبة الرسولية أن تتدخل من خلال هذه المذكرة للتأكيد على أهميّة تعزيز فهم أفضل لهذه المبادئ الخاصة بالتواصل الكنسي والاجتماعي والتي تبدو أنها قد أصبحت اليوم غريبة عن الرأي العام والقوانين المدنية.
وتضيف الوثيقة في حديثه مؤخرًا عن سرّ المصالحة أراد البابا فرنسيس أن يؤكّد على ضرورة وأهمية الختم الأسراري وقال: “إن سرّ المصالحة بحد ذاته هو خير حفظته حكمة الكنيسة على الدوام بكامل قوّتها الأخلاقية والقانونية من أجل حريّة ضمير التائب الذي يجب أن يكون متأكّدًا على الدوام أن هذا اللقاء الأسراري سيبقى في سرِّ الاعتراف بين ضميره الذي ينفتح على نعمة الله ووساطة الكاهن الضرورية”. إن قدسيّة سرّ الاعتراف تأتي مباشرة من الحق الإلهي الذي يجد جذوره في طبيعة السر عينها. في الاحتفال بسرّ المصالحة نجد جوهر المسيحية والكنيسة: ابن الله صار إنسانًا ليخلّصنا. ولكي تعبر عن هذه الحقيقة علّمت الكنيسة على الدوام، أنّ الكهنة وخلال احتفالهم بالأسرار هم يعملون بشخص المسيح الرأس “in persona Christi capitis”. وبالتالي فكل تائب يتقدّم بتواضع إلى الكاهن ليعترف بخطاياه هو يشهد لسرّ التجسّد العظيم ولجوهر الكنيسة الذي يفوق الطبيعة ولكهنوت الخدمة الذي وبواسطته يأتي المسيح القائم من الموت للقاء البشر ويلمس حياتهم بشكل أسراري ويخلّصهم.
وتتابع المذكرة لا يُسمح أبدًا للكاهن ولأي سبب كان أن يخون ثقـة التائب بأي كلـمة أو أي طريقة مهـما كانت، كذلك يحرّم على المعرّف إستعمال الـمعلومات التي قيلت فـي سر الإعتراف من أجل إغضاب الـمُعترف أو إحراجـه أو إفشاء هويتـه؛ لأن الكاهن في الواقع يستمع إلى خطايا التائب لا كإنسان وإنما كالله وبالتالي فالحرم الذي يفرضه الختم الأسراري يمنع الكاهن من أن ينقل شيئًا من محتوى الاعتراف حتى مع التائب خارج سرّ الاعتراف. إن الدفاع عن الختم الأسراري وقدسية الاعتراف لا يمكنهما أن يتعايشا أبدًا مع الشر بل على العكس هما يشكلان الترياق الوحيد والحقيقي ضدّ الشر الذي يهدد الانسان والعالم بأسره، إنّهما الإمكانية الوحيدة للاستسلام لمحبة الله والسماح لهذه المحبّة أن تغيّرنا ونتعلّم أن نجيب عليها بشكل ملموس من خلال حياتنا. وتؤكّد المذكرة أن كل عمل سياسي أو مبادرة قانونية تهدف لانتهاك الختم الأسراري تشكل إهانة غير مقبولة إزاء الكنيسة الحرّة التي لا تنال شرعيّتها من الدول وإنما من الله.
وتشير المذكرة أنّه وإلى الإطار القانوني الأخلاقي لسريّة الاعتراف ينتمي أيضًا ما يعرف بالإرشاد الروحي والمرافقة الروحية اللذان ومن خلالهما تمارس الكنيسة أيضًا رسالتها وسلطتها الخلاصية. ويقوم الكاهن بهذه الخدمة بفضل رسالته كممثل للمسيح والتي مُنحت له في سرّ الكهنوت وعليه أن يمارسها في الشركة مع هرمية الكنيسة من خلال وظائف الكنيسة الثلاث: التعليم والتقديس والتدبير. لأنه وفي الإرشاد الروحي يفتح المؤمن بحريّة سرّ ضميره للمرشد الروحي لكي يتمَّ توجيهه ومساعدته في الإصغاء لمشيئة الله وتتميمها. وبالتالي فهذا الإطار الخاص أيضًا يتطلّب سريّة معيّنة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمحتوى هذه اللقاءات الروحية وتأتي من حقِّ كل شخص بأن تحترم خصوصيّته. ولذلك يمكننا أن نفهم لماذا يمنع القانون أن يؤخذ برأي المعرّف والمرشد الروحي لقبول المرشحين للكهنوت أو لتسريحهم من الإكليريكية.
وتضيف المذكرة أنَّ هناك حالة سرّ خاصة وهو السر الحبري الذي يربط بقوّة القسم المتعلق بممارسة بعض الوظائف في خدمة الكرسي الرسولي ويهدف لخير الكنيسة العام وخلاص النفوس. وهو يفترض أن هذا الخير ومتطلبات خلاص النفوس يمكنها ويجب أن تفسّر من الكرسي الرسولي وحده في شخص الحبر الأعظم الذي وضعه المسيح الرب مبدأ مرئيًّا وأساسًا لوحدة الإيمان والشركة مع الكنيسة بأسرها. وتشير المذكرة أيضًا إلى جميع الأمور المتعلّقة بأطر ومجالات التواصل العامة أو الخاصة بجميع أشكالها وتعابيرها وتؤكّد في هذا السياق أن الحكمة الكنسية قد أشارت على الدوام إلى المعيار الأساسي القاعدة الذهبية التي تكلّم عنها الرب ويكتبها القديس لوقا في إنجيله: “كَما تُريدونَ أَن يُعامِلَكُمُ النَّاس فكذلِكَ عامِلُوهم”. بهذا الشكل، وفي نقل الحقيقة كما في الامتناع عن قولها عندما لا يحق لمن يسأل أن يعرفها، ينبغي أن نطابق حياتنا على وصيّة المحبة الأخوية واضعين نصب أعيننا خير وأمان الآخرين واحترام حياتهم الخاصة والخير العام. وكواجب لنقل الحقيقة التي تفرضها المحبة تشير المذكرة إلى الإصلاح الأخوي الذي يعلّمنا الرب إياه والذي يشكل الأفق والمرجع عندما يلزم الأمر وبحسب ما تتطلبه الحالة الملموسة: “إذا خَطِئَ أَخوكَ، فَاذهَبْ إِليهِ وَانفَرِد بِه ووَبِّخهُ. فإِذا سَمِعَ لَكَ، فقَد رَبِحتَ أَخاك. وإِن لم يَسمَع لَكَ فخُذ معَكَ رجُلاً أَو رَجُلَين، لِكَي يُحكَمَ في كُلِّ قضِيَّةٍ بِناءً على كَلامِ شاهِدَينِ أَو ثَلاثة. فإِن لم يَسمَع لَهما، فأَخبِرِ الكَنيسةَ بِأَمرِه. وإِن لم يَسمَع لِلكَنيسةِ أَيضاً، فَليَكُن عندَكَ كالوثَنِيِّ والجابي”.
وتختتم المذكرة لنطلب من الروح القدس من أجل الكنيسة بأسرها محبّة متّقدة للحقيقة في جميع مجالات وأوضاع الحياة والقدرة على الحفاظ عليها بشكل كامل في إعلان الإنجيل لكل خليقة والاستعداد للاستشهاد من أجل الدفاع عن قدسيّة الختم الأسراري وكذلك الاحتراز والحكمة الضروريين لتحاشي أي استعمال خاطئ للمعلومات المتعلّقة بحياة الأشخاص الخاصة والاجتماعية والكنسيّة والتي بإمكانها أن تؤل إلى جرح كرامة الشخص والحقيقة عينها التي هي على الدوام المسيح الرب ورأس الكنيسة.
نقلا عن الفاتيكان نيوز