مطران كاثوليك المنيا: أمي لم تكن متعلمة لكنها حقًا كانت مدرسة
الثلاثاء 12/مارس/2019
رانيا سعد
لشهر مارس طعم خاص واحتفالات مميزة، اختصت به نون النسوة وحدهن، فى الأسبوع الأول من الشهر نحتفل بيوم المرأة العالمي، وفى 21 مارس بدأ العالم العربى يحتفل بعيد الأم فى خمسينيات القرن الماضى، وذلك بفكرة من الصحفى مصطفى أمين، إلا أن فكرة الاحتفال بالمرأة عامة والأم خاصة، بحسب أساتذة التاريخ، بدأت من مصر الفرعونية، ثم الحضارة الإغريقية والرومانية، وحديثًا من أمريكا ثم مصرية.
وكانت «إيزيس» الملكة المصرية ابنة الحضارة الفرعونية القديمة، رمزًا مصريًا للاحتفال بالأمومة، وقد اعتاد القدماء إقامة مواكب من الزهور تطوف المدن المصرية احتفالًا بالأم، ثم ظهرت إيزيس على معابد روما، كما احتفل بها اليونانيون، ثم انتقال الاحتفال من الحضارة المصرية إلى الحضارات الأخرى، حتى ظهرت بصورتها الحالية حديثًا.
وكم من «إيزيس» أخرجت لنا عَالِمَات وعُلَمَاء وأساتذة ورؤساء وبطاركة كنائس، وكم من «إيزيس» عاشت راهبة دون زواج، لكنها كانت أمًا عظيمة فى تربيتها الأخلاقية والدينية لراهبات وآباء فيما بعد.
الأم فى العهد القديم.. لم يُطلق هذا اللّفظ على الأمّ الحقيقيَّة فحسب، بل كان يُطلق أيضًا على الجدّة وزوجة الأب وعلى القائدة، فمقام الأم بارز فى الكتاب المقدَّس، فقد ورد فى سفر الأمثال الكثير عنهنَّ مثلًا: «الابن الحكيم يَسُرُّ أباه والابن الجاهل غمّ لأمّه»، وكذلك فى العهد القديم: «أكرم أباك وأمّك، لكى تطول أيَّامُك فى الأرض الَّتى يُعطيك الرَّب إلهك إيَّاها».
وكانت مريم أمّ يسوع المسيح المباركة مثالًا نبيلًا للأمومة فى إيمانها، وفى محبتها لابنها عندما بحثت عنه ولم تجده. إن الأم إذ تعطى الحياة، تحتلّ مكانة ممتازة فى حياة النَّاس العاديَّة، كما فى تاريخ الخلاص، فهى تُعطى الحياة ويجب أن تكون محبوبة، إلاَّ أنَّ الحب الواجب نحوها ينبغى أن يبلغ أحيانًا إلى حدِّ التَّضحية.
أمهات ونساء صنعن آباء ورعاة الكنيسة، لولا وجودهن لما وصل هؤلاء الذين نطلق عليهم فى مجتمعنا المصرى «رجال» الكنيسة.. وكما قال الشاعر الكبير حافظ إبراهيم: «الأم مدرسة إن أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق».. الأم فى حياة كل إنسان هى – بعد الله سبحانه وتعالى – سبب وجوده، التى من خلال اهتمامها ومحبتها يستمد الحياة، هى المدرسة الأولى التى يتربى فيها ويتعلم منها كل مبادئه الأولى، قيمه الأولى، كلماته الأولى وأفكاره الأولى وخبراته الأولى. هذه المرحلة الأولى فى حياة الطفل التى تطبع شخصية الطفل، وبعد ذلك الشاب والرجل، بطابعها الذى يشكل حياته ويستمر معه طوال كل الحياة.
هكذا أكد الأنبا بطرس فهيم مطران الأقباط الكاثوليك بمدينة المنيا، ويروى عن والدته الراحلة قائلًا: «هكذا كانت أمى فى حياتي، رغم أنها لم تكن متعلمة، ولكنها كانت أعظم من مدرسة، ورغم أنها لم تكن من أسرة مشهورة أو غنية إلا أنها كانت أروع من أى جامعة. فمبادئها وقيمها وصبرها وحكمتها الفطرية ونقاء سريرتها وحنانها وطيبة قلبها واتزانها فى مواقفها بين اتباعها لإلهامات الله فى قلبها وتراكم خبرات عقلها وحياتها، كل ذلك كانت تسكبه فى حياتها وعلاقاتها ومحبتها وطريقة تعاملها مع أبي، وطريقة تربيتها لى أنا وأخواتي».
وقال: «علمتنا أن مخافة الله هى الأمر الأول فى حياتنا، علمتنا ألا نحكم على أحد مهما كان وضعه؛ فكانت تقول دائما لو كنت مكانه لربما فعلت أسوأ منه. نصيحتها الأساسية هى «وازن بين عقلك وقلبك ولا تنسى أبدًا صوت الله ونور كلمته المقدسة لكل مواقفك وقراراتك». لا أنسى أبدأ أنها أصرت أن تذهب لدروس محو الأمية لتتعلم القراءة والكتابة، لكى تستطيع أن تقرأ الكتاب المقدس وتتعلم كلمته لأنها كانت تعتبرها مرشدا ونورا لحياتها، وكانت تجد فيها تعزيتها فى الظروف الصعبة. فكانت تقرأ كلمة الله يوميا، فجعلتنى أحبها منذ طفولتي».
محبتها للفقير كانت نموذجية، فلا أنسى أبدأ يوم كان لى 4 سنوات تقريبا، وكانت تحتفظ بإفطارها يوميًا إلى أن تنهى الأعمال المنزلية. ومر يومًا أحد المتسولين ولم يكن لديها ما تقدم له إلا إفطارها فقدمته له، ولكنى اعترضت على الفقير وطلبت منه أن يرد لأمى ما أخذه، فاعتذرت له وطيبت خاطره وأخذتنى جانبًا بهدوء لتفهمنى قيمة وكرامة الفقير، وكيف يجب أن أرى فيه «يسوع»، فأقنعتنى أن إكرام الفقير هو إكرام لله، لدرجة أنى فى اليوم التالى تركت لها إفطارى لتقدمه للفقير حين يمر اليوم ولتأكل هى إفطارها.
لا يمكننى أن أنكر أيضا دور أخواتى البنات اللواتى لولا تضحياتهن فى العمل بدلا منى فى الحقل، وفى رعى الغنم، لما نلت أنا وإخوتى الأولاد نصيبنا من التعليم.
كما لا أنسى الكثير من الأمهات الراهبات اللاتى كن علامات مضيئة فى حياتى وحياة الكنيسة والمجتمع، بخدماتهن المتميزة، وابتساماتهن المشرقة، وعمقهن الروحى والإنسانى الرائع، الذى يشهد عنه الكثير ممن لمسوا خدماتهن ورسالتهن السامية وأخلاقهن النبيلة فى مجالات الصحة والتعليم والتربية وخدمة الفقراء وغيرها من الخدمات.
لأمي، رحمها الله، ولأخواتى ولكل الأمهات فى يومهن العالمى وعيدهن المصري، وشهرهن المبارك، لكنّ كل الحب وكل التحية وكل الإكرام والتقدير. وكل عام وكل أم فى كل الدنيا بكل خير. وكل عام ومصر أم الدنيا بكل أمان وسلام وتقدم ورخاء.
** الأنبا بطرس فهيم أسقف المنيا
وُلد كمال فهيم فى بلدة طوة، بمدينة المنيا، فى 3 يوليو 1961. وبعد الدراسات الأولى التحق بالمعهد الإكليريكى العالى بالمعادى للكنيسة الكاثوليكية، وحصل على ليسانس الفلسفة واللاهوت. نال السيامة الكهنوتية فى كنيسة طوة فى 20 مايو 1988 على يد الأنبا أنطونيوس نجيب.
خدم راعيًا فى كنائس السيدة العذراء فى جاهين المنيا، والقديس بطرس فى بنى سويف، ومار مرقس بالمنيا، ومن عام 1990 حتى عام 1994 قام بالتدريس والتكوين فى المعهد الإكليريكى العالى بالمعادي.
ثم سافر لتكملة الدراسة فى روما، وحصل على الدكتوراه فى الكتاب المقدس من عام 1995-2001، وعاد لمواصلة رسالة التدريس والتكوين بالمعهد الإكليريكي. وعُيّن مديرًا له عام 2005، وفى 31 أغسطس 2006، انتخبه السينودس البطريركى مطرانًا معاونًا للبطريرك. وتمت السيامة الأسقفية فى كاتدرائية السيدة العذراء بمدينة نصر بالقاهرة، يوم 13 أكتوبر 2006.
وتولى مهمة مطران معاون للإيبارشية البطريركية، بمناطقها الثلاث: القاهرة والدلتا والإسكندرية.
وكان النائب العام الأول للإيبارشية البطريركية.
واصل تدريس مادة العهد الجديد فى الإكليريكية وفى كلية العلوم الدينية بالسكاكيني، حتى 2013.
اختاره السينودس البطريركى بتاريخ 25 مارس 2013 مطرانا لإيبارشية المنيا. وتم التنصيب بكاتدرائية يسوع الملك بالمنيا يوم 19 أبريل 2013.
نقلا عن البوابة نيوز