مفهوم الفلسفة عند ابن رشد-إكليريكي/جوزيف منير
مفهوم الفلسفة عند ابن رشد-إكليريكي/جوزيف منير
• مقدمة
سنتناول في هذا البحث مفهوم الفلسفة عند ابن رشد والّذي يعدُّ الشّارح الأعظم لأرسطو، موضحين ارتباطها بالعامة والخاصة، وكيفيّة استفادة ابن رشد من فلسفة أرسطو، ودفاعه عن الفلسفة ضد الغزالي وعلماء الكلام. كما سنتطرق إلى كيفيّة توظيف ابن رشد للفلسفة في التعبير عن الإيمان بما يُسمى بـ« التأويل المجازي»، كما سنحاول طرح بعض التساؤلات حول ارتباط الفلسفة بالدّين.
1- ابن رشد حياته ومؤلفاته
1-1 حياة ابن رشد
وُلد القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد في قرطبة بالأندلس ( أسبانيا) حاليًا، وذلك عام 1126م/ 520هـ من أسرة لها شأنٌ عظيمٌ في الفقه والسّياسة والقضاء، حيث كان جده قاضي قرطبة ومن كبار الفقهاء. درس ابن رشد علم الكلام والفقه، كما نال قسطًا وافرًا من آداب العربية، ودرس الطبَّ عن أبي جعفر هارون، وأبي مروان ابن جربول البلنسي، وأبي مروان ابن زُهر، فقيل عنه: « كان يفزع إلى فتياه في الطبِّ كما يفزع إلى فتياه في الفقه»، كما قال عنه ابن الزُّبير: « كان من أهل العلم والتفنُّن: وأخذ النّاس منه واعتمدوه إلى أن شاع عنه ما كان الغالب عليه في علومه من اختيار العلوم القديمة والرّكون إليها، وصوْب عنانه جملةً نحوها حتّى لخصَّ كتب أرسطو الفلسفيّة والمنطقيّة، واعتمد مذهبه فيما يُذكر عنه ويوجد في كتبه وأخذ يُنحيَّ علة من خالفه ورام الجمع بين الشّريعة والفلسفة…» نسج ابن رشد في مجال الفلسفة على منوال ابن باجة ( 1138م) وابن طفيل (1185م)، والّذي قدمه الأخير للخليفة أبي يعقوب يوسف الّذي كان مُحبًّا للفلسفة، وحثه على الاشتغال بتفسير أرسطو. وقد نال ابن رشد حظوةً في عيني الخليفة، فولاه منصب قاضي إشبيليّة، وأوكل إليه مهمة تفسير أرسطو لمّا لديه من جودة ذهن وبراعة وحب للفلسفة. لم تطل إقامة ابن رشد في إشبيليّة، فعاد إلى قرطبة بعد عامين أي عام 1171م/567 هـ، ثم تولى منصب قاضي القضاة، وأصبح بعد عشر سنوات (1182م) الطبيب الخاص للخليفة. عندما تولى المنصور أبو يوسف يعقوب الخلافة على أثر وفاة والده عام 1184م، قرّبه إليه كثيرًا، فوُشي بـ« ابن رشد» عند الخليفة، فأمر الخليفة بإقامته في مدينة اليسانة على مقربةٍ من قرطبة، كما أمر بإحراق كتبه وسائر كتب الفلسفة وحظر العمل بها. اختلف الرّواة في عرض أسباب نقمة المنصور على ابن رشد، فمنهم مَنْ يُرجعها لأسبابٍ سياسيّةٍ تتعلق بالخليفة ذاته الّذي أراد أن يجمع قلوب الرّعية حوله، ومنهم مَنْ يُرجعها لأسبابٍ شخصيّةٍ؛ وهي أنَّ ابن رشد عندما شرح كتاب (الحيوان) لأرسطو، ذكر الزّرافة وقال إنَّه رآها عند ملك البربر ومثل ذلك لم يَرُقْ الخليفة الّذي كان يُسمي نفسه ويسميه مَنْ حوله ( أمير المؤمنين)، وإنْ كان ابن رشد قد قال إنَّه أملاها ملك البربن، فحُرفت إلى البربر. إلاَّ أنَّ السّبب الحقيقي في اضطهاد الخليفة لابن رشد يُرجح إلى خصومه الفقهاء وعلماء الكلام الّذين نقموا عليه بسبب مكانته لدى الخليفة، فوُشوا به للخليفة وحرّفوا بعض آرائه للانتقام منه، والاستيلاء على الجو الفكري في الأندلس. لم تدم محنة ابن رشد الّتي أصابته عام 1195م طويلاً، إذ لم يلبث أن رضي عنه الخليفة حيث امتحنه بهذه المحنة لا انتقامًا منه أو اضطهادًا بل حدًّا من الفقهاء الذّين نادوا بتكفير الفلاسفة والتنكيل بهم. توفي ابن رشد أواخر عام 1198م/595هـ في مراكش، في أوائل دولة النّاصر خليفة المنصور، « ودُفن بجبّانة باب تاغروت ثلاثة أشهر، ثُم حُمل إلى قرطبة ليُدفن بها في روضة سلفه بمقبرة ابن عبّاس»، وذلك بعد عمر يناهز اثنين وسبعين عامًا.
1-2 مؤلفات ابن رشد
لابن رشد العديد من المصنّفات الّتي يمكن تقسيمها لأربعة أقسام هم:
1-2-1 مصنّفات فلسفيّة وعلميّة
– جوامع ( كتب أرسطو طاليس في الطبيعيات والإلهيات « كتاب النّفس»، في الفلسفة، الحس والمحسوس والذّكر والتذكر والنّوم واليقظة والأحلام وتعبير الرّؤيا، الخطابة والشّعر، سياسة أفلاطون).
– شروحات لكتب أرسطو طاليس ( ما بعد الطبيعة، السّماء والعالم، النّفس، القياس، السّماع الطبيعي، البرهان).
– تلخيصات لكتب أرسطو طاليس ( الأخلاق، الكون والفساد، الآثار العُلويّة، الإلهيات لنيقولاوس).
– مقالات في ( العقل، القياس، اتصال العقل المُفارق بالإنسان، حركة الفلك، الرّد على ابن سينا في تقسيمه للموجودات، القياس الشّرطي، الجُرم السّماوي).
– مسائل في ( علم الله بالجزئيات، الحكمة، الزّمان).
– كتب في ( الفحص عن مسائل في العلم الإلهي لكتاب الشّفاء لابن سينا، تهافت التهافت، مختصر المجسطي).
1-2-2 مصنّفات طبيّة
– تلخيصات كتب جالينوس ( المزاج، التعرّف، القوى الطبيعيّة، العلل والأمراض، الحميّات، الاسطقسات، الأدوية المفردة، حيلة البرء).
– مقالات في ( حمّيات العفن، الترياق).
1-2-3 مصنّفات فقهيّة وكلاميّة
– كتب في ( التحصيل، المقدمات، نهاية المجتهد وبداية المقتصد، الكشف عن مناهج الأدلة، فصل المقال فيما بين الحكمة والشّريعة من الاتصال، شرح عقيدة الإمام المهدي « ابن تومارت»).
1-2-4 مصنّفات أدبيّة ولُغويّة
– الضروري في النّحو، كلام على الكلمة والاسم المشتق.
2- ماهيّة الفلسفة عند ابن رشد
2-1 معنى وغاية الفلسفة
الفلسفة هي الوصول إلى الخالق من المخلوقات، من الموجودات إلى الصانع، كما يذكر ابن رشد « النّظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع. أعني من جهة ما هي مصنوعات فإنَّ الموجودات إنَّما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها» الفلسفة هي البحث عن الله والكون والحياة، فهي تتفق مع الدّين في غاية الوصول لله، ولكن تختلف معه من حيث منهج المعرفة، فهي الوسيلة الّتي يستخدمها الإنسان لمعرفة الله، فمن شأن أجزاء الفلسفة المختلفة أن تقودنا إلى معرفة الله، وكأنَّ كلَّ فروع الفلسفة هي في خدمة مبحث الإلوهيّة، مثل المنطق الّذي يساعدنا في البحث عن الموجودات ( الفلسفة الطبيعيّة)، مما يقودنا لمعرفة الله « مَنْ لا يعرف المصنوع لا يعرف الصانع» . ولذلك فالفلسفة واجبةٌ بالشّرع، لأنَّها تسعى لمعرفة الله. فابن رشد لم يثبت أهمية الفلسفة لذاتها إنَّما لأنَّ الدّين يأمر بالفلسفة الطبيعيّة، وبالمنطق من أجل هدف أعظم، وهو معرفة الله ( مبحث الإلوهيّة).
2-2 هل من فلسفة جديدة عند ابن رشد مختلفة عن أرسطو ؟
من الصعب أن يُنشىء شخصٌ علمًا بأكمله، وإنَّما اللاّحق يعتمد على السّابق، كما يقول ابن رشد « هذا أمرٌ بيّن بنفسهِ، ليس في الصنائع العلميّة فقط بل والعمليّة. فإنَّه ليس منها صناعة يقدر أن يُنشئها واحدٌ بعينه، فكيف بصناعة الصنائع وهي الحكمة ؟!» رأى ابن رشد أنَّ الفلسفة الّتي يأمر بها الله متمثلة في الفلسفة الأرسطيّة، والّتي تمثل نتاج العقل البشري، وعندما نقول الفلسفة الأرسطيّة لا نقصد بها فلسفة أرسطو الخالصة، إنَّما الأرسطيّة كما عرفها ابن رشد المصطبغة بالأفلاطونيّة المُحدثة. فأهمية استخدام فلسفة أرسطو ترجع إلى الحاجة إلى معرفةٍ علميّةٍ منظمةٍ، فالعلم هو علم أرسطو خصوصًا ما يفسر الطبيعة ويقدمها كنسقٍ فكريٍّ يرتاح له العقل البشري الذّي يبحث عن أسباب الظواهر وتفسيرها. كما أنَّ فهم النّاس للدّين يتطلب إعمال العقل، وبالتالي لابدَّ من التوفيق بين ما يشيده العقل من تصوراتٍ معقولةٍ، وما يأتي به النّقل من عقائدٍ وشرائعٍ قد يوجد في ظواهر نصوصها ما يتعارض مع العقل، فيفتح الباب أمام التأويل مع اختلاف التأويلات، وبالتالي يتطلب الحاجة إلى منطق، والحاجة إلى أرسطو
2-3 الفلسفة ليست للجميع
ليست الفلسفة في متناول الجميع، بل لمَنْ استطاع إليها سبيلاً، فقد ميزّ ابن رشد النّاس لثلاث فئاتٍ أو مراتبٍ طبقًا للقدرة على الإدراك والتعقل وهم
أ- فئة الفلاسفة/البرهانيون
وهم الذّين لديهم القدرة والاستعداد على إدراك الأدلة البرهانيّة العقليّة، وذلك بفضل التربية والتدريب على متابعة البراهين في كلِّ تعقيداتها وتلافيفها، فهم وحدهم الذّين يصلوا إلى إدراك المعنى الباطني العميق للنّصوص الدّينيّة، ولذلك فهم لا يختلفون ولا ينقسمون إلى فرقٍ، لأنَّهم يدركون كلَّ التناقضات الموجودة في النّصوص الدّينيّة، ويتوصلون إلى حلها جميعًا، وذلك بفضل البرهان الفلسفي. كما يجب عليهم ألاَّ يكشفوا عن نتائج استدلالهم إلاَّ لأهل البرهان، كما يقول ابن رشد « يجب أن لا تُثْبَت التأويلات إلاَّ في كتب البراهين، لأنَّها إذا كانت في كتب البراهين لم يصل إليها إلاَّ مَنْ هو من أهل البرهان، أمّا إذا أثبتت في غير كتب البرهان، واُستعمل فيها الطرق الشّعريّة والخطابيّة أو الجدليّة… فخطأٌ على الشّرع والحكمة»
ب- فئة علماء الكلام/الجدليون
هم أقل مرتبة من فئة الفلاسفة وذلك لأنَّهم يدركون الأدلة الجدليّة والتناقضات بين العقل والنّصوص الدّينيّة، لكنهم عاجزون عن التوصل إلى حلٍ سليمٍ منطقيٍّ، لأنَّهم يفتقدون البرهان، فيتخبطوا في حلولٍ متنوعةٍ مختلفةٍ مضطربةٍ، لا يتفقون في ما بينهم بسبب تأويلاتهم المختلفة لنفس النّص وتشويههم للحقيقة، ولقد وصفهم ابن رشد قائلاً: « لا هم في هذه الأشياء اتبعوا ظواهر الشّرع فكانوا ممن سعادته ونجاته باتّباع الظّاهر، ولا هم أيضًا لحقوا بمرتبة أهل اليقين، فكانوا ممن سعادته في علوم اليقين، ولذلك ليسوا من العلماء، ولا هم من جمهور المؤمنين المصدقين»
ت- فئة الخطابيون/الجمهور
هم عامة النّاس الذّين لا يدركون إلاَّ الأدلة الخطابيّة، فيأخذوا النّصوص الدّينيّة بحرفيتها، ويقبلوا كلَّ ما فيها بلا نقاش أو جدال، حتّى لو كان خياليًا دون أن يعوا بالتناقضات الموجودة بينها وبين العقل، كما يوضح ابن رشد قائلاً: « إنَّ طباع النّاس متفاضلة في التصديق، فمنهم مَنْ يصدّق بالبرهان، ومنهم مَنْ يصدّق بالأقاويل الجدليّة تصديق صاحب البرهان إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم مَنْ يصدّق بالأقاويل الخطابيّة كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانيّة» ولعل أوضح مثال لابن رشد على تقسيمه ( مراتب النّاس) هو في كتابيه ( تهافت التهافت، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة). فإذا تفحصنا هذين الكتابين، سنجد فروقًا جوهريّةً بينهما. ففي الكتاب الأول نشعر أنَّه مكتوبٌ بطابع مُوجه لأهل الحكمة والبرهان، بينما في الكتاب الثّاني نجده يستخدم الطرق البسيطة الّتي في متناول فهم الجميع، كما يوضح ذلك بقوله: « فقد رأيتُ أن أفحص في هذا الكتاب عن الظاهر من العقائد الّتي قصد الشّرع حمل الجمهور عليها، وأتحرى في ذلك كلِّه مقصد الشّارع صلى الله عليه وسلم بحسب الجهد والاستطاعة»
2-4 دفاع ابن رشد عن الفلسفة
2-4-1 دفاعه ضد علماء الكلام
هاجم علماء الكلام دائمًا الفلاسفة، وقاموا بتحريمهم لأنَّهم خرجوا عن النّصوص الدّينيّة وأنكروها، إلاَّ أنَّ ابن رشد حوّل السّهام الّتي أطلقها علماء الكلام على الفلاسفة إليهم ثانيةً، فقد قال بأنَّ الفلسفة هي البحث عن معرفة حقيقة الله، فأذن مَنْ يحرّم الفلسفة يثني النّاس عن معرفة الله حق المعرفة بالعقل، ويصدهم عن « الباب الذّي دعا الشّرع من النّاس إلى معرفة الله» ، وبهذا يجب استبعاد علماء الكلام تمامًا عن ساحة الفكر والمجال الدّينيّ، حتّى تقوم الفلسفة بمحاولات توفيق مع الدّين. بينما عامة النّاس يظلوا على إيمانهم البسيط لفهم النّصوص الدّينيّة بحرفيتها للرّموز.
2-4-2 دفاعه ضد الإمام الغزالي
هاجم الإمام أبو حامد الغزالي الفلسفة والفلاسفة هجومًا عنيفًا لا حدَّ له، فأصدر كتابه الشّهير ( تهافت الفلاسفة) يهاجم فيه الفلاسفة اليونانيين أمثال سقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطو طاليس، كذلك مَنْ تبعهم من الفلاسفة المُسلمين حيث خالفهم في عشرين مسألة، وحكم عليهم بالبدعة في سبعة عشرة مسألة، وبالكفر في ثلاث مسائل هم (قدّم العالم، الله لا يعلم الأشياء الجزئيّة، إنكار بعث الأجساد وحشرها في الآخرة مكتفين بالبعث الرّوحانيّ وحده). فهذه المسائل الثّلاث تخالف العقيدة الإسلاميّة، وتستهين بحدود الشّرع وتهمل شعائره. أخذ فيلسوفنا ( ابن رشد) على عاتقه الدّفاع عن الفلسفة، مع العلم أنَّ فلسفته لم تكن دفاعيّة، ولكنه أراد أن يصحح الكثير من المفاهيم الخاطئة، كما صرّح بأنَّه لا خوف على الدّين من الفلسفة، فأصدر مؤلفه الشّهير ( تهافت التهافت) ردًا على مؤلف الغزالي ( تهافت الفلاسفة)، وذلك لمّا أحدثه كتاب الغزالي حيث قسمّ النّاس إلى قسمين: قسمٌ يهاجم الفلسفة، وقسمٌ آخر يناصرَّها ويعمل على تأويل الشّرع ليتفق مع العقل. وبالفعل استطاع ابن رشد أن يقوم بهذه المهمة خير قيام في ظل طابع حياة فكريّة في الأندلس تضطهد الفلاسفة و تتهمهم بالكفر والزّندقة، وتعتبرهم كالسّموم المنتشرة في الأبدان. كما دافع ابن رشد عن الفلاسفة القدماء دفاعه عن الفلسفة، حيث يرى مذهب الفلاسفة القدماء في « النّظر في الأشياء بحسب ما تقتضيه طبيعة البرهان» ، ويرد كلَّ الشّبهات الّتي تصيّد بها الإمام الغزالي الفلسفة والفلاسفة.
3- ارتباط الفلسفة بالدّين
الفلسفة خير صديق للدّين، لأنَّها وسيلة الإنسان لمعرفة حقيقة الله، وكلّ ما يحقق السّعادة الدّنيويّة وسعادة الآخر.
3-1 استخدام الفلسفة للتعبير عن الدّين ( التأويل المجازي)
حاول ابن رشد أن يقيم علاقة توافق بين الفلسفة والدّين، وذلك عن طريق التأويل المجازي؛ والذّي يعني استخراج المعنى الباطني العميق للدّين من المعنى الظّاهري الرّمزي، الذّي وُضع من أجل عامة النّاس. وكما يوضحه ابن رشد قائلاً: « ومعنى التأويل، هو: إخراج دلالة اللّفظ من الدّلالة الحقيقيّة إلى الدّلالة المجازيّة، من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسميّة الشّيء بشبيهه، أو سببه، أو لاحقة أو مقارنة، أو غير ذلك من الأشياء الّتي عُددّت في تعريف أصناف الكلام المجازي» ، وقد وضع ابن رشد قواعد للتأويل لابدَّ من اتّباعها وهي:
أ) تحديد النّصوص الّتي يجب أن تؤول
ميزّ ابن رشد النّصوص الدّينيّة من حيث التأويل إلى:
– نصوص دينيّة لا يجوز تأويلها؛ لأنَّها تتعلق بمسائل يعجز العقل البشري إدراكها، مثل الأمور المُتعلقة بأصول الدّين: البعث والحساب، الإقرار بالله، السّعادة الأخرويّة. ويعدّ تأويلها كفرًا.
– نصوص دينيّة يجب تأويلها؛ لأنَّ الأخذ بظاهرها يعدُّ كفرًا.
– نصوص تقع بين النّوعين السّابقين؛ البعض يرى تأويلها، والبعض الآخر يرى عدم تأويلها. كما يقول ابن رشد: « ها هنا صنفٌ ثالثٌ من الشّرع متردد بين هذين الصنفين يقع فيه شكٌ فيلحقه قومٌ ممن يتعاطي النّظر بالظّاهر الذّي لا يجوز تأويله، ويلحقه آخرون بالباطن الذّي لا يجوز حمله على الظّاهر للعلماء»
ت) تحديد من له الأحقيّة للتأويل
يرى ابن رشد أنَّ الفلاسفة هم مَنْ لهم الأحقيّة للتأويل، فهم قادرون على إدراك العقل البرهانيّ، ومَنْ يحاول التأويل غيرهم يكون كافرًا.
ث) تحديد أُولئك الذّين يُكشف لهم عن نتائج التأويل
على الفلاسفة ألاَّ يكشفوا عن الحقائق الفلسفيّة الباطنيّة المُستترة وراء المعنى الظّاهري للنّص الدّينيّ إلاَّ لأهل البرهان. ولو كشفوا عنها لغير أهل البرهان لكفروا، حيث القى ابن رشد اللّوم على الغزالي والمتكلمين من الأشاعرة أو المعتزلة، لأنَّهم اثبتوا التأويل في مؤلفاتهم، وقد ذاعت هذه المؤلفات بين العامة فتسببت في الحرب والنّزعات ويمكننا أن نطرح التساؤل الآتي: ماذا لو جاء التأويل بحقيقة غير الحقيقة الدّينيّة، أيُّهما نقبل ؟ بكلِّ وضوحٍ يؤكد ابن رشد أنَّ الحقيقة الفلسفيّة إذا ما تعارضت مع النّص الدّينيِّ يجب التخلّي عنها. ولعلّ لم تظهر حالةٌ واحدةٌ يتعرض فيها ابن رشد لهذا الموقف. فالبرغم من كون الفلسفة لدى ابن رشد أعلى نمط من أنماط الإنسانيّة إلاَّ أن كتاباته الشّخصيّة لم تُعارض أبدًا مفاهيم العقائد الإسلاميّة. فهناك حقيقةٌ واحدةٌ تتمثل في تعابيرٍ مختلفةٍ، فلم يقل أبدًا بـ« حقيقتين متناقضتين» أو « الحقيقة المزدوجة». حقيقةٌ واحدةٌ لها تعبيران، تعبيرٌ فلسفيٌّ وآخر دينيٌّ، فهما وجهان لعملةٍ واحدةٍ. وقد دعى ابن رشد للاستعانة بما قاله الفلاسفة السّابقين حتّى ولو كانوا بلا دين، كما ردَّ على مَنْ قال بأنَّ الفلسفة تؤدي للكفر بأنَّ السّبب ليس في الفلسفة، ولكن في مَنْ يتناول الفلسفة، وضرب مثالاً على ذلك بمَنْ يموت بسبب شرقة الماء، ليس الماء هو سبب الوفاة، ولكن حدوث أمرٌ عارضٌ عند شربه هو الذّي أدى إلى الوفاة.
3-2 بعض التساؤلات حول علاقة الفلسفة بالدّين
هناك بعض التساؤلات الّتي يمكن طرحها حول علاقة الفلسفة بالدّين عند ابن رشد مثل:
س1 لماذا يجب إخضاع الدّين للعقل ؟
س2 هل حدد ابن رشد معاني الدّين مقدمًا وفقًا للفلسفة، وأوجدها فيه بالتأويل ؟
س3 هل يقول الدّين دائمًا بنفس الحقائق الّتي تنادي بها الفلسفة اليونانيّة ؟
س4 هل الفلسفة عند ابن رشد هي معيار ٌ للحكم على الدّين ؟
س5 هل للفلسفة دينٌ مختلفٌ عن الإسلام ؟
وفي محاولة منّا لمناقشة هذه التساؤلات يمكن أن نطرح الآتي:
– يرى ابن رشد أنَّ العقل هبةٌ من الله كما هو حال الشّريعة (الدّين)، ولذلك فهما متفقان، فالحكمة هي الأخت الرّضيع للشّريعة، كما يذكر ابن رشد: « فإنَّنا معشر المُسلمين نعلم على القطع أنَّه لا يؤدي النّظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشّرع، فإنَّ الحقَّ لا يضاد الحقَّ، بل يوافقه ويشهد له (مبدأ وحدة الحقيقة)»
– إنَّ الشّريعة ليست مبنيّةً على الوحي فقط، بل على العقل أيضًا « إنَّ الشّرائع هي الصنائع الضروريّة المدنيّة الّتي تأخذ مبادئها من العقل والشّرع ولا سيما ما كان منها عامًا لجميع الشّرائع، وإنْ اختلفت في ذلك بالأقل والأكثر»
– قد يُوحى بأنَّ ابن رشد يعتقد أنَّ للفلاسفة دينٌ مختلفٌ هو دين العقل، فشريعة الفلاسفة هي العقل الذّي يبحث عن الله، وهذا خير عبادة لله عز وجل. وكما يذكر ابن رشد في كتاب ( ما وراء الطبيعة) « إنَّ الدّين الخاص بالفلاسفة لهو درس الوجود والكائنات. ذلك أنَّ أشرف عبادة تقدم لله تعالى هي معرفة مخلوقاته ومصنوعاته لأنَّ ذلك بمثابة معرفته. وهذا أشرف الأعمال الّتي يرضى الله عنها…»
• خاتمة
يوّضح لنا ابن رشد أنَّ الفلسفة هي وسيلة المعرفة الحقيقيّة لله، فهي لا تستطيع أن تدرك الله إدراكًا تامًا، ولكنها تسعى لمعرفة الله ولذلك فهي واجبة بالشّرع. كما يعتبر الفلسفة الّتي يأمر بها الله هي فلسفة أرسطو، الّتي تمثل نتاج العقل البشري. كما يؤكد ابن رشد أنَّ الفلسفة إذا تعارضت مع الدّين، فيجب التخلي عنها، وإنَّ الحقيقة واحدةٌ لها تعبيران: تعبيرٌ فلسفيٌّ، وآخر دينيٌّ، فهما وجهان لعملةٍ واحدةٍ. إنَّ الفلسفة ليست في متناول الجميع، ولكنها مقتصرة على فئة الفلاسفة فقط، لأنَّ ابن رشد قد وضع النّاس في ثلاث مراتب هم الفلاسفة وعلماء الكلام والجمهور. كما دافع عن الفلسفة والفلاسفة ضد الإمام الغزالي وعلماء الكلام، فجاء كتابه ( تهافت التهافت) ردًا على كتاب الغزالي ( تهافت الفلاسفة). كما حاول أن يقوم بالتوفيق بين الفلسفة (العقل) والدّين، وذلك عن طريق التأويل المجازي؛ فقد ميزّ النّصوص الدّينيّة إلى نصوص يجب تأويلها، ونصوص يجوز تأويلها، ونصوص تقع بين النّوعين، مع توضيح من له أحقيّة التأويل ولمن.
• قائمة المصادر
* ابن رشد، تهافت التهافت، دار المعارف، القاهرة، 1964.
* ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشّريعة من الاتصال، المطبعة المحموديّة التجاريّة، القاهرة، 1935.
* ابن رشد، فلسفة ابن رشد، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1978.
* ابن رشد، مناهج الأدلة في عقائد الملة، تحقيق وتقديم محمود قاسم، د.ن، القاهرة، 1955.
• قائمة المراجع
* زينب محمد الخضيري، أثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى، مكتبة الأنجلو المصريّة، القاهرة، 1981.
* ماجد فخري، ابن رشد فيلسوف قرطبة، دار المشرق، بيروت، 19923 .
* محمد بيصار، في فلسفة ابن رشد الوجود والخلود، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1953.
* محمد عابد الجابري، ابن رشد سيرة وفكر دراسة ونصوص، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، 20003
* محمد عمارة، الماديّة والمثاليّة في فلسفة ابن رشد، دار المعارف، القاهرة، 1971.
* محمد يوسف مرسي، بين الدّين والفلسفة: في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط، دار المعارف، القاهرة، د.ت.