مقال للمطران كريكور اوغسطينوس كوسا بمناسبة اليوم العالمي للسلام
مقال بمناسبة اليوم العالمي للسلام ، ١ يناير ٢٠١٨
طوبى لصانعي السلام
في مطلع السنة الجديدة ٢٠١٨ ، وفي اليوم الأول من يناير يحتفل العالم بأجمعه بيوم السلام العالمي .
ترى ما الذي يحدو بالعالم لاتخاذ هذا الموقف ، ولإعلان يوم رأس السنة عيداً عالمياً للسلام ؟
الجواب في الأمر واضح ، وهو أننا مدعوون في هذا اليوم المبارك إلى أن نُسبح الله من أجل عطاياه ، ومن أجمل هذه العطايا ، نعمة الحياة التي هي عربون حُبه لخليقته وجبلة يديه . فنرى أنفسنا في هذه المناسبة متساوين أمام عظمة الله ومحبتهِ ، ونقر باخوًتنا ، متضامنين بالشكر لرب النعم والخيرات ، وبالحفاظ على ما أغدقه علينا من وافر عطاياه ونعمه وخيراته، فنعيش العيد ، ويعم الفرح ، ونذوق من جديد طعم المحبة والسلام .
وفي مثل هذا اليوم ، كما تعلمون ، تقوم الشركات والمؤسسات على أنواعها بعمل برنامج لتدقيق حساباتها ربحاً كان او خسارة ً. وفي نيتها كشف أوضاعها ، إن كانت سليمة لتزيد من ربحها ، أو مختلة ليبحثوا عن سبب الخسارة فيفكرون إلى تصحيح مسارها وأوضاعها . وهذا أيضا ما يقوم به النساك والرهبان والمؤمنون بالإجمال الملتزمون بدينهم فيعقدون الخلوات الروحية للنظر أمام الله والضمير إلى ما يجب عمله إنصياعاً لمشيئة الله . وما يجب التخلي عنه . فلا تنهش الخطيئة والأنانية والكبرياء حياتنا ، ونُجرَ ، لا سمح الله ، هبوطاً من الحياة إلى الموت بدلاً من أن نتقدم صعوداً إلى الحياة .
وفي تقليد فحص الضمير هذا ، وإجراء كشف الحسابات على أنواعها رأت الكنيسة ، الأم والمعلمة ، أن يتحول عيد رأس السنة إلى عيد للسلام في العالم ، أي إلى عيد نحاسب فيه أنفسنا فنبتعد عن الحروب والشرور ، وعن كل ما يهدد الحياة ويقتلها ، ونسير نحو السلام وبنائه في محيطنا ومجتمعنا ومنطقتنا والعالم .
الحرب ليست مهنتي ، يقول الله عند الفينيقيين، ولا عجب في هذا القول فإن ” الله محبة ” و من يعطي الحياة هبةً مجانية لبني البشر لا يريد لهم أن يرهقوها في سفك الدماء في الحروب بعضهم ضد بعض ، وفي التعديات القاتلة بكل أشكالها . لذلك يجب إعتبار الحروب وأعمال الإرهاب على أنواعها آفات إنسانية كبرى ، والبحث في أسبابها ومسبباتها وصولا إلى تلافيها وإلى نزعها من قاموس الحضارة وتاريخ الشعوب . ومن المعروف أن الحروب تأتي على نوعين : واحدٌ منها يرتبط بالحاجة المادية والتنازع عليها ، فهي على سبيل المثال حروب الماء والغذاء والنفط والغاز والأمداد الحيوية لشعب أو لجماعة .
أمَا النوع الآخر فيتعلق بصراع العقائد والأفكار ، وهي تُشن باسم الأديان والأديان منها براء أو باسم العقائد حيناً ، وهي بالنهاية محاولة للسيطرةِ والنفوذ وتهميش الآخر .
وما يتعلق بحروب الحاجة فإن خيرات الأرض ، هي لجميع ايناء الارض والوطن الواحد ليبقوا إخوة وأبناء لآب واحد خلقهم على صورته ومثاله . إذاً ، بدلاً من الحروب فيما بينهم ، على الناس أن يتضامنوا من أجل الحياة فيسيروا في مركب السلام فيصلوا معاً الى غاياته المنشودة .
أما عن حروب العقائد ، فالإيمان الصحيح يعَلم أنها مرفوضة من الله قبل الناس . فالدين لا يأمر بالقتل ، ولو ظهرت في التاريخ حروب دفاعية . والله يأمر بالحب والصفح والمسامحة والمصالحة ويدعونا إلى أن نعامل بعضنا بعضا بالحسنى ، وليس بالكراهية ولا بروح الاستكبار والاستئثار .
في رأس السنة تُرفض الحروب على أنواعها ، ونقول : ” لا للحرب ” ونسأل الله أن يبعد عنا شرور النزاعات ، وأن ينجينا منها ، وأن نسعى في إثر السلام والمصالحة فنزداد إيماناً بالحوار والتفاهم وبحل المشاكل بغير وسائل العنف ، وتغليب حب الحياة على نزعة الموت فلا يجحد أحد بنعمة ربه ولا يتنكَر لها .
في رأس السنة نجري الحسابات ونسأل عما نصنعه لوطننا ، خيرا كان أم شراً، أفليس علينا واجب ضميري لإقامة السلام ونبذ العنف القاتل في ما بيننا ونحن أخوة نعيش في بيت واحد ونأوي تحت سماء واحدة ؟
هذا اليوم هو بمثابة دعوة لنا ونحن نتمناها فسحة أمل للتفكير في أمورنا ولبحث هادىء ومحب يقوم بين المواطنين لترتيب شؤون وطنهم بروح لا يمكن ان تكون إلا إيجابية . وفي المناسبة تلفت إلى كون كل منا شريكاً أساسياً في تكوين هذا الوطن . فنصارح بعضنا ضمن الثقة والمودة والاحترام المتبادل كشرط أساسي وجوهري من شروط النجاح في هذا المسعى ، وفي إنقاذ وطننا المشترك من الضياع . ولا نتكلم مع بعضنا كمسلمين ومسيحيين وكأننا أصبحنا موضوع جدال أحدنا تجاه الآخر ، بل كمواطنيين لوطن واحد لهم نفس الحقوق ونفس الواجبات تجاه وطن صار فوقنا جَميعاً . وصار يعبر عن ذاتنا الكبرى وكياننا الجامع . كما صار مع التاريخ قدرنا وفخرنا وموضوع حسابنا امام الله وامام المستقبل . سنة جديدة تحمل إليكم المصالحة الحقيقية والتوافق
إن أوطاننا عزيزة علينا جَميعاً وقد كلفتنا مئات السنين لتكوينها وبنائها وقد أعاننا الله في ذلك . ألاعززوا أوطانكم أيها ألإخوة ، وصونوا الشراكة فيه لأنها شرط ثبات الوطن واستمراره في الرسالة التي يحملها امام العالم ومن أجلها . إنكم جَميعاً وطنيون أصفياء ، فخذوا الوقت لتستمعوا لبعضكم إلى بعض بالمودة والقصد الحسن . وإنكم لواجدون كل في الآخر ما يثبت في الغد هناء الماضي والمجال المفتوح لجعل بلادنا وأوطاننا مصدر اعتزاز دائم لكم ، ومحط أنظار وإنتظار لإخوتكم وأصدقائكم في العالم أجمع . وعلى هذا الرجاء نتمنى لكم يا ابناء وطني ، سنةً جديدةً تحمل إليكم المصالحة الحقيقية والتوافق الكامل في كل أمر يعيد لكم بهاء وطنكم ومجده .
وليعيد الله عليكم هذه السنة الجديدة و هذا العيد ، عيد السلام ، بالمحبة والوئام ساكباً عليكم فيضاً سخياً من نعمه وبركاته ، وكل عام وانتم بخير .
المطران كريكور أوغسطينوس كوسا
أسقف الإسكندرية للأرمن الكاثوليك