مميِّزات كريستولوجيّا الصفيّ بن العسّال (قرن13)- بقلم الأخ/ وديع الفرنسيسكانيّ
مميِّزات كريستولوجيّا الصفيّ بن العسّال (قرن13)- بقلم الأخ/ وديع الفرنسيسكانيّ
الحديث عن «مميِّزات كريستولوجيّا الصفيّ بن العسّال (قرن13)» يعيدنا إلى رسالة الدكتوراه (يُشار إليها بعد ذلك بكلمة «الرسالة»، التي قدّمناها إلى المعهد الحبريّ الشرقيّ Pontificium Institutum Orientale بروما، تحت عنوان «الصفيّ بن العسّال (قرن13) وفكره الكريستولوجيكيّ»
Al-Safi Ibn al- ‘Assal e il suo pensiero cristologico, Roma, marzo 1985, XXX+382 p.
ودافعنا عنها في الأوّل مِن يونيو سنة 1985. وتتكوّن الرسالة مِن ثمانية فصول موزَّعة على قسمَين. ويضمّ القسم الأوّل ثلاثة فصول تدور حول شخص الصفيّ، وكتاباته، ودفاعه. ويضمّ الثاني خمسةَ فصول تدور حول فكر الصفيّ الكريستولوجيكيّ الخاصّ ببشريّة المسيح، وبإلهيّته، وباتّحاد الطبيعتين فيه، وبالخلاص الذي أتمّه المسيح، وبمميّزات كريستولوجيّا الصفيّ.
وقد طُبِعت مِن «الرسالة» الفصول: الأوّل والثاني، والقسم الأوّل مِن الثالث، والسادس، والسابع، وظلّت باقي الأبواب حبيسة المجلّد الذي يحوي «الرسالة». وهوذا عناوين الأبواب المطبوعة:
“L’apologétique d’al-Safi Ibn al- ‘Assal”, Actes du deuxième congrès international d’études arabes chrétiennes. Edités par Khalil SAMIR (Orientalia Christiana Analecta, 226), Roma, 1986, p.183-188.
هذه المقالة هي ترجمة مختصرة للقسم الأوّل مِن الفصل الثالث مِن «الرسالة»، التي كانت في طور الإعداد في ذلك الوقت، وهو القسم الخاصّ بأسلوب الصفيّ الدفاعيّ، أو الأبولوجيتيكيّ.
“Vita e opera del pensatore copto al-Safi Ibn al- ‘Assal (sec. XIII)”. Studia Orientalia Christiana Collectanea (SOCC) 20 (1987), p. 119-161.
تشمل هذه المقالة الفصلَين الأوّل والثاني مِن «الرسالة»، الخاصّين بحياة الصفيّ وكتاباته.
“Al-Safi Ibn al- ‘Assal e il suo pensiero cristologico”, extrait de (SOCC) 21 (1988), p. 1-79.
تشمل هذه المقالة مقدّمة «الرسالة»، والمختصرات، والمراجع، والفصل السادس الخاصّ بالاتّحاد بين الإلهيّة والإنسانيّة في المسيح، وفهرس «الرسالة» العامّ.
وقد ظهرت نفس المقالة، بدون الفهرس العامّ، تحت عنوان:
“L’unione ipostatica in Cristo negli scritti del Teologo copto al-Safi Ibn al- ‘Assal (sec. XIII)”, SOCC 21 (1988), p. 5-71.
“La soteriologia di al-Safi Ibn al- ‘Assal (sec. XIII)”, SOCC 25 (1995), p. 197-216.
تشمل هذه المقالة الفصلَ السابع مِن «الرسالة»، وهو الخاصّ بفكرة الخلاص في كتابات الصفيّ. إلى هذه المقالات، يجب إضافة مقالة لنا نُشرت في بداية إقامتنا بالمركز الفرنسيسكانيّ للدراسات الشرقيّة المسيحيّة بالموسكي/ القاهرة، وتضمّ كلّ ما أمكن العثور عليه مِن مراجع عن أولاد العسّال، وهي مجموعة مِن المراجع أوسع من تلك التي وردت في «الرسالة»، والتي نُشِرت مع الفصل السادس. وعنوان المقالة هو:
“Bibliografia commentata sugli Aulad al- ‘Assal”, SOCC 18 (1985), p.31-79.
وبسبب صعوبة تقديم فكر الصفيّ عن المسيح، بالتفصيل، وهو فكر عرضناه في قرابة 200 صفحة في «الرسالة»، نقدّم ترجمة حرّة للفصل الثامن الخاصّ بمميِّزات كريستولوجيّا الصفيّ (ص361-373 في «الرسالة»)، وهو فصل يُعتَبَر كتقويم وتلخيص لفكر الصفيّ عن المسيح.
وقبل الدخول في الموضوع نعرض الطبعات والمخطوطات لمؤلَّفات الصفيّ، التي نعتمد عليها في عرض فكره الكريستولوجيكيّ:
1) «الصحائح في جواب النصائح تصنيف الشمّاس المكرَّم الجليل الشيخ الصفيّ ابن الشيخ فخر الدولة أبي الفضل ابن العسّال»، طُبِع على نفقة مرقس جرجس، القاهرة، 1643ش [1926/1927].
«الفصول الثلاثة الأولى مِن كتاب ”الصحائح في جواب النصائح“ للصفيّ بن العسّال». نشرة نقديّة مسبوقة بدراسة عن حياة وكتابات وأثر المؤلِّف، رسالة ليسانس مقدَّمة مِن الطالب الأخ وديع الفرنسيسكانيّ، روما 1983 (غير مطبوعة).
2) «نهج السبيل في تخجيل محرِّفي الإنجيل تصنيف الشمّاس المكرَّم الجليل الشيخ الصفيّ أبي الفضائل ابن الشيخ فخر الدولة أبي الفضل المعروف بابن العسّال تغمّده الله برحمته ردّ به على الكتاب المؤما إليه تأليف الفقيه نقيّ [تقيّ] الدين وعلى مختصره ولهذا النابغة ردود أخرى منها على الناشئ ومنها على كتاب نهاية العقول وله كتاب بهذا المعنى اسمه مختصر كتاب الأربعين ولم نقف على شيء مِن ذلك بعد»، طُبِع على نفقة مرقس جرجس، القاهرة، 1643ش[1926/1927] (في مجلّد واحد مع الكتاب السابق).
وبسبب عدم أمانة وصحّة طبعة مرقس جرجس اعتمدنا كذلك على مخطوطات الكتابين، وهي:
مينشن (ميونِخ/ ألمانيا)، المكتبة الوطنيّة، عربي 948، ورقة أ-د، 13جـ-40ظ («الصحائح»: تكملة الفهرس والبداية-فصل 4)؛ ورقة 41جـ-50ظ («نهج السبيل»: القسم الثاني مِن القاعدة الرابعة).
ويتكامل نصّ الكتابين في هذا المخطوط مع مخطوطَي الفاتيكان 33و159، ممّا يدفع إلى الظنّ أنّ المخطوط جرى تقطيعه وبيعه لثلاثة مشترين مختلفين، وهذا غير نادر الحدوث في تجارة المخطوطات. وقد أمكن بالحصول على صور للمخطوطات الثلاثة إعادة بناء الكتابين:
الفاتيكان، المكتبة الرسوليّة، عربيّ 33، ورقة 88ظ «الصحائح»: الصفحة الأولى مِن الفهرس؛ 89جـ-151جـ («الصحائح»: فصل5-النهاية)؛ ورقة 151ظ-205ظ («نهج السبيل»: المقدّمة والقواعد الثلاثة الأولى والقسم الأوّل مِن القاعدة الرابعة)؛ 151ظ-153جـ («نهج السبيل»: الفهرس).
الفاتيكان، المكتبة الرسوليّة، عربيّ 159، ورقة 29جـ-53جـ («نهج السبيل»: القسم الثالث مِن القاعدة الرابعة والقاعدة الخامسة).
الفاتيكان، المكتبة الرسوليّة، عربيّ 38، ورقة 1ظ-118ظ («الصحائح»؛ ورقة 118ظ-125ظ «جواب فخر الدين»).
3) «جواب الناشئ». تحقيق سمير خليل (غير مطبوع بعد).
4) «فصول مختصَرة في التثليث والاتِّحاد». إعادة تحقيق سمير خليل، «صديق الكاهن» 48 (1977)، ص106-111، 153-160، 208-214؛ 49 (1978)، ص43-46، 113-119.
وقد جرت إعادة نشر النصّ مع مقدّمة وترجمة في:
Brefs Chapitres sur la Trinité et l’Incarnation. Introduction,texte arabe et traduction avec un index-lexique exhaustif par SAMIR Khalil (Patrologia Orientalis, 192), Turnhout, 1985.
5) «جواب فخر الدين»، وارد أيضاً في كتاب المؤتمن، «سلك الفصول في مختصر الأصول تأليف الشيخ اسحق بن العسّال. نشر حنّا الله اسكاروس ونعوم بنيامين، [القاهرة]، 1900، ص120-125.
«جواب فخر الدين»، وارد أيضاً في كتاب المؤتمن بن العسّال، «مجموع أصول الدين ومسموع محصول اليقين»، المجلّد الثاني، باب 40، تحقيق الأخ وديع الفرنسيسكانيّ (دراسات شرقيّة مسيحيّة، أبحاث مفردة، 7)، القاهرة-القدس، 1999، ص142-150: عنوان الباب «الشكوك الواردة مِن الإمام فخر الدين بن الخطيب (رحمه الله) على الاتّحاد وجواب الأخ الفاضل الصفيّ (رحمه الله) عنه».
مقدّمة
يدفعنا الحديث عن «مميِّزات كريستولوجيّا الصفيّ» إلى التعرُّض للجوانب الإيجابيّة والجوانب السلبيّة في فكره، وإلى مدحه، ونقده. وهنا نكرِّر بعض الملحوظات التي جرى التعبير عنها في ثنايا «الرسالة»، ونقدِّم ملحوظات جديدة.
أ) كريستولوجيّا أبولوجيتيكيّة (دفاعيّة)
عن أسلوب الصفيّ الأبولوجيتيكيّ (الدفاعيّ) تحدَّثنا في الفصل الثالث مِن «الرسالة» (أرقام 54-78)، وهو القسم الذي نُشِر كمقالة سنة 1986. وهنا نكتفي بعرض بعض النتائج للميزة الدفاعيّة لكريستولوجيّا الصفيّ.
أوّل نتيجة لأيّة كريستولوجيّا أبولوجيتيكيّة هي صعوبة أنْ تكون كريستولوجيّا سيستيماتيكيّة، أيّ كريستولوجيّا منظّمة ومرتَّبة. في المؤلّفات الدفاعية، يسير المدافع على إثر خطى المهاجم، لكيّ يفنِّد أفكاره. وهذا يعني أنّنا لا نجد في الكريستولوجيّا الأبولوجيتيكيّة مختلف مكوِّنات الكريستولوجيّا النظاميّة، وإنْ كانت كريستولوجيّا الصفيّ تتميّز بالثراء (كما سنتحدَّث في عنوان د). هذا يعني أيضاً أنّ المدافع قد يكرِّر بعض الأفكار، في نفس المؤلَّف، أو في اكثر من مؤلَّف، وأحياناً يناقض ما يقوله في مكان آخر.
أمّا ما يخصّ الصفيّ فقد عرف كيف يتجنّب التكرار الحرفيّ. هناك حالة واحدة كرَّر فيها الصفيّ نصاً في «الصحائح» (فصل2، مرقس جرجس، ص24-25؛ الأخ وديع، رقم 2/326-329)، وفي «فصول مختصَرة» (سمير خليل، رقم 9/20-23). والنصّ هو:
«وطريق أخرى، ليست نظريّة، وهي اليقين الحاصل مِن الرياضة وتصفية الباطِن. وقد شهدت الآباء الواصلون في هذه الطريق، إلى أقصاها، بصحّة المسيحيّة وحدها. ودليله بلوغهم بها إلى الاتِّحاد بالله، حتّى ظهرت منهم آثاره؛ وثبوتهم فيها؛ وتمسُّكهم بها، حتّى بذلوا ذواتهم دون مفارقتها، وفي طاعتها».
وهناك نصّ آخر مكرَّر مع تغيير ترتيب الكلمات، في «نهج السبيل» (القاعدة الأولى، مرقس جرجس، ص3، 42). والنصّ الأوّل هو: «قلنا: قبل الاتِّحاد لم يكن المسيح»؛ والثاني: «قلنا: لم يكن المسيح قبل الاتِّحاد».
وبخصوص التناقض، يؤكّد الصفيّ، مرّة، في «فصول مختصَرة» (سمير خليل، رقم 8/6، 9) أنّ المسيح له مشيئة واحدة: «إنّه واحد مِن كلّ وجه […] والمشيئة. له مشيئة واحدة وفِِعل واحد». ولكن في مؤلَّفات أخرى يؤكّد أنّ المسيح، لكونه أيضاً إنساناً تامّ الإنسانيّة له إرادة غريزيّة مختلفة عن الإرادة الإلهيّة، ولكن ليست متعارضة معها. وترد هذه التأكيدات في «نهج السبيل» (القاعدة الثالثة، مرقس جرجس، ص45؛ فاتيكان عربيّ 33، ورقة 182ظ-183جـ). وهوذا النصّ:
«قلنا: بما هو به مِن جوهر أبيه، إرادتهما واحدة. وأمّا ناسوته، فإرادته الغريزيّة غير إرادة لاهوته القديمة، وإنْ كانتا، بالاتِّحاد، قد صار مرادهما واحداً. فلا يريد أحدهما غير ما يريده المتَّحِد به. وقد ذكرنا مقصود القول، وليس في القول ما يدلّ على المغايرة بين الإرادتين، أعني المغايرة بمعنى المخالفة، لا المغايرة في نفس الشيء؛ فما قال: إنّي أريد أنْ تعبر عنّي هذه الكأس، وأنت لا تريد هذا. ولا تلزم هذه المغايرة في المراد ممّا قاله».
وبخصوص هذا الأمر، ترد كذلك تأكيداتٌ أوضح في «حواشي» الصفيّ على ردود يحيى بن عديّ علي هارون الورّاق (فاتيكان عربيّ 115، ورقة 109ظ، 111جـ-ظ، 112جـ-113جـ، 114ظ، 115ظ-116ظ. وقد أدرج المؤتمن هذه «الحواشي» في «مجموع أصول الدين»، ج2، باب44، وديع، ص197). وأهمّ تأكيد هنا هو قول الصفيّ: «على أنّ الناسوت تامّ، وإنسان لا مشيئة له غير تامّ في الإنسانيّة».
غير أنّ النتيجة الأكثر خطورة، لأيّة كريستولوجيّا دفاعيّة، أقلّه كما هو الحال عند الصفيّ، هو صعوبة الوصول إلى معرفة واضحة لفكر المؤلِّف، حول مسألة ما، بدون القيام ببحث متأنّي وعميق. وللوصول إلى هذا، أثناء المراحل الأولى مِن العمل في «الرسالة»، قمنا بقراءة مؤلَّفات الصفيّ، ونقْلها كلّها على بطاقات، تحوي البطاقة الواحدة نصّاً واحداً، ثمّ رُتِّبَت البطاقات تحت عناوين أساسيّة هي: الكريستولوجيّا، الثالوث، المريولوجيّا، الكتاب المقدَّس، الإسلام، الخ. ثمّ رُتِّبَت المواضيع الأساسيّة إلى مواضيع فرعيّة. وفضلاً عن الاستفادة مِن البطاقات في عرض فكر الصفيّ، فقد دخل مضمونها في القسم الثاني من الفصل الثالث من «الرسالة». على العكس من ذلك، فإنّ قراءة بسيطة وسريعة لمؤلَّفات الصفيّ يمكن أنْ تقود إلى الخروج بنتائج خاطئة؛ ففي «الصحائح»، و «نهج السبيل» يعالج الصفيّ، أحياناً، عدّة موضوعات، في صفحة واحدة. ولذا قد يشعر القارئ غير الصبور بالضياع، وسرعان ما يتوقّف عن القراءة؛ ولاسيّما أنّ الكتابين المطبوعين على نفقة مرقس جرجس يخلوان من العناوين والتقسيمات، وفي كثير من الأماكن يحرِّف الناشر فكر الصفيّ، لغرض في نفسه، ولعدم اعتماده على مخطوطات جيّدة.
وحيث إنّ كريستولوجيّا الصفيّ غير سيستيماتيكيّة (نظامية) قمنا في عملنا بتوزيع تأكيدات المؤلِّف هنا وهناك حسب الطلب، وقد استنفذ هذا العمل أكثر الجهد ولم يسمح بالقيام بتحليلات كثيرة لفكر المؤلِّف، وغلب الطابع العرضيّ على الطابع التحليليّ.
ب) كريستولوجيّا بِبليكيّة (وكتابيّة)
لا يمكن الحديث عن يسوع المسيح، بدون العودة إلى الكتاب المقدَّس، ولاسيّما إلى العهد الجديد. كلّ كريستولوجيّا هي داخليّاً وجوهرياً بِبليكيّة (كتابيّة). ولا يختلف المسيحيون حول ذلك. أمّا ما يمكن الاختلاف حوله هو مقدار الاستناد على الكتاب المقدَّس، وطريقة تفسير آياته. أمّا في ما يخصّ الصفيّ، فإنّه عاش في بيئة دينيّة وثقافيّة يحتلّ فيها الكتاب مكان الصدارة، وهو محكّ كلّ شيء. وقد ترك هذا أثراً على فكره.
يُظهِر الصفيّ، في كتاباته، معرفةً واسعة بالكتاب المقدَّس، وقد يعود هذا إلى إطّلاعه على تفاسير الأسفار المقدَّسة للقدِّيس يوحنّا فم الذهب، وقد أعدّ الصفيّ مختصرات لعظات هذا القدِّيس على إنجيلي متّى ويوحنّا، وأعدّ كذلك مختصرات لمقالات يحيى بن عديّ البغداديّ السريانيّ الكتابيّة، وقرأ تفسير الأناجيل الأربعة لعبد الله بن الطيّب العراقيّ النِستوريانيّ. يذكر الصفيّ ويشير إلى عدد كبير جداً من الآيات الكتابيّة. ويبدو حديثه، أحياناً، كسلسلة طويلة من الآيات المذكورة حرفياً، أو بالمعنى (انظر »جواب الناشئ«، سمير خليل، رقم 2/4-50، 73-143؛ »الصحائح«، مرقس جرجس، فصل3، ص31-33؛ وديع، رقم 3/35-77). تمثِّل معرفة الكتاب المقدَّس جانباً إيجابياً لكريستولوجيّا الصفيّ، الذي يظهر ألفةً كبيرة مع النصوص المقدَّسة، ولكثير من التأكيدات، يجد النصّ الكتابيّ المناسب (انظر »نهج السبيل«، القاعدة الرابعة، مرقس جرجس، ص 97-98؛ فاتيكان عربيّ 159، ورقة 33ظ-34ظ؛ »الصحائح«، فصل 11، مرقس جرجس ص95-96؛ فاتيكان عربيّ33، ورقة 129جـ-ظ؛ 38،ورقة 86جـ-87جـ). وإذا فكّرنا أنّ كاتبنا لم تكن لديه كلّ الوسائل البحثيّة، التي نعرفها اليوم مثل الفهارس والموسوعات، تظهر سعة معرفته للكتب المقدَّسة. ربّما كان يحفظ عن ظهر قلب جزءاً كبيراً من العهد الجديد، وأجزاءً من العهد القديم.
نعتقد أنّ الصفيّ، عندما كان يضع مؤلَّفاته، لم يكن يحتفظ أمامه بالكتاب المقدَّس، بل كان يعتمد على ذاكرته. وكبرهان على هذا نقول إنّه لا يذكر تقريباً أبداً الشاهد المحدَّد للنصوص الكتابيّة، التي يدرجها في كتبه. ويكتفي أحياناً بالقول: »قال العهد القديم، العهد الجديد، الرسل، المرنِّم، الإنجيليّ، الخ (انظر »فصول مختصَرة«، سمير خليل، رقم 7/8، 9/3، 12/4-6، 12؛ »الصحائح«، وديع، رقم 2/45، 99-100، 105، 114- 115، 121، 127، 130، 140-145؛ »جواب الناشئ«، سمير خليل، رقم 2/109-194). وأحياناً يذكر الصفيّ، في جملة واحدة، أكثر من نصّ كتابيّ، باستعمال حرف العطف »و« (انظر »الصحائح«، وديع، رقم 2/127، حيث يورد مزمور 107/20و103/30: »وقد نطقت النبوءة الداوديّة بهذا الإرسال من قبل، قال: “أرسل كلمته فشفاهم”، و “وترسل روحك فيُخلقون”«؛ انظر كذلك »فصول مختصرة«، سمير خليل، رقم 10/8، حيث يذكر نصوصاً للرسولين بطرس وبولس مكتفياً بالكتابة: »قالت الرسل«). ويجعل هذا الأمر معرفة أماكن الآيات الكتابيّة في غاية الصعوبة، لمن لا ألفة كبيرة له مع الكتاب المقدس، وبالذات لعدم توفّر نشرات لترجمة الكتاب المقدَّس المستعمَلة في الكنيسة القبطيّة في العصر الوسيط. والفهارس المتداولة اليوم للكتاب المقدَّس تستند على ترجمات حديثة، ولذا لا تسعفنا كثيراً في عملنا. ومن المؤكَّد أنّ الصفيّ لم يستعمل ترجمة أخيه الشقيق، الأسعد، للأناجيل الأربعة، لأنّها لم تكن قد أعِدَّت بعد.
لقد قلنا إنّ معرفة الكتاب المقدَّس تمثِّل عنصراً إيجابياً لكريستولوجيّا الصفيّ. ولكن يتعيَّن أيضاً القول إنّها لا تخلو من جوانب سلبيّة. فضلاً عن ذِكر الكثير من النصوص الكتابيّة، بدون ذِكر لأماكنها في الكتاب المقدَّس، يورد الصفيّ أربع آيات بطريقة خاطئة، على الأقل من وجهة نظر الترجمات المتداولة اليوم بين أيدينا. في »ردّ الناشئ« (سمير خليل، رقم2/261-262) يذكر آيتين لإشعيا 50/10 و52/15 هكذا: »مَن هو الذي فيكم يخاف الربّ، فليسمع صوت ابنه«؛ »سأجعل ابني آيةً للأمم، وملكاً عليهم؛ ويؤمنون به، ويتوكَّلون عليه«. أمّا النصّان حسب الترجمة اليسوعيّة الحديثة (بيروت، دار المشرق، 1989) فهما: »مَن منكم يخاف الربّ، فليسمع صوت عبده«؛ »هكذا تنتفض أمَم كثيرة، وأمامه يسدّ الملوك أفواههم، لأنّهم رأوا ما لم يُخبروا به، وعاينوا ما لم يسمعوا به«. والنصّان الآخران المذكوران بشكل خاطئ هما مزمور 87/5 وناحوم 3/5، وهما يردان كالسابقين في كتاب »الردّ على الناشئ« (سمير خليل، رقم 3/47-49. وهكذا يوردهما الصفيّ: »وأمّا الأنبياء فداود (سمير خليل: فقد أوردنا) يقول: “إنسان وُلِد فيها، وهو العليّ الذي أسَّسها”. وناحوم يقول: “إنّ الربّ يأتي بصورتي، ولباسه مثل لباسي”«. وترد الآيتان في الترجمة البيروتيّة المذكورة هكذا: »أمّا صهيون فيُقال فيها: كلّ إنسان وُلِد فيها، والعليّ هو الذي ثبّتها«؛ »هاءنذا إليكِ، يقول ربّ القوّات فأرفع ذيول ثوبك على وجهكِ، وأري الأمم عورتكِ، والممالك هوانكِ وأقذفكِ بالأقذار، وأفضحكِ وأجعلكِ عبرةً«.
وهنا يجب جذب الانتباه إلى أنّ هذه الآيات ترد في كتاب »جواب الناشئ«، الذي لا نعرف له حتّى الآن إلاّ مخطوطة وحيدة، من القرن الثامن عشر، سقيمة، وتصعب قراءتها أحياناً. ويمكن تفسير هذه الآيات الخاطئة بورودها هكذا في مجموعات استخدمها الصفيّ، بدون أن يتحقَّق من سلامتها. ففي الواقع يكتب هو (سمير خليل، رقم 2/258): »إنّ ذلك موجود كثيراً في كُتُب الأنبياء، الثابتة بأيدي مَن ثبت بيده الإنجيل، وبيد مَن بقي على اليهوديّة إلى الآن. وقد مُيِّز منها هذا المعنى، وما يجري مجراه، في كُتُب مفردة، معروفة عند النصارى«. وربّما يورد الصفيّ بعض الآيات من هذه المجموعات، وربّما أيضاً يكون قد اعتمد على الذاكرة، التي لم تسعفه دائماً. ولكن يجب أن نقول إنّ الترجمة القبطيّة للكتاب المقدَّس بها بعض النصوص المختلفة عن الترجمات الأخرى. على كلٍّ، مهما كان السبب، فإنّ أربعة نصوص كتابيّة مذكورة بطريقة خاطئة، وسط عدد كبير جداً من النصوص الصحيحة، هي نسبة لا يجب أن تقلِّل من جديّة الصفيّ ومعرفته الواسعة بالكتاب المقدَّس.
ج) كريستولوجيّا اوكومينيكيّة (مسكونيّة)
يظهر المقصد الأوكومينيكيّ (المسكونيّ) للصفيّ، بوضوح، عندما يعرض مواقف المذاهب (الفِرَق) المسيحيّة الثلاثة، وهي (حسب تسمية العصر وتسميته هو كذلك): اليعاقبة، والملكيّة، والنساطرة. إنّه يذكر، في البداية، ما يجمع ويوحِّد هذه المذاهب الثلاثة؛ ثمّ يذكر ما يفرِّقها، ويقلِّل من أسباب الخلافات، التي يراها خلافات على المستوى اللفظيّ، أكثر منها خلافات جوهريّة.
يكتب في »فصول مختصَرة« (سمير خليل، رقم 8/1-5): »اعلم أنّ النصارى متَّفقون على ما تضمَّنه الإنجيل، والرسائل، والأمانة الجامعة، وعلى أنّ المسيح إله متأنِّس، وعلى وصفه بالإلهيّة والإنسانيّة وأوصافهما، كما ورد [في] الإنجيل، والرسائل، والأمانة. واختلفوا بعد ذلك في ألفاظ فلسفيّة«.
وترد نفس هذه الأفكار، بتعابير مشابهة في الفصل الثاني من »الصحائح« (فاتيكان 33، ورقة 128جـ؛ ورقة 85جـ-ظ؛ والنصّ ساقط من طبعة مرقس جرجس، وربّما عن قصد): »والفِرَق الثلاثة غير مختلفة في الإنجيل، والأمانة الجامعة، ولا خُلْف بينهم في شيء إلاّ في معاني ألفاظ قلائل فلسفيّة، مثل أنّ المسيح، المتَّفَق على أنّه واحد، هل هو جوهران أقنومان، أو جوهر واحد أقنوم واحد. وليس في هذا ما يُخْرِج الإنسان عن حقيقة المسيحيّة، الداعية إلى تكميل الإنسان، نفساً وجسماً، وهو اعتقاد ممّا في الإنجيل من توحيد الذات الإلهيّة، وتثليث أوصافها الشرعيّة، والعمل بمراد الله، إضماراً وإظهاراً«.
يُعتَبر هذان النصّان الوثيقة العظمى magna charta لمسكونيّة الصفيّ المسيحيّة. ولهذا المفكِّر نصّ طويل يدلّ على مسكونيّة شاملة بين الديانات والمذاهب الفلسفيّة والفكريّة المختلفة (»الصحائح«، فصل10، مرقس جرجس، ص83-87)، وقـد أعـاد سمير خليل نشره، تحـت عنـوان »اتِّفاق المتفلسفين والمتشـرِّعين، واختلافـم« “L’accord des religions monothéists
entre elles selon al-Safi Ibn al-‘Assal”, Revue de l’Orient Chrétien 36 .(1986), p. 206-229
وفي هذا المقال يعلن الأب سمير في البداية أنّه أعدّ نشرة نقديّة لكتاب الصفيّ، ولا نعرف إنْ كانت هذه النشرة قد رأت النور بعد. ولم يهتمّ الأب سمير بمصدر الصفيّ، في هذا النصّ، ونعتقد أنّنا توصّلنا إلى هذا المصدر. ويدافع الصفيّ عن إيمان المسيحيين في المسيح ضدّ هجمات الخصوم وتشويههم للمسيحية، ويقصد هو تكوين جبهة موحَّدة ضدّ هذه الهجمات، التي تستغلّ انقسامات المسيحيين بالذات، كسلاح ضدّهم. ولكن الصفيّ لا يتقاعس في الدفاع عن اعتقاد كنيسته القبطيّة، ولا يهمل إظهار ضعف موقف الملكيين، ولا ينسى نقد موقف النساطرة. في الكريستولوجيّا التي يقدِّمها الصفيّ، باستثناء نقاط قليلة، يرى كلُّ مسيحيّ إيمانَه غير منقوص. وفي هذا المجال المسكونيّ نقابل موقفاً شبيهاً بموقف الصفيّ، عند المفكِّر اليعقوبيّ السريانيّ، ابن المحرومة، الذي عاش بعد الصفيّ بوقت قصير. ويكمن هذا الموقف في أنْ يكون المدافِع متحدِّثاً باسم جميع المسيحيين، لا باسم مذهب واحد بعينه. يقول حبيب باشا، ناشر »حواشي ابن المحرومة على كتاب “تنقيح الأبحاث للملل الثلاث” لابن كمّونة«، (بيروت، 1984، ص39): »الواقع إنّ قراءة نصّ الحواشي لا تتيح معرفة مذهب صاحبها، وقد عمد في أسلوبه الدفاعيّ إلى الطريقة المتّبعة عموماً عند الكُتّاب المسيحيين آنذاك، في مناظرتهم مع غير المسيحيين، وهي اعتماد البراهين المشتركة بين جميع الفِرَق المسيحيّة، ومحايدة ما يُشْتمّ منه التزام مذهب معيَّن«) انظر نصّ أقوال ابن المحرومة ص195-196).
ويؤكِّد ألاّر نفسَ الشيء بخصوص يحيى بن عديّ اليعقوبيّ السريانيّ (انظرM. ALLARD, “Les Chétiens à Bagdad”, Arabica 9 (1962), p. 375-388, p.388 ).
ونجد أفضل نصّ في هذا المجال المسكونيّ عند العلامة اليعقوبيّ السريانيّ، مارغريغوريوس أبي الفرج بن العبريّ مفريان الشرق (1266-1286)، الذي يؤكِّد في كتاب »الحمامة، مختصر في ترويض النسّاك« (حقَّقه وعرّبه مار أغناطيوس زكّا الأوّل عيواص بطريرك السريان الأرثوذكس، طرابلس، المنشورات الجامعة، ص148): »وبعد دراستي هذا الموضوع، مدّةً كافية، وتأمُّلي فيه ملياً، تأكَّد لديّ أنّ خصام المسيحيين بعضهم مع بعض لا يستند إلى حقيقة، بل إلى ألفاظ فلسفيّة فقط؛ إذ إنّ جميعهم يؤمنون بأنّ سيِّدنا المسيح إله تامّ، وإنسان تامّ، بدون اختلاط الطبيعتين، ولا امتزاجهما، ولا بلبلتهما. أمّا نوع الاتِّحاد، فهذا يدعوه طبيعة، وذاك يسمِّيه أقنوماً، والآخر فرصوفاً (شخصاً). وإذ رأيت الشعوب المسيحيّة كافّةً، رغم اختلافها ظاهرياً، متَّفقة اتِّفاقاً لا يشوبه تغيير (أو شكّ)، لذلك استأصلت البغضة من أعماق قلبي، وأهملت الجدال العقائديّ مع الناس« (قابل ما يقوله نفس الكاتب في »منارة الأقداس«. تعريب مار ديونيسيوس بهنام ججاوي، حلب، دار ماردين، 1996، ص372-373). بعد هذه الجولة السريعة بين بعض النصوص المسكونيّة، نعود إلى الصفيّ، ونقول إنّ السبب الذي حدى به إلى مثل هذا الموقف هو إنّه مدافِع عن المسيحيّة، لا عن مذهب معيَّن، ضدّ مهاجم لا يفرِّق بين المسيحيين؛ وبإزاء هذا الهدف، تقلّ أهميّة مسألة الفوارق بين المسيحيين. وليس الصفيّ هو القبطيّ الوحيد الذي له هذا الهاجس المسكونيّ في عصره، فأخوه المؤتمن، في الباب الثامن من كتابه »مجموع أصول الدين« (المجلّد الأوّل، تحقيق الأخ وديع، ص163-220)، يورد نصوصاً مسكونيّة لأكثر من كاتب من الكنائس المختلفة.
وعلى النقيض من الصفيّ وأخيه المؤتمن، وغيرهما من الكُتّاب الذين ذكرناهم، هناك تيّار، في الكنيسة القبطيّة، اهتمّ بإظهار الخلافات والفوارق بين المسيحيين. وأبرز ممثِّلين لهذا الاتِّجاه هم: الأنبا سويرُس بن المقفَّع (قرن 10)، والأنبا ميخائيل مطران دمياط (قرن 12-13)، ويفوق الكلّ الأنبا بطرس أسقف مليج (قرن 12-13)، الذي في كتابه »الإشراق« (أو كما يدعوه أبو البركات، »مصباح الظلمة«، جـ1، القاهرة، مكتبة الكاروز، 1971، ص309: »بِدَع الطوائف« و »الفِرَق«) يركِّز الأضواء الساطعة على الفوارق بين المسيحيين، وعلى ما يراه كبدع في الكنائس الأخرى، حتّى تلك المتَّحدة في الإيمان مع الكنيسة القبطيّة، كالكنيستين السريانيّة والأرمينيّة. وهو يرى بدعاً حتّى في الفوارق الليتورجيكيّة وفي العادات والتقاليد المختلفة للشعوب. ولكن يجب أن نقول أنّ هذا الكاتب ينتهي حيث ابتدأ الصفيّ، أي أنّه يتبع الطريق العكسيّ، يبدأ بما يفرِّق، وينتهي بما يوحِّد (بخصوص الكُتَّاب الثلاثة، انظـر الأخ وديـع الفرنسيسـكانيّ “مقدّمة في الأدب العربيّ المسيحيّ للأقباط”، SOCC 29-30 (1996-1997), p. 441-492.
د) كريستولوجيّا غنيّة
لقد سبق وقلت إنّه في الكريستولوجيّا الدفاعيّة لا نجد كلّ مكوِّنات الكريستولوجيّا السيستيماتيكيّة. ورغم هذا التأكيد فإنّ كريستولوجيّا الصفيّ غنيّة. ونقصد بهذا القول إنّنا نجد عنده المكوِّنات الأساسيّة، إنْ لم تكن جميعها، لكريستولوجيّا نظاميّة.
فمثلاً عند الحديث عن بشريّة المسيح، يتحدَّث عن نسبته (سلسلة الآباء)، وعماده، والتجارب التي تعرَّض لها، وتعاليمه، وأعماله، وموته. وبخصوص إلهيّة المسيح، يدرس الصفيّ النبوّات عن المسيح، وبراهين إلهيّته، ولاسيّما المعجزات، وقيامته كأكبر برهان عليها. أمّا بخصوص الاتِّحاد بين البشريّة والإلهية، فهناك حديث واضح عن وحدة الشخص، التي لا تلغي الإنسانيّة. أخيراً عند الحديث عن الخلاص أو السوتريولوجيّا، ينظر الصفيّ إلى الخلاص من جميع جوانبه: خلاص من هموم الحياة، وخلاص من الخطيئة، وخلاص من الموت الأبديّ.
ويعود غنى كريستولوجيّا الصفيّ إلى تنوّع الأشخاص الذين يردّ عليهم. علي بن ربّان الطبريّ (توفيّ بعد 850) طبيب مسيحيّ جاحد، كتب ضدّ إلهيّة المسيح، وضدّ الاتّحاد والخلاص. الناشئ (توفيّ 906) من المعتزلة، كتب ضدّ إلهيّة المسيح والاتِّحاد. فخر الدين الرازيّ (توفيّ 1209) فيلسوف متكلّم، ومفسِّر وفقيه، كتب ضدّ الاتِّحاد. صالح الجعفريّ (توفيّ بعد 1239) فقيه، كتب ضدّ موت المسيح، وضدّ إلهيّته وضدّ الاتِّحاد والخلاص. كلّ هذا التنوّع في المواضيع، أدّى كنتيجة إلى غنى ردود الصفيّ.
ولكي نتحقَّق من غنى كريستولوجيّا الصفيّ يكفي أن نقارن بين ما يكتبه عن المسيح، وبين ما يكتبه أبرز المؤلِّفين العرب المسيحيين، كالنسطوريّين (النستوريانيين) عمّار البصريّ (انظر كتابَيه »البرهان« و »المسائل والأجوبة«. حقَّقه وقدَّم له ميشال الحايك، بيروت، دار المشرق، 1977)؛ وإيليّا مطران نصيبين (انظرEmmanuel-Karim DELLY, La Théologie d’Elie bar-Sénaya, Rome,1957)؛ والقبطيين الرشيد أبي الخير بن الطيِّب، وأبي البركات بن كبر. ومن النصوص المطبوعة الغنيّة بموضوعاتها مؤلَّفات: سويرُس بن المقفّع (ولا نعرف خلاصة مطبوعة عن فكره الكريستولوجيكيّ)، ويحيى بن عديّ (بخصوص المسيح عند هذا الكاتب انظر E. PLATTI, Yahya Ibn ‘Adi, théologien Chrétien et philosophe arabe, Sa Théologie de l’Incanation [Orientalia Lovaniensia Analecta, 14], Leuven, 1983)، والمؤتمن بن العسّال (انظر »مجموع أصول الدين«، المجلّد الثاني، الأبواب 20-47. تحقيق الأخ وديع الفرنسيسكانيّ، ص27-209)، وغريغوريوس بن العبريّ، الذي كتب بالسريانيّة، ولكن تُرجِم قديماً وحديثاً إلى اللغة العربيّة (الترجمة الحديثة تحت عنوان »منارة الأقداس«. عرّبه عـن السريانيّة مار ديونيسيوس بهنام ججاوي، حلب، دار ماردين، 1996). ولكن هؤلاء باستثناء يحيى بن عديّ وضعوا مؤلَّفاتهم بشـكل منتظم، ولم يكونوا مجبرين على اتّباع خطى خصم يردّون عليه. ومِن المعروف أنّ كتابات الصفيّ مع كتابات يحيى بن عديّ تكوّن القسم الأكبر من كريستولوجيّا المؤتمن.
هـ) كريستولوجيّا حاليّة ومعاصرة
إنّ الحديث عن حاليّة كريستولوجيّا، مكتوبة في القرن الثالث عشر، وفوق ذلك ذات طابع دفاعيّ، يمكن أنْ يثير العجب والمعارضة. ولكن عندما نفكِّر في مدى تغيّر عقليّة البيئة التي عاش فيها الصفيّ، بين الأمس واليوم، يزول العجب وتخفّ المعارضة. يردِّد علينا الخصوم، اليوم، ذات الاعتراضات التي درجوا عليها منذ القرن الثامن، بالطبع مع إضافة اعتراضات وبراهين جديدة أتاحها لهم خصوم المسيحيّة من الخارجين عليها. ومع ذلك لا نريد أنْ نجعل في هذا الأمر حاليّة كريستولوجيّا الصفيّ.
نعتبر كريستولوجيّا الصفيّ حاليّة لأنّ بعض مظاهر فكره يعطيها الفكر العقائديّ اليوم أهميّة أكبر. الفكر العقائديّ الحديث يقدِّم المسيح كنموذج للإنسانيّة وللإنسان الكامل، والصفيّ كذلك اهتمّ بهذا الأمر. يولي الفكر العقائديّ الحديث كذلك أهميّةً كبيرة لقيامة المسيح، من أجل فَهْم مسيانيّته وإلهيّته، وهذا المفهوم محبَّب جداً عند الصفيّ؛ فهو، في الواقع، يعتبر القيامة الأساس والختم الأخير لإيماننا في إلهيّة الكلمة المتجسِّد.
أخيراً، يحاول الفكر العقائديّ المعاصر أنْ يوسِّع أفُق السوتريولوجيّا (الخلاص)، بدون ربطه بموت المسيح فقط. وهذا ما يتمسّك به الصفيّ أيضاً، الذي يعتبر السوتريولوجيّا كخلاص من هموم الحياة، ومن الخطيئة، ومن الموت، ومن الحُكم، ومن الهلاك الأبديّ. فضلاً عن ذلك، فحسب الصفيّ، يخلِّصنا المسيح من هؤلاء الأعداء بميلاده، وبتعاليمه، وبأعماله، وبموته، وبقيامته.
يمكن أنْ نرى أيضاً نقاطاً أخرى لتقابُل أو تقارُب بين كريستولوجيّا الصفيّ والكريستولوجيّات المعاصرة. ولكن لا يمكنّا الخوض كثيراً في مياه هذا البحر، لأنّ هذا يقتضي معرفةً بمختلف المدارس العقائديّة المعاصرة، وهي معرفة لا ندّعي امتلاكها. كان هدفنا في هذا الجزء الأخير أكثر تواضعاً من ذلك: أنْ نُظهر، ببعض الأمثلة، حاليّة كريستولوجيّا الصفيّ، ومنفعتها لإنسان اليوم.
عندما نعتبر فكر الصفيّ، لا يمكنّا القول: إنّه فكر عفى عليه الزمن! ولكن نقول: إنّنا، في نقاط كثيرة، نفكّر كذلك. نحن كذلك نعرض العقيدة بهذا الشكل. نحن كذلك نولي قيمةً أكبر لمثل هذا الموضوع أو ذاك. نقول، أخيراً، إنّ يسوع المسيح المخلِّص، الذي آمن به الصفيّ، وعنه كتب وشهد، هو نفسه يسوع المسيح المخلِّص، الذي نؤمن به اليوم، والذي نُبشِّر به العالم، كإله، وكإنسان، وككلمة متجسِّد ومخلِّص لسائر الجنس البشريّ.
عن مجلة صديق الكاهن