بقلم الأب نادر ميشيل اليسوعيّ
القراءات الكتابيّة
* أشعيا 22: 19-23
هكذا يَقولُ الرَّبُّ لشَبنا قَيِّمِ البَيت: «أَنكُسُكَ عن مَنصِبِكَ وعن مَقامِكَ تُخلعَ. وفي ذلك اليَومِ أدْعو عَبْدي أَلْيَاقيمَ بنَ حِلقِيَّا وأُلبِسُه حُلَّتَكَ وأَشُدُّهُ بِمِنطَقَتِك وأَجعَلُ سُلْطانَكَ في يَدِه فيَكون أَبًا لِساكِني أُورَشَليمَ ولبَيتِ يَهوذا. وأَجعَلُ مِفْتاحَ بَيتِ داُودَ على كَتِفِه يَفتَحُ فلا يُغلِقُ أَحَد ويُغلِقُ فلا يَفتَحُ أَحَد. وأَركُزُهُ وَتِدًا في مَكانٍ أَمين فيَكونُ عَرشَ مَجدٍ لِبَيتِ أَبيه.
* روما 11: 33-36
أَيُّها الإِخوَة: ما أَبْعدَ غَورَ غِنى اللهِ وحِكمَتِه وعِلمِه! وما أَعسَرَ إِدراكَ أَحكامِه وتَبيُّنَ طُرُقِه ! «فمَنِ الَّذي عَرَفَ فِكْرَ الرَّبّ أَو مَنِ الَّذي كانَ لَه مُشيرًا ومَنِ الَّذي تَقًدَّمهُ بِالعَطاءِ فيُكافَأَ علَيه؟» فكُلُّ شَيءٍ مِنه وبِه وإِليه. لَه المَجْدُ أَبَدَ الدُّهور. آمين.
* متى 16: 13-20
في ذَلِكَ الزَّمان: لَمَّا وصَلَ يسوعُ إِلى نواحي قَيصَرِيَّةِ فيلِبُّس، سأَلَ تَلاميذَه: «مَنِ ابنُ الإِنسانِ في قَولِ النَّاس؟» فقالوا: «بَعْضُهم يقول: هو يوحَنَّا المَعمَدان، وبَعضُهمُ يقول: هو إِيليَّا، وغيرُهم يقول: هو إِرْمِيا أَو أَحَدُ الأَنبِياء». فقالَ لَهم: «ومَن أَنا في قَولِكم أَنتُم؟» فأَجابَ سِمعانُ بُطرس: «أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ». فأَجابَه يسوع: «طوبى لَكَ، يا سِمعانَ بْنَ يونا، فلَيسَ اللَّحمُ والدَّمُ كشَفا لكَ هذا، بل أَبي الَّذي في السَّمَوات. وأَنا أَقولُ لكَ: أَنتَ صَخرٌ، وعلى الصَّخرِ هذا سَأَبني كَنيسَتي، فَلَن يَقوى عليها سُلْطانُ الموت. وسأُعطيكَ مَفاتيحَ مَلَكوتِ السَّمَوات. فما رَبَطتَهُ في الأَرضِ رُبِطَ في السَّمَوات. وما حَلَلتَه في الأَرضِ حُلَّ في السَّمَوات». ثُمَّ أَوصى تَلاميذَه بِأَلاَّ يُخبِروا أَحَدًا بِأَنَّهُ المسيح».
العظة
يبدأ يسوع صعوده نحو أورشليم، إنّها رحلته الأخيرة التي ستقوده إلى بذل حياته تمامًا وكلّيًّا من أجل أحبّائه. وها هو في منابع نهر الأردن، في قيصريّة فيلبس، شمال فلسطين، ويتساءل عن ذاته وهويّته، عن رسالته ومصيره. يلوح في الأفق الصليب، إذ تنمو وتزداد كراهية اليهود له، ويقرأ واقعه على ضوء الكتاب المقدّس، ويتيقّن أنّه سيواجه مصير الأنبياء الذين سبقوه، ولكن تدعوه كلمة الله أيضًا إلى الإيمان بأنّ الله آباه لن يترك قدّوسه يرى الفساد (مز16: 10) وأنّه سيغلب الموت ويقيمه حيًّا في اليوم الثالث (هو6: 2).
هذا هو إيمان يسوع الأكيد، يملأ قلبه ويقود خطواته، ولكنّ كلمة الله تأتي يسوع أيضًا من خلال كلمات الناس من حوله، وقراءتهم للأحداث، وفهمهم الشخصيّ له. ويزداد يسوع تأكيدًا داخليًّا من خلال شهادة بطرس له: “أنت المسيح ابن الله الحيّ”. فالأصدقاء والأحبّاء هم أقدر الناس على فهم قلب يسوع وهويّته، وبطرس وأخوته التلاميذ أدركوا من هو يسوع من خلال ربطهم، على ضوء الكتاب المقدسّ، بين شخصه وما يقوم به ويعلنه. إنّ هذا الاعتراف هو ثمرة الحرّيّة التي أنعم الله بها على بطرس والتلاميذ، وهي نعمة الروح القدس الساكن في قلبهم. وتعني الحرّيّة أن نقفز بكلّ كياننا لنرتمي بالإيمان في أحضان يسوع.
إنّ الله فقط يقدر أن يفتح أذهاننا لفهم الكتاب المقدس، وأن نربط بين أحداث حياتنا وكلمته المحيية، وأن نصل إلى وعيّ لذواتنا وهويّتنا ورسالتنا. ومن يسوع، يستلم بطرس رسالته، فهو في ضعفه وفقره صخرة يبني عليها يسوع كنيسته، حتّى لا تكون قوّته من ذاته بل من الذي مات وقام من أجله (2قو5: 15). ويسلّم يسوع مصيره لبطرس وأصدقائه، لأنّ هكذا هو الحبّ. بين يديّ يسوع، يهب بطرس ذاته وكيانه، وبين يديّ بطرس، يعهد يسوع بمصير كنيسته. والحبّ لا يعرف حدود، لا في المكان ولا في الزمان، فهو هنا والآن، ولكنّه يشمل كلّ العالم وكلّ الأزمنة.
الحبّ أبديّ، لأنّه من الله الذي يمنحنا ونحن في اللحم والدم أن نعاين سرّ ملكوته، ملكوت الحبّ والفرح والسلام. ومن آمن بيسوع، صار في الحياة، ولا يقوى عليه خوف، خطيئة أو موت، لا من ذاته بل لأنّه ارتبط بمن غلب الموت، من عاش ومات في الإيمان بأنّ حبّ الآب أقوى من الموت، وأنّ وداعة الله أقدر من عنف الإنسان، وأن برّ الله يغطي خطايا البشر كلّهم. في كلّ مرة، يتّحد إنسان بيسوع، يكون في الحياة والحياة بفيض (يو10: 10)، تلك التي تنعشه وتملأ الناس من حوله. ففي الضعف، تكمن قوّة الله (2قو12: 9)، وفي قلّة حيلتنا يظهر مجده وعظمته.
وإلينا يتوجّه يسوع اليوم، فنحن أصدقاءه وتلاميذه، وعلينا يتّكل ويطلب العون والمساعدة. لا يمكن أن نبقى على مستوى ترديد أمور طيّبة عن يسوع لا تعني لنا شيئًا شخصيًّا. فالناس في زمن يسوع كانوا يقولون إنّ روح الله يسكن فيه على مثال إيليا، يوحنا المعمدان، وسائر الأنبياء. هذا صحيح ولكنّه لا يكفي ولا يحيي. لا يمكن أن تقاس علاقتنا بيسوع بكمّ المعلومات التي نعرفها عنه. فالحياة اختيار وقرار، والمحك الأساسيّ لنا يكمن في طرح هذه الأسئلة على أنفسنا: هل نقبل أن نموت مع يسوع لنحيا معه ومنه؟ هل نجد معنى حياتنا وهويّتنا الشخصيّة في الارتباط به؟ هل نختار طريق الفقر والضعف، حتّى تقبّل الهوان، مع يسوع الفقير والصغير؟ هل نرضى باسم إيماننا به وحبّنا له أن نسير عكس قيَم الاستهلاكيّة والتسلّط والعظمة؟ هل نريد أن نبني كنيسة متواضعة، بسيطة، منفتحة على الفقراء والجهّال؟
استطاع بطرس بنعمة الروح القدس أن يكتشف، في صديقه يسوع، المسيح ابن الله الحيّ، ولكنّه سيصعب عليه أن يقبل اختيار يسوع لطريق التضامن مع الإنسان الخاطئ، ذاك الذي سيأخذه إلى الجلجثة حيث سيفيض الروح على البشر من أعلى الصليب. وبالتأكيد، نحن نشارك بطرس أفكاره التي ليست أفكار الله. فما العمل؟ أن نعي بأنّ هذا الإنسان الخاطئ هو كلّ واحد منّا، وأن نقبل أنّ يسوع جعله الله خطيئة من أجلنا (2قو5: 21)، وأنّه في الضعف صار ملكًا، وفي الخزي خلّصنا بحبّه لنا الذي يفوق خطايانا وقبحنا وتخاذلنا. حينئذ سنعرف معرفة باطنيّة وشخصيّة “ما هو العرض والطول والعلو والعمق، وتعرفوا محبّة المسيح التي تفوق كلّ معرفة، فتمتلئوا بكلّ ما في الله من ملء. لله القادر بقوّته العاملة فينا أن يفعل أكثر جدًّا ممّا نطلبه أو نتصوّره” (أف3: 18–20).
يسوعيون