نبذة عن الكنيسة الأرمنية
المقدّمة
للعنوان أهمّية كبرى لأنّه يدلّنا على الاتّجاه الذي سنسير فيه، ويلخّص ما نسعى إليه.
– نقول: “نبذة“. لأنّ هذا تلخيص لما جرى خلال ألفَي سنة. ولذلك سنتوقّف عند بعض الأحداث الهامّة ونختصر الشيء الكثير تاركين للقارئ حرّيَّة العودة إلى المراجع باللغة العربيَّة، التي سنذكرها نهايةً.
– نقول: “تاريخ“. لأنّ الموضوع يشمل أحداثاً مدوَّنة تاريخيّاً، ورجالاً صنعوا التاريخ. لن نتوغّل في معارج التاريخ الغابر الذي قد تكون اختلطت فيه الروايات بالأساطير والقصص بالملاحم. نبدأ التاريخ مع بدايات حدث الاهتداء إلى المسيحيَّة.
ولمّا كانت الأحداث مرتبطة بالمواقع فلا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار الخريطة الجغرافية والإشارة إلى الأماكن التي جرت فيها تلك الأحداث.
إنّ من يفحص موقع أرمينيا على الخريطة يجدها في معظم حقبات التاريخ محاصرة من دُول وشعوب أخرى مختلفة عنها، دِيناً ولغةً وثقافةً. أدّى هذا إلى نشوء مجابهات أحياناً ومعاهدات في أحيان أخرى. وهكذا تميّزت أرمينيا عبر التاريخ بواقعها “الحدوديّ” من أطرافها كلها، وبخاصّة، إذا وجدنا أنه ما من انفتاح لها على البحار. ولذلك كان تاريخها منغلقاً. ولمّا أراد الأرمن أن ينفتحوا على عالم البحار نزحوا نحو الجنوب إلى شمال البحر الأبيض المتوسّط ليُنشئوا مملكة كيليكيا . ( 1 )
– نقول:”الكنيسة“. لا شكّ في أنّنا سنبحث في الأحداث الكنسية الدينيَّة عبر تاريخ الأرمن، ولكن لمّا كانت هذه الأحداث متشابكة مع الأحداث المدنيَّة فإنّنا سنعتمد التواريخ المدنيَّة كمرجع لنا، وذلك لأمرين مهمّين: الأوّل، كون الكنيسة قامت بدَور القيادة والمرجعية في عهود كثيرة غابت فيها السُلطة المدنيَّة. والثاني، لأنّ الكنيسة طُبعت بطـابع الوطنيَّة والقوميَّة، إذ كـانت، لفترات طويلة، العنصر الثابت في الحفـاظ على هوية الشعب.
– نقول:”الأرمنية“. لأنّ الكنيسة التي نتحدّث عنها أرمنيَّة، لغةً وطقساً وثقافةً وشعباً وأرضاً. وقد أُطلق عليها في العهد العثمانيّ اسم “الملّة” للتمييز بين طائفة وأخرى. ومن الخطأ الشائع التمييز بين “مسيحيّ” و”أرمنيّ” لأنّ الأرمنيّ مسيحيّ حُكماً، كما يقول أحد الأساقفة: “إنّ الأرمنيّ الذي لا ينتمي إلى المسيحيَّة لا يُعدّ أرمنياً. إيماننا وهويتنا الوطنية ينبعان من مصدر واحد”. وربّما يعود هذا التمييز بين “مسيحيّ” و”أرمنيّ”
في شرقنا العربيّ إلى عامل اللغة التي ينطق بها الأرمن فتميّزهم عن سائر المسيحيين. وهذا لا يعني أنّنا سنغفل ذكر علاقات الكنيسة الأرمنيَّة مع الكنائس الأخرى.
– نقول: “كاثوليكية” بمعنيين. المعنى الأوّل الجامعة، أي إنّ الكنيسة الأرمنيَّة هي جزء من الكنيسة الجامعة منذ نشأتها. والدليل على ذلك أنّ القدِّيس كريكور البطريرك – الكاثوليكوس الأوّل نال الرسامة في قيصريَّة قبادوقيا في الكنيسة البزنطيَّة وكان على علاقة مع الكنيسة السريانيَّة. ويُفيد بعض المؤرخين أنّه زار البابا سِلفِسترُس برفقة الملك “درطاد” لما ذهب لزيارة الإمبراطور قسطنطين. ولذلك تؤمن الكنيسة الأرمنيَّة “بالكنيسة الواحدة الجامعة الرسولية المقدَّسة”.
أمّا المعنى الثاني، الكاثوليكيَّة حصراً، أي المرتبطة بالكنيسة الكاثوليكيَّة الرومانيَّة. فقد استقلّ قسم من الأرمن في العام 1742 وكوّنوا “بطريركيَّة الأرمن الكاثوليك”. ولمّا كانت الكنيسة الأرمنيَّة الكاثوليكيَّة هذه فرعاً من الكنيسة الأرمنيَّة فإنّنا سنبحث في أصولها عامّةً، وسنتوقّف عند تفرّعها وما تبع ذلك بنوع خاصّ.
1- بدايات المسيحيَّة في أرمينيا
يعود تاريخ المسيحيَّة في أرمينيا إلى القرون الأولى للميلاد.
ويُفيد التقليد الكنسيّ أنّ الرسولَين “تدّاوس” و”برتلماوس” بشّرا الأرمن بالدين المسيحيّ الجديد في منتصف القرن الأوّل للميلاد . ( 2 )
وتؤكّد المصادر التاريخيَّة أنّه في نهاية القرن الثاني كانت تكوّنت جماعة صغيرة من المسيحيّين في أرمينيا حيث لجأت مجموعة من المتبتِّلات الهاربات من اضطهاد الإمبراطور الرومانيّ ديوقليتيانوس، ومنهنّ القدِّيستان هرِبسيمة وكاياني اللتان استشهدتا مع رفيقاتهنّ حفاظاً على إيمانهنّ وعفّتهنّ.
2- اهتداء المَلك درطاد عن يد غريغوريوس المنوِّر
ويعود الفضل إلى القدِّيس “غريغوريوس” (كريكور) المنوِّر في اهتداء الملك الأرمنيّ “درطاد” إلى الدِين المسيحيّ. فعمّده وحاشيته في العام 301. وبهذا تُعتبر أرمينيا أوّل دولة اعتنقت المسيحيَّة دِيناً رسميّاً لها. ولذلك يحتفل الأرمن في العام 2001 بذكرى مرور 1700 سنة على تنصيرهم. علماً بأنّ منشور ميلان الصادر عن الإمبراطور قسطنطين الذي يسمح بنشر الدين المسيحيّ لم يُعلن إلاّ في العام 313، ولم تُعلن المسيحيَّة دِيناً رسمياً للإمبراطوريَّة الرومانيَّة إلاّ في العام 380 في عهد الإمبراطور ثاودوثيوس.
أمّا اهتداء الأرمن إلى المسيحيَّة فهذا خبره:
لمّا تولّى المَلك درطاد الثالث زمام الحُكم في أرمينيا (284 – 305) تحالف مع الإمبراطور ديوقليتيانوس، واستطاع إبعاد الفرس الساسانيّين عن الحدود الأرمنيَّة. وجعل الملك في خدمته شابّاً أرمنيّاً اسمه كريكور (غريغوريوس) يتقن اللغة اليونانيَّة. وكان درطاد يجهل أنّ كريكور هو ابن آناج قاتل والده الملك خوسروف. وكان قد هرب آنذاك إلى قبدوقيا حيث تثقّف وتنصّر.
وفي يوم عيد الإلهة أناهيد رفض كريكور تقديم القرابين للوثن وأعلن أمام الملك إيمانه المسيحيّ. فاستشاط الملك غيظاً ونكّل به أشدّ التنكيل. ولمّا كشف سرّه أمر بإلقائه في بئر عميقة حيث بقي ثلاث عشرة سنة، بحسب واضعي سيرته . ( 3 )
ويذكر واضع سيرة القدِّيس غريغوريوس، كوريون، أنّ الملك درطاد أُصيب بمرض نفسيّ رهيب غيّر أطباعه وشوّه حتَّى معالم وجهه، ولم يُشفَ من ذلك المرض إلاّ حين أمر بإخراج غريغوريوس من البئر، نادماً على ما فعل، ومعلناً إيمانه بالسيّد المسيح الذي شفاه بصلوات القدِّيس.
وقد نال “غريغوريوس” الدرجة الأسقفيَّة عن يد أسقف قيصريَّة (قبادوقيا)، وحاز على لقب “كاثوليكوس”، ودُعي بالمنوِّر لأنّه أنار الشعب الأرمنيّ بنُور المسيح. شرع غريغوريوس بتنظيم شؤون الكنيسة الأرمنيَّة من حيث التعليم الدينيّ والطقوس الليتُرجيَّة، واختار مقرّاً له في “فاغارشاباد”، وبنى فيها كنيسة على اسم “إتشميادزين”، ومعناه “نـزول الابن الوحيد” (على بُعد 30 كم من العاصمة الحاليَّة يريفان).
3- القدِّيس نرسيس الكبير
وكان للقدِّيس الكاثوليكوس “نرسيس الكبير” (353 – 373) الفضل العظيم في وضع القوانين الرهبانيَّة، وتنظيم حياة الأديرة، وإنشاء الأبرشيّات والمياتم ودُور العجزة والمستشفيات، فازدهرت الكنيسة الأرمنيَّة الفتيَّة في عهده ازدهاراً بارزاً. ويذكر كاتب سيرته: “في عهد نرسيس، لم تكن لتجد متسوِّلاً واحداً في البلاد الأرمنيَّة”.
4- القدِّيس مِسروب يضع الأبجديَّة الأرمنيَّة
ولمّا كانت الصلوات والطقوس تُقام باللغتين المقروءتين: اليونانيَّة أو السريانيَّة، مع ترجمات وشروحات شفويَّة باللغة الأرمنيَّة، لعدم وجود أبجديَّة أرمنيَّة، فقد سعى الراهب “مِسروب”، على طلب الكاثوليكوس “ساهاك”، إلى وضع أبجديَّة أرمنيَّة في 36 حرفاً. وقد تكلّلت أبحاثه بالنجاح في العام 406. فنُقلت أُمّاتالكتب الدينيَّة والفلسفيَّة والتاريخيَّة إلى اللغة الأرمنيَّة، وعُرف ذلك العصر “بعصر الثقافة الأرمنيَّة الذهبيّ”.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض هذه الكتب فُقد أصله ولم يصل إلينا سوى الترجمة الأرمنيَّة مثل كتب “أفرام” و”إيريناوس” و”أفلاطون” وغيرهم ( 4 ) .
5- القدِّيس وارطان ورفقاؤه الشهداء
اعترفت الكنيسة الأرمنيَّة بالمجامع المسكونيَّة الثلاثة الأولى ورفضت الاعتراف بمجمع خلقِدونية لأنّها لم تشارك فيه، إذ كان الأرمن في العام 451، رجالَ دينٍ وشعباً، يدافعون عن إيمانهم المسيحيّ ضدّ هجمات الفرس، بقيادة البطل الشهيد القدِّيس “وارطان” الذي تحتفل الكنيسة بذكراه في كلّ عام قبل الصوم الأربعينيّ.
لم يكتفِ الملك الساسانيّ “شاهنشاه هازكيرد” بولاء الأرمن له، فأصدر في العام 449 فرماناً يطلب فيه مِن جميع سكّان الإمبراطوريَّة ومَن في حُكمها أن يعتنقوا الزرادشتيَّة، وأرسل الكهنة المجوس وأعوانهم إلى مختلف المناطق لبناء معابد لآلهة النار، وأَمَر بقمع كلّ حركة عصيان.
ما إن وصل الجنود إلى أرمينيا حتَّى انتفض الشعب بقيادة وارطان ماميكونيان. فقد عانوا الكثير من الفرس ولكنّ الكيل كان قد طفح وأصبح الاضطهاد علانية. واجتمع الأساقفة والأمراء في أشتيشاد وبعثوا برسالة إلى الشاه يرفضون فيها اعتناق الديانة الزرادشتيَّة ويؤكّدون تمسّكهم بالدين المسيحيّ.
حينذاك، جهّز الفرس جيوشهم النظاميَّة وساروا بعدد كبير لإخضاع الشعب الأرمنيّ. وكانت معركة أفراير في العام 451 التي استبسل فيها الجيش الأرمنيّ بقيادة وارطان ورفقائه الأمراء، ولكنّهم لم يستطيعوا مقاومة الجيش الفارسيّ المتفوّق بالعَدَد والعتاد، فاستشهدوا على أرض المعركة.
وأعلنت الكنيسة الأرمنيَّة قداسة وارطان ورفقائه لأنّهم ماتوا من أجل الإيمان بالمسيح. ويحتفل الأرمن في كلّ عام بذكرى هذه المعركة البطوليَّة المصيريَّة.
وبعد معركة أفراير، خضعت أرمينيا للحكم الساسانيّ ولكنّ الشاه تخلّى عن سياسته القمعيَّة وسمح للأرمن بالحفاظ على ديانتهم المسيحيَّة وممارسة شعائرهم الدينيَّة، تحت ولاية أحد أفراد عائلة ماميكونيان يحمل لقب “مارزبان”.
وشهدت أرمينيا بعد تلك الأحداث ازدهاراً كبيراً في مجالات البناء والآداب والعلوم.
6- مجمع خلقِدونية والانشقاق الكبير
وقد أدّت الظروف التاريخيَّة والالتباسات في تفسير قرارات مجمع خلقِدونية إلى انشقاق الكنيسة الأرمنيَّة الرسميّ عن الكنيسة البيزنطيَّة والكنيسة اللاتينيَّة وكراسي القسطنطينيَّة وروما وأنطاكية في العام 554 بحسب قرار المجمع المنعقد في “دفين”. فوجدت نفسها في طرف الكنائس اللاخلقِدونيَّة مع شقيقاتها الكنائس القبطيَّة والسريانيَّة واليعقوبيَّة والأثيوبيَّة والهنديَّة، ولُقِّبت “بالمونوفيزيَّة”، بدون حقّ، إذ إنّها ترفض هي أيضاً تعاليم “أوطيخا” المونوفيزيّ وتعترف بيسوع المسيح إلهاً كاملاً وإنساناً كاملاً.
هذا وقد وُجد بعض البطاركة والأساقفة والرهبان في الكنيسة الأرمنيَّة الذين اعترفوا بمجمع خلقِدونية، وحاولوا إعادة الشركة مع الكنيسة البيزنطية.
7- الكنيسة الأرمنية في العهد العربي
واختلط التاريخ الكنسيّ بالتاريخ الوطنيّ فحافظت الكنيسة على كِيانها إبّان الفتوحات العربيَّة.
ورحّب الأرمن بقدوم المسلمين الذين سينقذونهم من نير الفارسيّين. وكان ذلك في العام 640.
وبالرغم من اختلاف الدِين فإنّ الفاتحين العرب أعطوا الأرمنَ الأمان وسمحوا لهم بممارسة شعائرهم الدينيَّة شريطة أن يدفعوا الجزية ويحاربوا إلى جانبهم ويحفظوا الأمن.
وقد تميّزت العلاقة بين العرب والأرمن بالعنف والشدّة أحياناً وباللين والتسامح أحياناً أخرى. ولعلّ أفضل الأيّام كانت في عهد العبّاسيّين إذ منحوا لقب أمير الأمراء للحاكم “آشود البقرادوني”، من دون الاعتراف باستقلاليَّة الأرمن تماماً. ولكنّ الأرمن استطـاعوا في بعض المناطق الغربيَّة أن يستقلّوا بالحكم وأعلنوا “آشود” مَلِكاً عليهم.
8- مملكة آني وكنائسها
وكانت ظروف المعيشة صعبة فلم تنشط الحياة الثقافيَّة إلاّ بعد العام 989 بقدوم الملك كاكيك الأوّل الذي مال إلى البيزنطيّين فحوّل قصره إلى مدينة آني وجعلها عاصمة المملكة. وازدهرت حركة البناء في مدينة آني وكثُرت فيها الكنائس حتَّى دُعيت المدينة “الألف كنيسة وكنيسة”. وما لبث أن نقل إليها أيضاً الكاثوليكوس سركيس الأوّل مقرّه البطريركيّ قادماً من أختامار في العام 992.
في هذه الحقبة لمع اسم بعض الأديرة التي تبعت التعليم الخلقِدونيّ نذكر منها دير “ناريك” الذي عاش فيه القدِّيس “كريكور ناريكاتسي” (951 – 1003) وذاع صيته بفضل كتابه الشهير “الصلوات”.
لم يكتفِ البيزنطيّون بحماية العاصمة “آني”، بل طمعوا في الاستيلاء عليها. فلم يقاومهم الأرمن حقناً للدماء. فتخلّى الملك كاكيك الثاني عن العرش في العام 1045، وسلّم البطريرك بِدروس الأوّل مفاتيح المدينة إلى الإمبراطور البيزنطيّ قسطنطين مونوماكس.
ولكنّ المملكة البيزنطيَّة لم تصمد أمام زحف السلاجقة الأتراك. فكانت موقعة “منازكيرد” في العام 1071 انتصر فيها السلاجقة على الروم واستولوا على مدينة آني وجميع المناطق الأرمنيَّة.
9- مملكة كيليكيا وانتقال الكرسيّ البطريركيّ
وبعد تغلّب السلاجقة على البيزنطيّين وسقوط مدينة آني نزح الأرمن نحو الجنوب وأنشأوا في منطقة كيليكيا ولايات صغيرة ما لبثت أن تحوّلت إلى مملكة دام عهدها من العام 1073 إلى العام 1375، ووصلت إلى أوجها في عهد الملك ليفون في العام 1198.
ونظراً إلى ازدهار هذه المملكة نُقل الكرسيّ البطريركيّ إليها واستقرّ نهائيّاً في مدينة “سيس” في كيليكيا.
لا شكّ في أنّ الكنيسة أيضاً تأثّرت بالوضع العامّ. فشهدت انفتاحاً نحو الغرب بسبب قدوم الصليبـيّين والرهبان الغربيّين، وبدأ عصر من العلاقات المسكونيَّة مع الكنائس البيزنطيَّة والسريانيَّة كان رائده الكاثوليكوس القدِّيس “نرسيس شنورهالي” (1102 – 1173)، وتابع عمله أسقف طرسوس القدِّيس “نرسيس لامبروناتسي” (1153 – 1198)، ولكن، باتّجاه الكنيسة اللاتينية.
ولقد شاركت الكنيسة الأرمنيَّة في مجمع “فلورانس”، وكادت أن تُعلن الشراكة مع كنيسة روما في العام 1439 بعد صدور “براءة الوحدة مع الأرمن”.
ولكنّ هذا التيّار الوحدويّ لقي معارضة شديدة من أساقفة أرمينيا الكبرى فلم يدمْ طويلاً.
10- الانقسام بين كرسيّي إتشميادزين وسيس
بعد انهيار مملكة كيليكيا عن يد المماليك تعرّضت لهجمات السلاجقة ثمّ المغول والتتار إلى أن بدأت السيطرة التركيَّة العثمانيَّة. فطلب أساقفة أرمينيا الكبرى إعادة الكرسيّ البطريركيّ إلى مقرّه السابق “إتشميادزين”. ولكنّ أساقفة كيليكيا رفضوا نقله وأصرّوا على بقائه في كيليكيا التاريخيَّة تحت رعاية الحكم العثمانيّ الأفضل من الحُكم الفارسيّ حيث كانت تقع “إتشميادزين”.
فكان الانشقاق بين الأرمن في العام 1441، وتمّ انتخاب كاثوليكوس جديد فأصبح للأرمن، آنذاك، كاثوليكوس يُقيم في “إتشميادزين” (أرمينيا)، وكاثوليكوس آخر يُقيم في “سيس” (كيليكيا). ولا تزال الحال حتَّى يومنا هذا. علماً بأنّ كرسيّ “سيس” نُقل إلى بلدة “أنطلياس” – لبنان في العام 1930 وحافظ على لقب “كرسيّ بيت كيليكيا”.
11- البطريركيَّة الأرمنيَّة في القدس
أمّا في القدس فقد أُنشئت بطريركيَّة مستقلّة في العام 1311 بعد أن كانت أبرشيَّة منذ القرن الخامس ترعى الحجّاج الأرمن. وهي اليوم تتبع كرسيّ “إتشميادزين”. يُقيم بطريرك القدس الأرمنيّ في دير القدِّيس يعقوب في حيّ يُدعى “حيّ الأرمن”. وللأرمن مقام في كنيسة القيامة. أمّا الأرمن الكاثوليك فلهم نيابة بطريركيَّة وكنيسة في موقع المرحلتين الثالثة والرابعة على طريق الجلجلة.
12- البطريركيَّة الأرمنية في إسطنبول
كما أنّ أبرشيَّة القسطنطينيَّة ما لبثت أن تحوّلت في العام 1461 إلى بطريركيَّة نظراً إلى وجودها في العاصمة العثمانيَّة. وكان لبطريرك الآستانة في عهد العثمانيّين نفوذ أقوى من نفوذ الكاثوليكوس المُقيم في “سيس”. وهي اليوم تتبع كرسيّ “إتشميادزين” (علماً بأنّ الكاثوليكوس أو الجاثليق لدى الأرمن أعلى مرتبة من البطريرك أو البطريق، وتُعطى الصدارة لكاثوليكوس إتشميادزين الذي يُلقَّب بكاثوليكوس جميع الأرمن والبطريرك الأعظم).
للأرمن الكاثوليك أبرشيَّة تضمّ إحدى عشرة كنيسة يرعى شؤونها رئيس أساقفة. وقد نُقل الكرسيّ البطريركيّ من بزمّار (لبنان) إلى إسطنبول من العام 1866 وحتَّى العام 1928.
13- الراهب مِخيتار سيباسداتسي
وفي بدايات القرن الثامن عشر قوي مجدّداً التيّار الخلقِدونيّ الكاثوليكيّ. وكان من كبار الداعين إليه الراهب “مِخيتار سيباسداتسي” (1676 – 1749) الذي أنشأ في العام 1701 في إسطنبول رهبانيَّة حملت اسمه “الآباء المِخيتاريّين” لرعاية الناشئة ونشر الثقافة الأرمنيَّة. ولكنّه لمّا لقي معارضة قويَّة لجأ مع رهبانه إلى جزيرة “سان لازار” المجاورة لجزيرة البندقيَّة (إيطاليا). ولا تزال هذه الرهبانيَّة قائمة حتَّى اليوم ولها أديرة ومؤسّسات تربويَّة في مختلف أنحاء العالَم حيث الجاليات الأرمنية.
14- الرهبانية الأنطونية الأرمنية الكاثوليكية
كما أنشأ الإخوة “مُراديان” من أبرشيَّة حلب، ببركة أسقفهم المطران “أردزيفيان”، رهبانيَّة أنطونيَّة أرمنيَّة كاثوليكيَّة تيمّناً بالرهبانيَّة الأنطونيَّة المارونيَّة حيث تتلمذوا في دير مار قزحيّا في وادي قاديشا بلبنان. فبنوا لهم ديراً في العام 1720 في منطقة الكرَيْم في جبل كسروان – لبنان (حاليّاً مقرّ جمعيَّة المرسَلين اللبنانيين). ثمّ بنوا لهم ديراً آخر في غَزير على اسم مار “أنطونيوس خشباو” في العام 1760، وبنوا الكنيسة الكبرى في العام 1820 (حاليّاً مقرّ رئاسة الرهبانيَّة المارونيَّة اللبنانيَّة – البلديَّة). وبعد سنوات الازدهار تقلّص عدد الرهبان فيها فأُلغيت الرهبانيَّة في العام 1923 والتحق أعضاؤها الباقون بجمعيَّة دير بزمّار أو بالأبرشيّات.
15- نشأة البطريركية الأرمنية الكاثوليكية
واشتدّ التيّار الكاثوليكيّ في مدن حلب وماردين وكلّس وعنتاب، فزاد عدد مضطهديه. حينئذٍ، ترسّخت، أكثر فأكثر، في نفوس الموالين للوحدة مع روما، فكرة إنشاء بطريركيَّة مستقلّة.
وفي 26 تشرين الثاني 1740 تمّ انتخاب “أبراهام أردزيفيان”، أسقف حلب، بطريركاً على الأرمن الكاثوليك، فسافر إلى روما حيث نال “الباليوم” والتثبيت من قداسة البابا “بندِكتُس الرابع عشر” في 8 كانون الأوّل 1742. وقد شاء “أبراهام” وخلفاؤه أن يضيفوا إلى أسمائهم لقب “بطرس” اعترافاً بولائهم لكرسيّ روما البطرسيّ. ولكنّ البطريرك الجديد لم يستطع العودة إلى حلب لأنّ الحكومة العثمانيَّة وبطريرك إسطنبول لم يعترفا به. حينئذٍ، لجأ إلى لبنان حيث أقام في دير الكرَيْم مع الرهبان الأنطونيّين الأرمن.
وبعد إنشاء دير سيّدة بزمّار (كسروان ـ لبنان) في العام 1749 نُقل الكرسيّ البطريركيّ إليه ولا يزال حتى يومنا هذا، وتكوّنت حوله جمعيَّة من الكهنة المرسَلين، لا تزال تُعرف حتى اليوم باسم “جمعية كهنة دير بزمّار البطريركيَّة”.
وانتظر الأرمن الكاثوليك حتَّى العام 1830 كي يحصلوا على فرمان عثمانيّ صدر في 6 كانون الثاني يعترف باستقلاليَّة الطائفة الأرمنيَّة الكاثوليكيَّة. عند ذاك توقّفت الاضطهادات وعاد المبعَدون إلى ديارهم، وتسلّم الأساقفة المُقيمون في المنفى زمام الأمور في أبرشيّاتهم، وأنشأوا الكنائس وجمعوا شمل الرعية.
16- جمعية راهبات الحبل بلا دنس
وفي العام 1847 أنشأ البطريرك “أنطوان بطرس التاسع حسّون” في إسطنبول جمعية راهبات الحبل بلا دنس للاهتمام بالفتيات الأرمنيّات النازحات من القرى. ولا تزال هذه الرهبانيَّة قائمة حتَّى اليوم ومنتشرة في أرمينيـا وفي مختلف أنحاء العالَم لخدمة الجـاليات الأرمنيَّة عن طريق التدريس ورعـاية الأيتام والمؤازرة في العمل الرعويّ.
17- الكنيسة الأرمنية والمجازر الكبرى
في العام 1915 تعرّض الأرمن، على مختلف انتماءاتهم، إلى أبشع أنواع المجازر والتشريد عن يد الأتراك العثمانيّين فأعطوا أكثر من مليون ونصف المليون من الشهداء الذين تحتفل الكنيسة بذكراهم في 24 نيسان من كلّ عام. ومن بينهم الطوباويّ إغناطيوس مالويان، رئيس أساقفة ماردين الذي يُحتفل بذكراه في يوم السبت الأقرب إلى تاريخ 11 حزيران من كلّ عام وهو تاريخ استشهاده.
ولمّا انتهت الحرب العالمية الأولى في العام 1920 ما عاد للأرمن من وجود سوى في العاصمة إسطنبول.
وراحت الكنائس الأرمنية الأرثوذكسيَّة والكاثوليكيَّة والإنجيليَّة تلمّ أشلاءها وتنظّم صفوفها لرعاية أبنائها الذين سلكوا طريق الهجرة واستوطنوا في أصقاع العالَم ليكوّنوا “الشتات الأرمنيّ” (DIASPORA).
18- إعادة تنظيم البطريركية الأرمنية الكاثوليكية
اجتمع الأساقفة الأرمن الكاثوليك الذين نجوا من المذابح في العام 1928 في روما بغية إعادة تنظيم البطريركيَّة التي لم يبقَ منها سوى أبرشيَّة حلب والإسكندريَّة وأصفهان وإسطنبول. فثُبّت الكرسيّ البطريركيّ في دير بزمّار في لبنان وأُعلنت بيروت أبرشيَّة بطريركيَّة.
وفي العام 1934 شُيّد في منطقة الجعيتاوي (بيروت) صرح بطريركيّ جديد ليكون قريباً من الأبرشيَّة بالإضافة إلى مقرّ الكرسيّ البطريركيّ في بزمّار (جبل لبنان). وانطلق كهنة الأبرشيّات وكهنة جمعية دير سيّدة بزمّار إلى خدمة الرعايا، وخاصّة الذين نجوا من المذابح. وامتازت هذه الفترة ببناء الكنائس والمدارس. وسافر فريق آخر من الكهنة إلى آفاق بعيدة لرعاية شؤون المهجَّرين في فرنسا والولايات المتّحدة الأميركيَّة وأميركا اللاتينيَّة وأُستراليا. فتحوّلت الإرساليّات تدريجيّاً إلى أبرشيّات أو نيابات بطريركيَّة أو إكسرخوسيّات رسوليَّة.
19- الكنيسة في جمهورية أرمينيا
بعد إعلان عودة كرسيّ الكاثوليكوس إلى إتشميادزين في العام 1441، كما ذكرنا آنفاً، بقيت أرمينيا الكبرى رازحة تحت الحكم الفارسيّ، وكذلك بقيت البلاد بعيدة عن كلّ تطوّر وازدهار، وانحسرت الثقافة والعلوم في بعض الأديرة، بالرغم من الحرّيَّة الدينيَّة التي كانت الكنيسة تتمتّع بها.
مع بدايات القرن الثامن عشر بدأت الإمبراطورية الفارسية بالتدهور ونشأت الإمبراطوريَّة الروسيَّة القيساريَّة بقيادة بطرس الكبير. فدخلت أرمينيا تحت حمايته وأصبحت السدّ المنيع في مقدّمة الحدود مع الإمبراطوريَّة العثمانيَّة.
وفي العام 1836 صدر ميثاق بولوجنيه (Polojnie) الروسيّ الذي ينظّم شؤون الكنيسة الأرمنيَّة فوضعها تحت إشراف الدولة القيصريَّة إداريّاً وسياسيّاً ولكنّه منحها الحكم الذاتيّ لرعاية شؤونها الداخليَّة والدينيَّة والثقافيَّة والتعليميَّة والخيريَّة.
ازدهرت أرمينيا الشرقيَّة في العهد الروسيّ، والفضل يعود إلى انفتاحها على جورجيا في الشمال، حتَّى أُعلنت جمهوريَّة مستقلّة في العام 1918. ولم تدمْ هذه الجمهوريَّة طويلاً إذ دخل الجيش الشيوعيّ الروسيّ أرمينيا في العام 1920 وقلّص حدودها وأصبحت جمهوريَّة سوفياتيَّة خاضعة للحزب الشيوعيّ.
ومع قدوم السوفيات انتهى دَور الكنيسة في أرمينيا، لا بل عانت من الشيوعيَّة أسوأ الاضطهادات. فهدمت الكنائس وأُغلقت الأديرة ومنع التدريس الدينيّ وسيق رجال الدِين إلى المعتقلات، ولكنّهم حافظوا على كنيسة إتشميادزين مقرّ الكرسيّ البطريركيّ.
وكان للأرمن الكاثوليك في أرمينيا الشماليَّة وجيورجيا الجنوبيَّة قبل قدوم الشيوعيَّة 70 كنيسة ورعيَّة يخدمها 60 كاهناً بحسب دليـل العام 1911. وقد أُغلقت كلّها وأُرغم الكهنة على الهجرة ومات أربعة منهم شهداء.
وبعد انهيار الاتحاد السوفياتيّ وإعلان استقلال جمهوريَّة أرمينيا والإقرار بحرية الدِين فيها في العام 1990، عادت الكنيسة الكاثوليكيَّة تمارس نشاطاتها في المناطق الكاثوليكيَّة الخلقِدونيَّة سابقاً، أي في الشمال وفي المناطق الأرمنيَّة في جنوبيّ جمهوريَّة جورجيا. وقد أصبحت للأرمن الكاثوليك في أرمينيا في العام 1992 أبرشيَّة واحدة يرعى شؤونها رئيس أساقفة يساعده أسقف وكوكبة من الكهنة والرهبان والراهبات يخدمون الرعايا الكاثوليك حصراً، بالتفاهم مع كاثوليكوسيَّة “إتشميادزين”.
20- الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية اليوم
يرئس كنيسة الأرمن الكاثوليك حالياً البطريرك – الكاثوليكوس نرسيس بطرس التاسع عشر طرموني، ومقرّ الكرسيّ البطريركيّ في دير سيّدة بزمّار- لبنان. وللبطريركيَّة مقرّ آخر في الجعيتاوي – بيروت. هذا وتصدر عن البطريركية مجلّة رسميَّة تحمل اسم “أفيديك” أي البشرى.
بالإضافة إلى أبرشية بيروت البطريركية تعدّ كنيسة الأرمن الكاثوليك أربع أبرشيّات كبرى وهي:
حلب وإسطنبول وبغداد وأرمينيا. وخمس أبرشيّات: الإسكندرية في مصر، وطهران في إيران، والقامشلي في سورية، وباريس في فرنسا، وبوينس أيرس في الأرجنتين. وتعدّ أيضاً إكسرخوسيتين رسوليّتين في كلّ من أميركا الشمالية (الولايات المتّحدة وكندا) وأميركا الجنوبيَّة، وإكسرخوسيَّة بطريركيَّة في دمشق، ونيابة بطريركيَّة في القدس والأردن، ونيابة رسوليَّة في اليونان. ولها رعايا في أُستراليا وهنغاريا وبولونيا ورومانيا وإيطاليا والنمسا وأورُبّا الشرقيَّة والسودان والخليج العربيّ.
يخدم في الكنيسة الأرمنيَّة الكاثوليكيَّة بالإضافة إلى الكهنة الأبرشيّين، كهنة جمعيّة دير سيّدة بزمّار البطريركيَّة، ورهبان جمعيَّة الآباء المِخيتاريّين، وراهبات الحبل بلا دنس، وثمّة رهبان وراهبات ينتسبون إلى رهبانيّات غربيَّة ولكنّهم يخدمون في الرعايا التابعة للأرمن الكاثوليك.
وللكنيسة الأرمنيَّة الكاثوليكيَّة أربع إكليريكيّات كبرى وأربع إكليريكيّات صغرى وثلاثة أديرة للابتداء. ويبلغ عدد أفراد إكليرُس الكنيسة الأرمنيَّة الكاثوليكيَّة في العالم 17 مطراناً و75 كاهناً و50 راهباً و99 راهبة.
هذا وإنّ عدد الأرمن الكاثوليك يناهز ستمائة ألف نسمة أي ما يعادل 10% من مجموع عدد الأرمن في العالَم، نصفهم في أرمينيا وأورُبّا الشرقيَّة والنصف الآخر في سائر أنحاء المعمورة.
تستخدم الكنيسة الأرمنيَّة الكاثوليكيَّة اللغةَ الأرمنيَّة في طقوسها. وتتبع الروزنامة الليتورجيَّة التقليديَّة أسوة بالكنيسة الأرمنيَّة الأرثوذكسيَّة، ولكنّها تستخدم أيضاً اللغات المحلّيَّة في القراءات والعظات، وتسمح للمؤمنين بالمشاركة في بعض الصلوات.
21- الفنّ الأرمنيّ الكنسيّ
لا نستطيع في هذه العُجالة أن نتحدّث عن الفنّ الأرمنيّ على نحوٍ كامل، وإنّما نخصّ بالذكر ما له علاقة وثيقة بالكنيسة وطقوسها:
آ- الفنّ الهندسيّ المعماريّ الأرمنيّ في بناء الكنائس له طابع متميّز. فتأتي القبّة بشكل مخروط يرتفع نحو السماء، ويكون البناء في معظم الأحيان صغير الحجم وبلا أعمدة في الوسط. أمّا الهيكل الحجريّ فيكون على منصّة مرتفعة لا يصعد عليها إلاّ خَدمة الهيكل بعد خلع نعالهم. ويكون اتّجاه الكنيسة دوماً نحو الشرق. هذا ويضع البنّاؤون الجرار الفارغة في القبّة والجدران للحدّ من الصدى.
ب- الخاجكار أو الصلبان المنقوشة في الحجر، هي أيضاً من اختصاص الفنّ الأرمنيّ وتوجد منها النماذج الكثيرة قرب الكنائس القديمة وفي المقابر، وتُستخدم كشاهدة مسيحيَّة توضع فوق قبور الشهداء، أو تقدم تذكاراً للمتوفّين.
ج- تأتي المُنمنمات الأرمنية MINIATURES في طليعة الفنون التي اختصّ بها الرهبان في الأديرة، وقد زيّنوا بها الأناجيل المخطوطة وسائر الكتب الدينيَّة. ولا تزال هذه المنمنمات موادّ بحث العلماء للكشف عن سرّ ألوانها والموادّ المستخدَمة فيها وطريقة حفظها. لقد فُقد الكثير من هذه المخطوطات الرائعة، ولكنّ ما وصل إلينا يكفي للدلالة على الرقيّ الذي وصل إليه الفنّ الأرمنيّ منذ القرن الخامس. وتُحفظ هذه المنمنمات في المتاحف العالميَّة والمكتبات الوطنيَّة والأديرة الكبيرة.
د- اشتهر الأرمن أيضاً بفنّ تصنيع الذهب والفضّة والنحاس فجاءت الآنية التي تُستخدم في الكنائس آية في الفنّ اليدويّ، مثل المباخر والشمعدانات وغلافات الإنجيل والصلبان… وقد نُقشت على معظمها مشاهد مأخوذة من العهدين القديم والجديد. أضف إلى ذلك أنّ الأرمن برزوا في الحفر على الخشب وتطعيمه بالفضّة. كما اشتهر أرمن كوتاهيا بصنع الخزف الملوَّن.
هـ- هذا وقد ازدانت الكنائس أيضاً بأنواع أخرى من فنون الأشغال اليدوية التي تجيدها النساء الأرمنيّات مثل الحياكة والتطريز وصناعة السجّاد… وتختلف النماذج الفنّيَّة باختلاف المناطق التي كان الأرمن يعيشون فيها.
و- تُعتبر الموسيقى الطقسيَّة الأرمنيَّة من أجمل الألحان الشرقيَّة، وقد هذّبها كبار الموسيقيّين الذين عاشوا في القرن التاسع عشر ودرسوا فنّ الموسيقى في الغرب. ولمّا عادوا إلى بلادهم وضعوها في أشكال النوطة العالميَّة، ووزّعوا فيها الأصوات وأدخلوا عليها المرافقة على الأرغن.
خـاتمة
إنّ الكنيسة الأرمنية الكاثوليكيَّة تحافظ على علاقات ودّيَّة مع الكنائس الأرمنيَّة الشقيقة، وتنشد الوحدة المرجوّة، وتساهم مساهمة فعّالة في مجلس كنائس الشرق الأوسط وسائر النشاطات المسكونيَّة الرعويَّة منها أو الثقافيَّة أو الخيريَّة. وكان لزيارة قداسة البابا إلى أرمينيا 25 – 27 أيلول 2001 دَور هامّ في تمتين أواصر الأخوّة بين الكنيسة الكاثوليكيَّة والكنيسة الأرمنيَّة الأرثوذكسيَّة.
وخير ما نختتم به هذا المقال ما جاء في رسالة قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني الرسوليَّة (2 شباط 2001)، لمناسبة مرور 1700 عام على اعتماد الشعب الأرمنيّ:
“وأريد أن أعبّر أوّلاً عن شكري للشعب الأرمنيّ، على تاريخه، الذي اتّسم بالأمانة للمسيح، أمانة عرفت الاضطهاد والشهادة. فقد سفك أبناء أرمينيا المسيحيّون دمهم من أجل الربّ، ولكنّ الكنيسة بأسرها بفضل تضحيتهم، عظُم شأنها وغدت قوية. وإذا كان يمكن الغرب اليوم أن يجاهر بإيمانه بحرّيَّة، فهذا أيضاً مردّه إلى أولئك الذين قدّموا أنفسهم ذبيحة، جاعلين من أجسادهم خطّ دفاع عن العالَم المسيحيّ في حدوده القصيَّة. ولقد كان موتهم ثمناً لأمننا، وهم حاليّاً يتألّقون متدثّرين بحلل بيض، رافعين للحمل أناشيد المجد في النعيم السماويّ” (رؤيا 7/9-12).
————————————–
المراجع باللغة العربية
– تاريخ الكنيسة الشرقية: المطران ميشيل يتيم والأرشمندريت إغناطيوس ديك، المكتبة البولسيَّة، الطبعة الثالثة المنقّحة، جونية 1991.
– أرمينية أرض وشعب: سمير عربش، مؤسسة دار الريحاني، بيروت 1991.
– الأرمن عبر التاريخ: مروان المدور، دار مكتبة الحياة، بيروت 1982.
– تاريخ الشعب الأرمنيّ: فؤاد حسن حافظ، دار نوبار للطباعة، القاهرة 1986.
– الشرق المسيحيّ: الأب إغناطيوس ديك، المكتبة البولسية 1975.
– أرمينية في التاريخ العربيّ: أديب السيّد، المطبعة الحديثة، حلب 1972.
– نبذة تاريخية عن أبرشيَّة حلب للأرمن الكاثوليك: الأب يوسف قوشاقجي، حلب 1991.
– دليل إلى قراءة تاريخ الكنيسة: المجلد الثاني للكنائس الشرقية الكاثوليكيَّة، دار المشرق، بيروت 1997.
– الكنائس الشرقية: الدكتور جان صقر، لبنان 2001.
– المسيحيَّة عبر تاريخها في المشرق: مجلس كنائس الشرق الأوسط 2001.
– دليل كنائس الشرق الأوسط: مجلس كنائس الشرق الأوسط 1999.
– نشرة أبرشية الأرمن الكاثوليك بحلب: العددان 1و2 للعام 2000.
عن موقع جمعية التعليم المسيحي بحلب
الحواشي :
1 – ويعود وجود الأرمن في حلب إلى عملية الانفتاح هذه. فمنذ مجيء الحجّاج القادمين إليها من أرمينيا، وهم في طريقهم إلى القدس، وبعد ذلك، قدوم التجّار والحرفيّين على دفعات مختلفة… تكونّت جالية عظُم شأنها في القرن الخامس عشر. ولعلّ أبرز دليل عليها”كنيسة الأربعين شهيداً”، وما يُسمّى “بالإكيدون” وهي كلمة أرمنيَّة: “هوكيدون” أي “البيت الروحيّ”. وكان المكان فندقاً كبيراً يبيت فيه الحجّاج المسافرون إلى القدس. ولا تزال الكتابات الأرمنيَّة المنقوشة على الحجر والتي تُشير إلى ذلك محفوظة حتى اليوم.
2 – إنّ العهد القديم يولي أرمينيا مكاناً مرموقاً فقد وضع في حدودها جنّة عدن، وجعل سفينة نوح ترسو على جبل أرارات. وذكر على ألسنة الأنبياء نداءات الاستنجاد بشعوب أرارات أو أورارتو. لا يوجد ذكر لأرمينيا في العهد الجديد، ولكنّ ثمّة إنجيلاً منحولاًً يسمّى بإنجيل الطفولة الأرمني، لأنّ الأصل فُقد وبقيت الترجمة الأرمنية، تُذكر فيه أسماء المجوس الذين زاروا المسيح الطفل في مغارة بيت لحم. وهم: كسبار وملكون وبغده صار. وهذه الأسماء لا تزال الأكثر انتشاراً بين الأرمن (كسباريان – ملكونيان – بغده صاريان).
3 – لا تزال هذه البئر (خورفيراب: أي الجبّ العميقة) قائمة في جمهورية أرمينيا يؤمّها الحجّاج من كلّ حدب وصوب، وينـزلون إليها بوساطة سلالم معدنية. وقد شُيّد فوق فوهتها معبد صغير وأنشئت على مقربةٍ منها كنيسة على اسم القدّيس غريغوريوس. وقد جرت العادة في شرقنا أن يأتي المؤمنون بآنية مملوءة بمياه آبارهم إلى الكنيسة في عيد القدّيس غريغوريوس، وبعد بركتها يعودون بها إلى منازلهم فيرشّونها على البئر “الجبّ” وفي أرجاء الغرف طالبين شفاعة القدّيس لحمايتهم من الأمراض السارية ومن لدغات العقارب والحيوانات الزاحفة .
4 – تُكتب الأبجديّة الأرمنية من اليسار إلى اليمين. وتجدر الإشارة إلى أنّ اللغة الأرمنية في ذلك العهد هي لغة أرمنية كلاسيكية تدعى “كرابار” أي اللغة الأدبية وهي تحاكي اللغة اللاتينية في قواعدها وتصريفها. وبقيت هذه اللغة متداولة حتى القرن التاسع عشر، إذ طغت عليها لغة شعبية جديدة. ولكنّها لا تزال تُستخدم في الطقوس الدينية حتى يومنا هذا.
واللغة الأرمنية الحديثة تقسم بدورها إلى لهجتين متمايزتين ولكنّهما قريبتان الواحدة إلى الأخرى:
1- لهجة شرقية تُستخدم في أرمينيا والبلاد المجاورة، عُدّلت فيها قواعد الإملاء.
2- لهجة غربية تُستخدم في الشتات أي بلاد المهجر وهي تحافظ على قواعد الإملاء الكلاسيكية. ثمّة لهجات محلّية تختلف باختلاف المناطق نذكر منها لهجة كسب وأورفا وعنجر.
واللغة الأرمنية غنيّة بمصطلحاتها بسبب التفاعل مع الحضارات المجاورة فدخلت فيها الكلمات الأجنبية من أصل فارسي ويوناني وسرياني وعربي، وفي وقت لاحق تأثّرت أيضاً باللغات الأوربية الحديثة.
ولا عجبَ إذا قلنا أنّ اللغة الأرمنية ليّنة العريكة تستطيع أن تجد المصطلحات اللازمة للتعبير عن المعطيات العلمية واللاهوتية والفلسفية.
والحقّ يُقال إنّه بفضل الأبجديّة الجديدة حافظت أرمينيا آنذاك على هُويّتها. لقد فقدت نفوذها السياسي ولكنّها أنقذت كِيانها القومي واستقلالها الروحي. ولعلّ هذه اللغة الأرمنية العريقة هي التي ساعدت الأرمن خلال تاريخهم على أن يحافظوا على كنيستهم ومصيرهم