نسمات روحية – مونسنيور توماس حليم
كلِمات يَسوع على الصَليب
الكلمة الثالثة
يا أمرأة : هوذا أبنك … هذه هي أمك”
١- البشارة والولادة الأولى
نتذكّر في البشارة عندما جاء:
1- ملاك من السماء ينزل إلى العذراء ويبادلها السلام “السلام لك أيتها الممتلئة نعمة”. هذه الكلمات ليست مجرّد إعلان فقط ولكن كانت بشرى تجسّد أبن الله من العذراء. فكان هذا هو الإعلان الأوّلي لبشارة الخلاص.
٢- بعد تسعة أشهر يظهر ملاك من السماء مرّة أخرى لمجموعة من الرعاة ويُعلن لهم عن بشرى سارّة، ولادة يسوع ويقول لهم: ” المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة”. ويدعوهم إلى الذهاب لتمجيد هذا الطفل قائلاً: ” إليكم هذه العلامة. ستجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مزود”. فالكلمة صارت جسداً وحلّت بيننا. هذه كانت الولادة الأولى.
2- البشارة والولادة الثانية
نستطيع أن نتخيّل يسوع في الناصرة مع يوسف النجار وهو يتعامل مع الخشب ليصنع لنفسه صليباً صغيراً, أصبح بعدها الصليب الكبير الذي حمله.
ونستطيع أن نتخيّله بعد يوم عمل شاق طويل, يضع ذراعيه مفرودتين علامة لحضن البشرية.
كما نستطيع أن نتخيّل أمه مريم وهي تنظر إلى المسامير والتي بعد ذلك سوف يسمرّ بها وتتحقّق نبوءة سمعان القائلة: ” وسوف يجوز سيف في صدرك” .
من الناصرة إلى الجلجلة من المسامير الموجودة عند يوسف النجّار إلى مسامير الصلب والتي وضعتها البشرية في يديه.
فقد أعطى السيّد المسيح دمه ليس للبشرية فقط ولكن حتى لأعدائه والجنّة لأحد اللّصوص … وبعد ذلك جسده الطاهر وُضع في قبر وروحه أستودعها للآب.
هناك كان لابدَّ أن يتذكّر أكثر الأشخاص إلى قلبه: أمّه ويوحنا الذي قال عنه الكتاب التلاميذ الذي كان يحبّه. ” فيقول لها يا أمرآة هوذا أبنك”.
فكانت بمثابة الإعلان الثاني أو البشارة الثانية. في ليلة مظلمة يحفّها الصمت الرهيب والحكم على السيّد المسيح بالموت.
فالبشارة الأولى كانت على يد ملاك أمّا الثانية فكانت على يد الله. هوذا أبنك. فكانت هنا الولادة الثانية. فالعذراء أعطت البشرية أبنها الأول بدون الآم الوضع في مغارة بيت لحم. والآن تعطي للنور ولداً آخر يوحنا في الآم الجتسماني.
– فالعذراء مريم ليست هنا فقط أمّ المسيح ولكن هي أمّنا جميعاً, وتشمل كافة المسيحيين, وهذا يعني أنّ للكل حقاً بأن يُدعى لها ابناً. كما تعني أيضا نوعاً من الولادة الروحية, في العذاب, لكل التلاميذ وأتباع يسوع. ويتّضح هنا أنّ تسمية مريم والتعبير “التلميذ الذي كان يحبه” اختفيا عند الصليب وحلّت محلهما عبارتا “الأم” و “التلميذ” وهذا يعني أنّ دعوة مريم لم تعد كونها ” أم يسوع” فحسب بل هي الأم, أم البشرية بأسرها, أم الكنيسة… ولم يعد يوحنا ”التلميذ الذي كان يسوع يحبّه, بل التلميذ المؤمن في الكنيسة, أيقونة المؤمن الذي يرافق المسيح حتى الجلجلة…
“أيتها المرأة”:
هذه التسمية تعود بنا إلى سفر التكوين 3/15 “وأجعل عدواة بينك وبين المرأة”, كما وإلى حادثة قانا الجليل, في يوحنا 2/4 “أيتها المرأة لم تأتِ ساعتي بعد”… فلو كان الموضوع لا يتعدى الواجب البنوي, لكان يسوع قد أكتفى بأن يناديها : أمي!” فلما ناداها يا امرأة كما قيل في سفر التكوين وكما قال لها في قانا الجليل, دلّ على اعتبارها تلك المرأة الفريدة التي سحقت رأس الحيّة الجهنّمية وليس كأمّه البشرية.
3- تحت الصليب
في مشهد الجلجلة نرى وضع اللوحة المكتوب عليها “يسوع الناصري ملك اليهود” واقتسام الثياب, والاقتراع على القميص, والطعن بالحربة, كلّها أمور تتّسم بطابع لاهوتي عميق: إنّها توحي بملكية المسيح, وكهنوته, وكونه الحمل الفصحي. فهل يعقل ألاَّ يكون لوصية المسيح النازلة في هذا السياق للكلام, إلّا البعد البشري العائلي, ولا تكون مرتبطة بالعمل الفدائي الذي يتم على الصليب؟ هذا لا يعقل, لا سيما وأنّ الإنجيلي يتابع حالا ويقول بعد ذلك (أي بعد الوصية), إذ رأى أن كل شيء قد أكتمل (بها), قال ليتم الكتاب: ”لقد تمّ” أليس في ذلك إشارة إلى أنّ الوصية مدرجة في اكتمال التدبير الخلاصي.
وصيته هذه آخر ما قام به المسيح, قبل أن يلفظ الروح, ساعة كان يقوم برسالته الأساسية “فيتمّ” ما كان الأب قد أرسله لأجله. فلا يعقل بالتالي أن يكون قد اختار مثل هذه الساعة المهيبة, ساعة اكتمال الفداء لترتيب أمور أمّه الاجتماعية. هذا ولا يعقل, في المجتمع الشرقي أن يسلمِّ أمور أمّه الاجتماعية إلى يوحنا في حين أن نسيبة أمه زوجة كليوبا, كانت هناك. ولا يسلّم أمور تلميذه يوحنا إلى مريم أمّه كما لو أن يوحنا كان يتيماً, في حين أنّ سالومي أمّه, كانت هناك, حية ترزق. لكنّ هذا اللقب كان عبارة عن تكريس لها مرتبط بالعمل الخلاصي الذي هو فداء العالم.
وهذا ليس لقباً كنوع من الاحترام ولكنّه لأنّه أعطي لها من السيّد المسيح وهي بالقرب من الصليب.
1- فكما أنّ حواء أخذت لقب أمّ الأحياء بجوار شجرة معرفة الخير والشر وفقدته بسبب ضعفها وعدم طاعتها.
2- كذلك نجد مريم بجوار شجرة الصليب بشجاعة وتضحية وأمانة وطاعة فاستحقّت أن تكون هي أمّ الأحياء بل أم البشرية جمعاء.
3- مريم تشعر الآن أيضا بألم الولادة: فقد أعطت أبناً ثانياً يوحنا الذي يمثّل البشرية. وبالتالي أصبحنا جميعاً أولاداً لمريم وأصبحت هي أمّنا. ويقال إنّ يوحنا لم يبرح أورشليم إلّا بعد نياحة العذراء …
من هنا نتفهّم ما معناه أنّه أول الأولاد. ليس لأنّ مريم كان لها أبناء آخرون بحسب الجسد ولكنّها ولدت أبناء أخرين روحيين.
– فالبشرية سقطت على يد حواء القديمة ولكن أعيدت إلى طبيعتها الأولى على يد حواء الجديدة العذراء مريم.
– نجد أنّ أول معجزة تمت على كلمتها رغم أنّه لم تأتِ ساعته بعد. وقوفها بجواره تحت الصليب لتشاركه الآلام.
وكأنّما كان هناك موعد بين السيّد المسيح وأمّه القدّيسة العذراء. كان وجهها الطاهر أول وجه يراه عند مجيئه إلى العالم بالجسد.
وكان آخر وجه يراه قبيل تسليمه الروح بين يدي الآب… إنّه قلب الأم المحب الذي يسعى وراء الإبن أينما كان ويلازمه في آلامه بحب.. ويناجيه بتلك العبارة المؤثّرة: ” أمّا العالم فيفرح لقبوله الخلاص. وأمّا أحشائي فتلتهب بالنار عند نظري إلى صلبوتك الذي صابر عليه من أجل الكل يا أبني وإلهي”. وهو أيضا قلب الابن الذي يهتم بأمّه وهو في عمق آلامه.
وهكذا وجد السيّد المسيح من الضروري أن يعتني بأمّه في آلامه, ويقول لها كلمة تعزية بينما يجوز في نفسها سيف (لو2: 35).. وجد من المناسب له كابن أن يعزّي أمّه في آلامها. وقد عزّاها بثلاثة أمور: بالحديث معها, وبالعناية بها وتدبير أمورها. ويمنحها أبنا روحياً يؤنس وحدتها…
فالحقيقة المجردة هي أن هذه الكلمات الثلاث الأولى التي تلفّظ بها يسوع على الصليب, هي أعظم شهادة على محبته العظيمة لنا: أحبّ تلاميذه فأعطاهم أمًّا, أحبّ أمّه فأعطاها نسلاً كبيراً جداً روحياً, أحبّ شريكه في العذاب, فأعطاه السماء, أحبّ جلاّديه ومعّذبيه فأعطاهم الغفران. إنّه يعطي, وهو على وشك أن يضيّع كل شيء, إنه يعطي كلاً حسب حاجته. إنه يفكّر, حين لا يفكّر به أحد. فماذا نعمل نحن إذا سمعناه يقول: ” أحّبوا بعضكم كما أنا أحببتكم”.