وُلد مِن أجلي… خواطر لثلاثة مفكّرين معاصرين-ترجمة/ أشرف ناجح إبراهيم
وُلد مِن أجلي… خواطر لثلاثة مفكّرين معاصرين-ترجمة/ أشرف ناجح إبراهيم
مُقدِّمة المُتَّرجم
في هذا المقال أقدّم ترجمةً لخواطر ثلاثة مفكّرين معاصرين حول حدث ميلاد السيد المسيح. وقد تمَّ نشر هذه الخواطر باللغة الإيطاليّة في المجلة الشهريّة “Tracce” _ مجلة تصدر عن الحركة الكنسيّة Comunione e Liberazione (شركة وتحرير)_، في عددها الموافق شهر ديسمبر لعام 2009 . المفكر الأول هو الإنجليزيّ جون ميلبنك _ لاهوتي أنجليكاني وإستاذ بجامعة نوتّنجهام_، وتدور خواطره حول حدث الميلاد ووحدة المسيحيين. والمفكر الثاني هو الكاثوليكيّ خون مانول دى برادا _ كاتب إسبانيّ ومؤلف لعدة كتب وروايات_، وتدور خواطره حول حدث الميلاد وحياة الشركة. والمفكرة الثالثة هي الأرثوذكسيّة تاتيانا كاساتكينا _ دارسة روسيّة ومنتميّة للـ “أكاديميّة الروسيّة للعلوم”_، وتتمحّور خواطرها حول حدث الميلاد وحضور المسيح وقدرته على تحويل كلّ شيء. والقاريء العزيز سيلاحظ أخيراً بدوني أدني صعوبة أنه على الرغم مِن جنسيات هؤلاء المفكرين المختلفة وطوائفهم المتباينة وخواطرهم المتنوعة إلا أنهم يتفقون جميعاً على أهميّة وعظمة سرّ التجسد عندما صار الله إنساناً، بل بالأحرى طفلاً.
1. جون ميلبنك:
الميلاد ووحدة المسيحيين الله يصير طفلاً. غير المتناهي العظمة أصبح الأخير، الأصغر جداً. إنه حدث يٌثيرني لدرجة إزراف الدموع: الله تحدّث إلينا، حتى يٌفهمنا مَن هو. لقد كشف عن نفسه في هشاشة الطفل وبراءته المطلقتين، وبذلك أخبرنا عن صورته الأكثر ألفة: وجه بشريّ. بواسطة ميلاده في مغارة، المسيح أراد أن يخلّص كل أوضاعنا. إنها لحقاً مفارقة، فقط إذا تقابلنا مع ما هو إلهيّ نكتشف حقاً ما هو إنسانيّ. إنّ المسيح هو التجسد الحقيقيّ للفكر. ولهذا عينه الإيمان يمكنه الدخول في جميع أبعاد الوجود البشريّ، كما تشرح لنا ذلك حركتنا الأنجليكانيّة “Radical Orthodoxy” [الأرثوذكسيّة الرَّاديكاليّة أو الجذريّة].
ولكن البشر رغبوا في يطردوا الإيمان بعيداً عن حياتهم اليوميّة، وهكذا الكاردينال جوزيف راتسينغر تمكّن مِن أنْ يطرح هذا السؤال: “أيملك الإيمان بعدُ بشكل مطلق إمكانيّة نجاح؟”. كثيرون يفهمون الإيمان على أنه شيء غريب: إنهم معتدّون جداً بأنفسهم حتى يؤمنون بميلاد هذا الطفل. لا يمكنهم أنْ يقبلوا أنّ طبيعة الله الحقيقيّة هي التواضع. إنهم مثل الحكماء الذين يتحدّث عنهم الكتاب المقدّس، لا يستوعبون إطلاقاً القضيّة. ولكن، بالنسبة لي، الإيمان لا يزال قادراً على أن يجد له مكاناً وبالتحديد بسبب ذاك “التطلّع الحان غير القابل الإخماد نحو غير المتناهي”:
لا أحد يعيش بدون أن يجزم بشيء ما وراء المادة. إن رفض المسيح يعد بمثابة إندحار لما هو إنسانيّ. والعواقب نراها بأعيوننا: مجتمع ضد الحياة، يؤيد الأوتاناسيا [القتل الرحيم]. في هذه الثقافة المعلّمنة نحن المسيحيين نعي أنّ ما يوحّدنا أعمق مِن كل الإختلافات المتعلقة بالملة: ليست مجموعة قوانين وقيم، إنما المسيح ذاته، ببشريته الملموسة. والأب لويجي جوسّاني [مؤسس الحركة الكنسيّة شركة وتحرير] يدرك المشكلة جيداً: “كيف يمكننا نتقبّل أنفسنا والأخرين بفضل حديث ما؟… بدون أن يكون المسيح حضوراً الآن _ الآن!_، أنا لا أستطيع أن أحب نفسي الآن ولا أستطيع أن أحبك الآن”.
وهكذا، بين الأنجليكان والكاثوليّك لا يمكننا أنْ نقبل أحدنا الأخر إذا توقّفنا عند القضايا الرسميّة والشكليّة: فمِن أجل الوحدة لا يكفي المجالس والوثائق، إنما نحن في أمس الحاجة إلى مبادرة كلّ شخص.
لقد كنتُ حديثاً في مونتريال، وفي الكاتدرائيّة الكاثوليكيّة قال لي أحد الكهنة: “إذا إعترفنا وأسلمنا بحضور المسيح، نعيش منذ الآن في شركة”. لقد غمرني مباشرة فرحاً عارماً عميقاً: لقد شعرتُ بأنني ليست منعزلاً. فقبل أنْ نسير على مستوى المؤسسة، ينبغي علينا أنْ نسير كأشخاص؛ واثقين فيما يقوله الأب لويجي جوسّاني: قبل كلّ شي، يوجد حضور المسيح. فالمسيح ذاته هو الذي يجمعنا معاً.
2. خون مانول دى برادا:
الميلاد وحياة الشركة سأقضي عيد الميلاد في زامورا، البلدة الواقعة في كاستيليا مسقط رأسي. هناك، بعد صلاة عيد الميلاد، يقوم دائماً الراعي بدعوة الجميع لتناول الشيكولاتة الساخنة مع الـChurros، نوع مِن حلويّاتنا المقليّة. أعني أنه لا يمكننا أنْ نظل محجوبين، فعلينا أنْ نحتفل معاً. الله يولد مِن أجلنا، وليس فقط مِن أجلي. في عالم فيه العائلات على وشك الإنحدار والأشخاص تُعامل على أنها منعزلة، مقابلة جماعة هو أمر يترك تأثيراً ويجذب أكثر.
إنّ هذا هو عيد الميلاد: الله يندفع في التاريخ، حتى يصبح حاضراً في حياتنا. إنه حدث بسيط، يعترف به حتى الطفل. إنها حقيقة يحاول عصرنا تلويثها مفرغاً هذا العيد مِن معناه. نأكل ونشرب ونسهر… ولكن، إنْ لم يحتل المسيح المركز، العيد يتحوّل إلى تمثيل إيمائي بالإشارات الصامتة؛ حيث نحاول أنْ نستبدل الشركة بين الأشخاص بالتمتع المصطنع والجنونيّ. إنه نوع مِن االتصرّف البهلوانيّ التراجيديّ. لقد فهم هذا جيداً تشستارتون عندما قال: “إمحوا ما هو فائق للطبيعة، ما تبقّى إلا ما هو غير طبيعيّ”. إنه نوع مِن الاستعراض حتى يمكننا أنْ نخفي التعب واللامبلاة والسخريّة بالقيم الأخلاقيّة والتقاليد وهو ما يتحدّث عنه الأب لويجي جوسّاني.
هذا لأن مجتمعنا يبحث عن السعادة وكأنها مُخدّر: يتناوله فيحصل على حالة رخاء ورفاهيّة. بينما الإنسان في الواقع ليس مجرد مجموعة مِن الذرّات، إنما هو خُلق مِن أجل السعادة الكاملة. عندما يستبعد الله مِن آفاق وجوده يصبح كالمبتور الأعضاء، كمَن بلا أذرع. وهذا النقص يشعر به، فيحاول عندئذٍ أن يخدّر هذا النقص بواسطة الملذّات المتنوّعة. ولكن لحسن حظه الألم لا يفارقه: إنه الوسيلة الوحيدة التي بواستطها يمكن للإنسان المعاصر ألا يُذعن لتزييف العيد بدون الله.
إنّ هذه السخريّة بالقيم الأخلاقيّة والتقاليد تحول دون أن نحب الشخص الذي نتقابل معه: “كيف يمكننا نتقبّل أنفسنا والأخرين بفضل حديث ما؟”. إنّ معانقة الشخص الملموس الذي يتألم تكلّفني الكثير من الجهد والعناء: فالأفضل أن أحب مَن هو بعيداً، وربما بالتحديد باسم حب الخير العام وخير الإنسانيّة. إنّ هذا الحب غير المتجسد هو بالضبط النقيض لعيد الميلاد. فمِن أين يمكنني أن أبدأ إذاً؟ أجل، مِن ذاك “التطلّع الحان غير القابل الإخماد نحو غير المتناهي” الذي يتحدّث عنه الكاردينال جوزيف راتسينغر. فمَن يستبعد الله مِن حياته إذا كان صادقاً حقاً لا يمكنه إلا أن يشعر بأنه كالمبتور الأعضاء.
بالنسبة لي، الوسيلة الأفضل لتقديم شهادة عن عيد الميلاد تكمن في العمل على إيقاظة هذا التطلّع الحان غير القابل الإخماد نحو غير المتناهي في مَن نتقابل معه وأن نقول له: “ما تظن أنك فقدته لا يزال هنا”. إنه حاضر ويخلق الوحدة بين المسيحيين. إنّ هذا هو ما يحتاجه الإنسان المعاصر: أن يلمس عملياً هذا الإيمان المتجسد مِن خلال إلتقاءه بجماعة تحتفل بعيد ميلاد الربّ، وربما تحتفل بالعيد بتناول الشيكولاتة الساخنة مع الـ
Churros. 3. تاتيانا كاساتكينا:
الميلاد وحضور المسيح وقدرته على تحويل كلّ شيء الله يُولد كطفلٍ، غير محصن تماماً. إنه مُهمل ومتروك، لأنه ليست ثمة فندق يستقبله. يُولد في مغارة، في حضن الأرض: الأرض ذاتها تصبح أم الله، ولهذا الميلاد يُعدّ بمثابة فعل كونيّ. وهكذا المسيح يحوّل كل شيء: الأمر الأكثر حقارة في الحياة يقتني عظمة وكرامة. كما قال الميتروبوليت أنتوني دي سوروج، الميلاد يشهد على أن الله يأخذ على عاتقه كل سقاطتنا: لقد خلقنا أحراراً، ولكنه لا يترك على عاتقنا آثار هذه الحرية المجروحة. هو فقط القادر على إشباع “التطلّع الحان غير القابل الإخماد” الكامن في الإنسان.
الكاردينال جوزيف راتسينغر يتحدّث عن هذا الأمر بوضح شديد: “أيملك الإيمان بعدُ بشكل مطلق إمكانيّة نجاح؟”. أنا متأكدة بأنّ الإجابة هي نعم، لأنه فقط هذا الحدث الذي يشارك العقل ويشمله يمكنه أن يجعل العالم عميقاً بما فيه الكفاية بالنسبة لنا.
إنه نفس التساؤل الذي تطرحه أحدى شخصيّات دوستويفسكي: “أيمكن لإنسان مثقّف، أوربي معاصر أنْ يؤمن، وأنْ يؤمن بالتحديد، بإلوهيّة ابن الله، يسوع المسيح؟”. ولنلاحظ أنه لا يقول إنساناً معاصراً، وإنما إنساناً مثقّفاً معاصراً. إنّ دوستويفسكي يتحدّث عن إنسان يتغذّى مِن “العلم الزائف”، أي عن إنسان يعطي إجابة جاهزة على قضايا الإنسان الأزليّة والأبديّة: وهذه الإجابة تبدؤ وكأنها تحسم كلّ شيء، ولكن في الواقع تنهار بعد بضع لحظات وتصبح مصدر إحباط. إن عمقنا هو المسيح، ووجهه هو الذي يشرق في عيناه اللتان تنظران إلينا بحبٍّ.
وهذا ما يقوله الأب لويجي جوسّاني: “بدون أن يكون المسيح حضوراً الآن _ الآن!_، أنا لا أستطيع أن أحب نفسي الآن ولا أستطيع أن أحبك الآن”. فبدون المسيح كان يمكن يتبقّى لنا أن نحب صورتنا المحدودة فحسب: ياله مِن ملل! ولكن إذا كان المسيح حاضراً فنصبح نحن والأخرين غير قابلين للإختزال وللإنقاص مِن شأننا. لا وبل بالأحرى معرفة الأخر تعني معرفة الله؛ والحياة اليوميّة المعتادة تصبح مغامرة. إنه بعينه المسيح هو مَن نقابله في الإنسان الأخر. ينبغي علينا أن نتعلّم أن نتعرّف عليه، كما تقترح علينا حكاية قصيرة لدوستويفسكي “الصبي عند المسيح”. دوستويفسكي يضع الحكاية في جو وبيئة خاصة، في نفق بارد ومثلج تحت الأرض، حيث يستيقظ طفل في صباح يوم الاستعداد لعيد الميلاد.
فيعرض علينا دوستويفسكي في هذه الحكايّة نوعاً مِن مغارة الميلاد الجافة والخربة، حتى يقول لنا: يجب علينا أن نرى هذا الطفل في كل الأطفال الذين يُولدون في أنفاق هذا العالم، وهذه الأم في كل الأمهات اللواتي يتألمن. فعلى الأرض ثمة كثير من مغارت الميلاد التي يجب علينا نحن المسيحيين أن نحضر إليها عيد الميلاد. أحبّ كثيراً هذا اللحن الموجود في الليتورجيّة الأورثوذكسيّة [البيزنطنيّة]: “إنّ ميلادك، ياربّ، أشرق على العالم نور المعرفة: ففيها وبواستطها كلّ الذين كانوا يخدومون النجوم تعلّموا مِن النجم…”. إنّ هذا هو معنى عيد الميلاد: ما كان قبلاً صنماً وبديلاً عن الإله الحقيقي، أصبح الآن الوسيلة للوصول إليه، مثل النجوم بالنسبة للمجوس. العالم كله، في كلّ جزء صغير منه، يعكس وجه المسيح. ولذلك لن نضحى أبداً متروكين ومُهملين…