يا رب علمنا أن نُصلّي كما علّمَ يوحنا تلاميذَه ، فقال لهم يسوع : إذا صلِّيتُم فقولوا : ” أبانا الذي في السماوات
“يا رب علمنا أن نُصلّي كما علّمَ يوحنا تلاميذَه ، فقال لهم يسوع : إذا صلِّيتُم فقولوا :
” أبانا الذي في السماوات …. ( لوقا ١١ : ٤ )
” أبانا ” ، هي الصلاة الربّيّة ، التي علّمنا إياها يسوع ونُردِّدَها في بداية صلاة الفرض الإلهيّ ، وفِي بداية كل سر من أسرار الكنيسة المقدسة .
هي الصلاة التي نُصليها جهراً مع جماعة المؤمنيين في الكنيسة أو مع العائلة في البيت، وسِراً في صلواتنا الشخصية أو قبل بدء التأملات الإنجيلية أو غيرها .
صلاة ” الأبانا ” ، ذلك النداء الحميم والغنيّ بمعانيه الذي يفتتح الربّ به قلبنا لنتكلّم معه ونناجيه ونطلب منه ما نحتاج إليه لحياتنا الأرضية والسماوية .
لقد تنازل يسوع ، ابن الله الوحيد المتجسّد من مريـم العذراء ، وسمح لنا بأن ننادي أباه : ” أبانا ” ، لكي نكتشف عمق هذا النداء الذي يحمل كلّ حقيقة الله ، ويبيّن لنا أسس علاقة البشر بعضهم ببعض .
إنّ بعض الآباء القدّيسين ، كيوحنا الذهبي الفم و مكسيموس المعترف ، وديونيسيوس الأريوباجي وغيرهم أطلقوا لفظة ” أبانا ” على الثالوث القدّوس . فالنداء ، في قسمه الأوّل، يدلّ ، آبائيًّا، على العلاقة التي تربط الله المثلّث الأقانيم ، ويُدخلنا في عمق معرفته ، لإنّ نداء ” أبانا ” لا يضعنا في خطّ عموديّ حصراً، ولكن أفقيّ أيضاً ، أي انّه لا يدلّنا على هذه العلاقة الثالوثيّة أو يطلب منّا اعترافًا بأنّ الله هو أبو يسوع أزليًّا فحسب ، بل أيضًا على كون الله هو أبو جميع البشر ، وأنّ إرتباط البشر بعضهم ببعض هو ، بيسوع المسيح ، إرتباط أخويّ . يقول ثيودورس أسقف مصّيصة في مقدّمة شرحه الصلاة الربّيّة : ” لذلك عليكم أن تقدّموا ما يجب لا للآب فقط ، بل عليكم أيضًا أن تسالموا بعضكم بعضًا أنتم الإخوة ، وجميعكم في قبضة يد أبٍ واحد “.
ويؤكّد القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم ، في تعليقه على هذا الكلام، بقوله : ” وعلاوةً على ذلك ، يعلّمنا يسوع في الصلاة الربّيّة ، أن نجعل صلاتنا مشتركة ، لمصلحة إخوتنا أيضاً . إذ لا يقول المؤمن : ” أبي الذي في السموات “، بل ” أبانا ” ، مقدّمًا تضرّعاته من أجل الجسد المشترك ، غير ناظر أبداً إلى مصلحته الخاصّة ، بل إلى مصلحة قريبه في كلّ مكان ” .
يختصر هذان البعدان العموديّ والأفقيّ ، كلّ الحياة المسيحيّة ومتطلّباتها . فالله الذي يطلب ” قلب” الإنسان يرفض رفضًا قاطعًا أن يختزل المسيحيّ البشر إخوته بالعِرق أو الطبقة أو الجنس أو الدين أو المذهب أو الثقافة ، أو أن يميّز بين البارّ والخاطئ ، لأنّ كلّ إنسان ، هو ” صورة الله “، والله أعطى جميع البشر، بابنِهِ يسوع ، نعمة البنوّة ، أي وهبهم أن يصيروا ” أبناء الله ” .
ولعلّ أعمق ما يذكّرنا به نداء “أبانا”، في سياق هذين البعدين ، هو أنّ كلّ صلاة ، في عمقها ومداها ، هي صلاة جماعيّة ، فالذي يصلّي وحده في صومعته أو غرفته ، في كنيسته أو بيته ، هو يصلّي إلى الإله أبي الجميع ، وبما أنه عضو في الكنيسة الجامعة ، عائلته الكبيرة ، فالربّ يريد أن يعرف قيمة إرتباطه بإخوته وبكلّ إنسان في العالم ، وأن يُفعّل إلتزامه وخدمته ومساعدته فلا يكون بعيدًا أو متفرّجاً، بل مندفعاً في خدمة القريب . هذا ما تدلّنا عليه صلاة ” أبانا الذي في السَّمَوات ” .
لا يريدنا الرب يسوع ، عندما نخاطب الله، أن نكلّمه بمنطق العهد القديم الذي لم يخلُ من الاعتراف بحنان الله على أولاده ” … أما هو أبوك الذي خلقكَ ، الذي أبدعكَ وكوّنك ؟ ( تثنية ٣٢ : ٦ )، ” هم شعبي حَقَاً ، بَنُون لا يغدُرونبي ” ( إشعيا ٦٣ : ٨ ) ، ” والتَوَكّلون عليه سيفهمون الحقّ . والمؤمنون بمحبتِهِ سَيُلازمنَهُ كقديسهِ ومُختاريِهِ ، وتكونُ النِعمَةُ والرحمةُ لهم ” ( حكمة ٣ : ٩)، ” فكيف يُعَدُّون من أبناء الله ، وحظُّهم من القديسين ” ( حكمة ٥ : ٥ ) . وذلك أنّ العهد الأوّل الذي أعطي في سيناء يلد العبوديّة (غلاطية ٤ : ٢٤)، وجميع الذين أُخضعوا لشريعة الناموس كانوا عبيدًا ” وألغى شريعةَ الوصايا وما فيها من أحكام ليَخلُقَ في شخصهِ من هاتين الجماعتين ، بعدما أوقع السَّلامَ بينهما ، إنساناً جديداً ويُصلِحُ بينهما وبينَ الله وقد قَضَى على العداوةِ بصليبه، لتصيرا جسداً واحِداً .
جاء وبشَّركم بالسّلام انتم الذين كنتم أباعِد ، وبشَّرَ بالسام الذين كانوا أقارب ، لأنَّ لنا بهِ جَميعاً سبيلاً إلى اللهِ في روحٍ واحد ” (افسس ٢ : ١٥- ١٨)، بل أن نعرف أو أن نقبل أن يقودنا روح الله إلى معرفة كوننا “أبناء الله” المدلّلين، وأن ننادي الله بالطريقة عينها التي كان يلفظها الأطفال الآراميّون فيما كانوا يتدلّلون على آبائهم : ” أبّا ” (أو كما نقول بلغتنا: “بابا”).
لقد نقلنا يسوع الذي يحقّ له وحده أن يخاطب أباه ببساطة كلّيّة وألفة حميمة ” يا أبتِ ” (متّى ٢٦ : ٣٩)، بنعمة روحه القدّوس، من حالة الخوف والبعد والجهل، وقرّبنا من الله أبيه، وأعطانا أن نناديه بجرأة الأطفال : ” بابا “. وهذا ما أكّده أحد آباء الكنيسة في القرن الخامس تعليقًا على ما قاله الرسول بولس في رسالته إلى كنيسة رومة، وهو: لأنكم ” لم تتلقّوا روح عبوديّة لتعودوا إلى الخوف، بل روح تبنٍّ به ننادي : أبّا، يا أبتِ وهذا الروح نفسه يشهد مع أرواحنا بأنّنا أبناءُ الله” (رومة ٨ : ١٥ – ١٧)، إذ قال : “حين أضاف الرسول لفظة ” أبّا ” علّمنا معنى الثقة التي يتّصف بها أولئك الذين اعتادوا أن ينادوا الله هكذا. وفي الواقع، الأولاد وحدهم يتعاملون مع آبائهم بحرّيّة كبيرة ، فيستخدمون غالبًا هذه اللفظة في التحدّث إليهم ” .
عندما نصلّي صلاة ال : ” أبانا ” ، يجب أن نُفكّر في وحدةِ الحياة التي لنا مع الله في المسيح يسوع بالروح القُدس ، وأن نفكّر دائماً في أنّ هذه الصلاة لا تكون صلاةً حَقيقية صادقة ما لم نسمح للروح الذي حلّ في قلوبنا ، أن يفيض فينا المحبّة الحقّ للبشر جميعًا ، ونقبل أن نكون أداة الشهادة التي ينيرها هو أي ” الروح ” ويقودها في العالم ” لأنَّ محبَّةَ اللهِ أُفيضَت في قلوبِنا بالروحِ القدوسِ الذي وُهِبَ لنا ” (رومة ٥ : ٥) .
+ المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك
#المطران_كريكور_كوسا