البعد الكنسي في الأناجيل الإزائية- .أب كميل وليم
نشأ إنجيل مرقس في حضن الكنيسة. لقد أعلنت بعض المجموعات المسيحية إيمانها الجديد ورغبتها في إتّباع يسوع. ويقوم مرقس بجمع تقاليد هذه الجماعات. وقد عاش مرقس نفسه في إحداها وشاركها أفراحها وآلامها وآمالها. ويُظهر نص مرقس بعض هذه المظاهر الغنية.
جماعة في وقت عصيب:
تعرّضت روما وفلسطين في السنوات 60-70 لأحداث جسيمة إذ تزايد الموقف اشتعالاً بين اليهود والمستعمر الروماني. وكان يقود حركات التمرد قادة أُطلق عليهم أحياناً لقب جليليين (قارن لو 11:13؛ أع37:5). واندلعت الحرب اليهودية سنة 66 فتدخل الرومان بثقلهم أولاً تحت قيادة فسبزيان ثم تيطس ليعود الهدوء إلى الجليل سنة 67. ويبدو أنّ الجماعة المسيحية تركت أورشليم ولجأت إلى بيّلا. وسقطت أورشليم عام 70. اعتلى نيرون عرش روما سنة 54 فازداد موقف الفرسان الرومان قوة في تلك الفترة أمّا أعضاء مجلس الشيوخ فاقتصر دورهم على التوجيه وتقلّص جداً في شئون الحكم. ونتج عن ذلك أمران: أزمة اقتصادية أدّت إلى ضعف القوة الشرائية للعملات واحتراق روما. واندلعت الحرب الأهلية (يونيو 68-ديسمبر69) بعد موت نيرون. ثم نادى فسبزيان بعد ذلك بنفسه إمبراطوراً (79-79). وعانت جماعة المسيحيين من هذه الأوضاع. ففي 43-44 أمر هيرودس أغريبا الأوّل بقتل يعقوب ابن زبدي (أع1:12). وفي فترة ضعف فيها حكم الرومان قتل اليهود يعقوب أخا الرب سنة 62. فحل سمعان مكانه في قيادة كنيسة أورشليم. وفي روما نال القدّيسان بطرس وبولس إكليل الشهادة ما بين 64-67.
ويحتوي إنجيل مرقس على بعض آثار هذه الأحداث. ويبدو أن الفصل 13 يعتبر- نوع من الأدب الرؤوي- فالجو الذي يسود هذا الفصل جو قاتم من التربص والانقلابات. فيه يدعو الكاتب المسيحيين إلى السهر انتظاراً لمجي المسيح (قارن 24:13-27). لأن ملكوت الله على الأبواب (قارن 1:9). ويجب الحذر من المسحاء الكذبة الذين سيظهرون. ولا غرابة أن ينشأ إنجيل في مثل هذا الجو والمناخ. فرفاق يسوع الأوّلون يختفون الواحد تلو الآخر وأصبح من الضروري جداً كتابة شهاداتهم. كما أنه من الطبيعي أن تحاول الجماعة التي تمر بأزمة أن تعود إلى جذورها أي إلى “رسالة يسوع” ذاتها. ويتضح ذلك جيداً من إنجيل مرقس.
جماعة يسوع تتبعه في تجواله. وأجمل تعبير يرد بهذا الصدد هو “اتبعني… فتبعه”. “اتبعني” هو الفعل الذي يختاره مرقس عند دعوة التلاميذ (18:1؛ 14:2و 15؛ 21:10 و 28و32و52).. و “تبعه” (17:1و 20؛ 33:8و34). وتتحرك هذه الجماعة باستمرار في ربوع الجليل وعلى ضفتي البحيرة وفي العشر مدن وفي صور وصيدا وقيصرية فيليبس وأخيراً في أورشليم. ويبدو أن يسوع يفضل القرى (38:1؛ 26:6؛ 28:8) وذلك لأن المقاومة لتعاليمه ولشخصه كانت شديدة في المدن (6:2-11؛ 22:3؛ 1:7-6). وكان يسوع ينسحب من حين إلى آخر مختصاً جماعة أتباعه الصغيرة دون الجموع بتفسير تعاليمه وعنايته (34:4؛ 31:6و32؛ 28:9؛ 2:9؛ 3:13) كما كانت هناك مجموعات أخرى: العائلة (31:3و32) والخارجون (11:4). وكانت لهذه المجموعات علاقة خاصة بالمنزل.
الجماعة تكتب تاريخها:
تتفاعل كل جماعة مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي تحيط بها.
أ- دعوة الجماعة للاعتراف بيسوع:
إن ما يحيي الجماعة ويوحدها هو البحث المستمر عن يسوع. وتجد الجماعة هويتها باكتشاف ماهية يسوع. ولذلك فإن “عدم فهم التلاميذ” يمثل إحدى الصعوبات التي واجهتهم. فالتلمذة تعني اتّباع يسوع بالرغم من كل الصعوبات بالاعتماد على بعض العوامل المساعدة التي تضيء الطريق. وتقدّم الجماعة بعض الوسائل التي فيها يتم هذا “التعرف” نذكر اثنتين منها:
1- العبادة:
لقد نشأت قصص تكثير الخبز في حضن جماعات كانت تحتفل بالإفخارستيا. ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك مفترضين أن أصل قصة آلام يسوع هو الاحتفال السنوي بالفصح بأورشليم الذي يضم ثلاثة أحداث رئيسية: تذكار ليلة يسوع الأخيرة، صلاة يسوع عشية الجمعة العظيمة وزيارة القبر. كما افترض آخرون أن إنجيل مرقس ما هو إلاّ نص تحضيري كان يُقرأ بالكامل على مسامع المعتمدين الجدد ليلة عيد الفصح. وهذا يقتضي اجتماع “الجماعة” للاحتفال بالعماد وبالدخول في الديانة المسيحية.
2- التعليم:
الجماعة التي تحتفل هي جماعة تعلّم. فإذا كان نص إنجيل مرقس هو نص “إعداد” فهو أيضاً كتاب تكوين المسيحي. ولا ترقى تعاليم إنجيل مرقس في العدد إلى مثيلتها في إنجيلي متى ولوقا، ولكنها تعطي الإجابة على سؤالين أساسيين لمن يريد الدخول أو التعمق في الدين المسيحي: من هو يسوع؟ ماذا تعني الحياة المسيحية؟ ولذلك يركّز الإنجيل بطريقة خاصة على موضوع التعليم: ففيه يرد فعل “علّم” 17 مرة: (21:1و22؛ 13:2؛ 1:4و2؛ 2:6و6و30و34؛ 7:7؛ 31:8؛ 31:9؛ 1:10؛ 71:11؛ 14:12-35؛ 49:14) بينما يرد هذا الفعل 14 مرة في إنجيل متى و17 مرة في إنجيل لوقا والمقصود بـ “تعليم” في إنجيل مرقس هو تعليم يسوع. كما ترد كلمة “تعليم” 5 مرات في إنجيل مرقس (22:1و27؛ 1:4؛ 18:11؛ 38:12) بينما ترد 3 مرات في متى ومرة واحدة في لوقا. وينسب مرقس لقب “معلّم” إلى يسوع 12 مرة (38:4؛ 35:5؛ 17:9و38؛ 17:10و 20و35؛ 14:12و19و 32؛ 1:13؛ 14:14) و 12 مرة في متى و17 في لوقا. كما ينسب مرقس إلى يسوع بالإضافة لقب “رابوني” (51:10).
ب- جماعة مرسلة لضم الوثنيين:
لقد عانت الجماعة المسيحية الأولى كثيراً من مشاكل الانفتاح على الأمم وجمع اليهود والأمم في جماعة واحدة كما يشهد بذلك كتاب أعمال الرسل (10-11و15) ورسائل بولس (غل 1-2؛ أف3).لقد حثّ مرقس جماعته وشجّعها على الانفتاح على الأمم، مستنداً في ذلك على تصرّف يسوع نفسه: فقد اجتمعت إليه جموع من كل البلاد (7:3-8) وذهب هو نفسه إلى بلاد الوثنيين (1:5-20؛ 24:7). وأجرى معجزة تكثير الخبز لليهود (34:4-44) ولغير اليهود (1:8-10). وبين هذين الحدثين هاجم يسوع العادات اليهودية (1:7-23) وقبل لا بل مدح إيمان المرأة الكنعانية (24:7-30). كما أن أوّل من اعترف بيسوع ابن الله هو قائد المئة الروماني عندما انشق حجاب الهيكل (38:18-39). وهكذا يتضح أنّ جماعة مرقس تميل إلى المسيحيين من أصل وثني.
ج- تنظيم الجماعة:
إنّ سبب قيام الجماعة في إنجيل مرقس هو مساعدة المؤمنين على “التعرُّف” على يسوع وإعلانه للذين لا يعرفونه. وتقوم الجماعة بذلك بعدة طرق: إعلان الإنجيل، تعليم المؤمنين، الاحتفال بكسر الخبز والاجتماع للصلاة. ولا تهتم الجماعة بتنظيم نفسها اهتمامها بالعمل إلاّ أنه يمكن التعرُّف على بعض الفئات البارزة في الجماعة:
1- التلاميذ:
يرد ذكرهم 43 مرّة. فهم الذين صاحبوا يسوع في رسالته على الأرض، كما أنهم المسيحيون الذين يريدون إتمام ما بدأه التلاميذ وربما هم المسيحيون المعاصرون لمرقس سواء كانت الجماعة كلها أو المسئولون عنها.
2- الإثنا عشر:
يرد ذكرهم في إنجيل مرقس 11 مرّة (14:3و16؛ 10:4؛ 7:6؛ 35:9؛ 32:10؛ 11:11؛ 10:14و17و20و43) بينما يرد ذكرهم 8 مرات في إنجيل متى و 7 مرات في إنجيل لوقا. والإثنا عشر هم جماعة متميزة أقامها يسوع لتكون معه، وترتكز رسالتها على رسالته ذاتها: فهو الذي أقامهم (14:3و16) وأرسلهم (7:6) ليعلموا ويشفوا من الأمراض ويطردوا الشياطين ويدهنوا بالزيت (7:6-13و30). ويشارك الإثنا عشر يسوع عشاءه الأخير (17:14). وحتى وإن كان دورهم التاريخي محدود إلاّ أنه يستمر في الرسل (14:3؛ 30:6) وهكذا تتكوّن الجماعة. وتبرز داخل هذه الجماعة بعض الشخصيات: كبطرس ويعقوب ويوحنا (37:5؛ 2:9؛ 33:14) والثلاثة مع أندراوس (16:1-20؛ 29:1؛ 3:13). إنهم الأشخاص الرئيسيون الذين يصف أعمالهم وطريقة حياتهم وانفتاحهم على الروح لقبول مساعدين آخرين (18:5-20 قارن 38:9-41). وفوق هؤلاء جميعاً يسوع الذي يعطي القاعدة الذهبية: تواضع الخدمة وبذل الذات على مثال ابن الإنسان “الذي جاء ليخدم ويبذل حياته من أجل فداء كثيرين” (35:9و37؛ 35:10و45).
عن مجلة صديق الكاهن/عدد2/1993