بعد تجربة الشك، وتجربة الخبز، نجد تجربة أخرى يمكن تسميتها بتجربة استعراض القوة. ولهذه التجربة أنواع فهناك استعراض القوة الدينية فكل خلفية هذه التجربة هي خلفية دينية، فإبليس يذهب بيسوع إلى المدينة المقدسة، ويوقفه على شرفة الهيكل ويطلب منه أن يلقي بنفسه إلى الأسفل لكي يحقق قول الكتاب إن الله يوصي ملائكته به فيحملونه على أيديهم لكي لا تصدم رجله بحجر. هل تلاحظون الكثافة الدينية في خلفية التجربة؟ المدينة المقدسة، الهيكل، وعد الله بحماية اصفيائه … كل ذلك قد يغري الشخص ويوهمه بإمكانية استعراض القوة الروحية فكل الأمور تقول إنه في حمى رب القوات، خصوصا وإنه خارج من فترة صوم لمدة أربعين يوما وأربعين ليلة، وبعد المعمودية وحلول الروح القدس عليه. كل هذه المظاهر الروحية والدينية تقود إلى هذا الاعتقاد. وكان يمكن ليسوع أن تأخذه العنجهية والغرور الروحي ويسقط في فخ التجربة المغلفة بإطار ديني محكم. ولكن لأن يسوع حقا ابن الله، ولأنه حقا يفهم مشيئة الله، ولأنه حقا يميز خطط ابليس وحيله وألاعيبه، فقد أدرك أن الشيطان يريد أن يجعله يجرب مدى صدق الله، وصلاحية المنظومة الدينية، يضع المؤسسة الدينية في الاختبار. ولكن يسوع لم يكن يحتاج لتأكيدات ولا لضمانات أنه ابن الله، ولا لإثبات مدى صلاحية المنظومة الدينية، وهو يعرف ما فيها من قوة وقصور، ولا لدليل على صدق كلام الله، فهو نفسه كلمة الله الحي المتجسد الكامل الحقيقي. لم يكن يحتاج لإثبات الأمور فالإيمان الحقيقي لا يحتاج لإثباتات ولا لمبررات فهو إما موجود أو غير موجود. لأنه أساس علاقة حية حقيقة مع الله. ويسوع هو في عمق هذه العلاقة مع الاب التي تمثل حياته كلها. فالإيمان لا يحتاج إلى براهين وماذا يمكن أن يكون برهانا للإيمان؟ المعجزة؟ كلا. فقد رأى الفريسيون يسوع يخرج الشياطين أمامهم وأنكروا عليه المعجزة وقالوا إنه ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين. فمن يريد أن يؤمن ومن تعطى له نعمة الايمان لا يحتاج إلى معجزات ولا اثباتات. ومن يريد أن يرفض الايمان فهما صنعت امامه من معجزات فهي لا تقوده إلى الايمان. ففي الحقيقة نحن نحيا كل يوم في عالم من المعجزات لمن يريد أن يرى ويكتشف ويتأمل. فليست المعجزة هي أن يشفي الله مرضا أو يحقق امرا خارقا للطبيعة. بل إن تدخلات الله في حياتنا كل يوم وأن تظل على قيد الحياة بكل ما لنا من قوة وصحة وحتى بأقل الإمكانيات المادية والإنسانية نستطيع، إن أردنا، ان نرى تجليات الله في حياتنا وفي الطبيعة والحياة من حولنا بأشكال كثيرة وفي ظروف متعددة لا تحتاج إلى برهان. فالابن الذي يحيا في بيت ابيه ويتمتع بكل اشكال محبته واهتمامه لا يحتاج إلى برهان لإثبات أبوة ومحبة أبيه. لذلك قال يسوع لإبليس “لا تجرب الرب إلهك”، فالمؤمن الحقيقي لا يحتاج إلى تجارب ولا إلى براهين. ونحن اليوم ما أحوجنا إلى مثل هذا الايمان الذي هو في جوهرة حياة تسليم وثقة بنوية في الله أبينا، أكثر من الثقة في المؤسسات الكنيسة التي نحاول كل يوم ان نختبرها ونجربها لنرى مدى صلاحياتها. ليست القضية قضية صلاحيات للمؤسسات الكنسية بقدر ما هي قوة ارتباط برب هذه المؤسسات والنظر لما هو أبعد مما تقدمه هذه المؤسسات. فكل مؤسسة بشرية يصيبها لا محالة شيء من الخلل ومن النقص، ولكن المؤمن يعلم أن الله يمكنه أن يعمل حتى من خلال هذا النقص وهذا الضعف. أنا لا أقول هذا لأبرر للمؤسسات الكنسية ضعفها ونقصها، فهي مدعوة لتوبة حقيقة ولتجديد دائم وفق روح الله وكلمته. ولكن اريد فقط أن ادعوا المؤمنين أن لا يتوفقوا عند ضعف هذه المؤسسات وفسادها أحيانا ليعتبروه حجة لنقصهم هم ولفسادهم الشخصي فهذا ليس مبررا لأن نكمل كبشر وكأشخاص في طريق الفساد والشر لان الكنائس بها بعض الخلل او تصدر منها بعض المواقف او القرارات الناقصة او الضعيفة او حتى الفاسدة. لكل انسان رب يدينه ويحكم عليه بحسب ظروفه وامكانياته واعماله. فلا داعي لجدال غير مجد، ولا لخلافات غير بناءة، وإنما أن كان الحوار حول هذه المؤسسات ناضج وبناء ومن أجل الخير فأهلا به، بشرط التزام أصول الحوار الحقيقي لكيلا يكون مضيعة للوقت، وتبادل للاتهامات، وتشويه للأشخاص وللواقع وللحقائق. نواصل غدا، بإذن الله، التأمل في نفس التجربة استعراض القوة