إنها دعوة إلى الخنوع و الاستسلام. نعم فى ظاهرها هو المطلوب بالضبط ، و لما كان كلام الله لا يمكن تصديقه إلا بالرجوع إلى الله نفسه و أعنى الرجوع إلى مجمل خطابه و كتابه الملهم “وجب التنويه لذلك”.
نعرف عن يسوع كلمة الله أنه يطلب من أتباعه و مريدوه البلوغ الى الحق:” و تعرفون الحق و الحق يحرركم” فإننا نربأ بأنفسنا عن وصم مثل هذه الدعوة إلى محبة الأعداء بأنها مجرد مكلمة، نتوقف قليلاً لنرى المقصود بكلمة “العدو” هنا قبل أن نسترسل فى أحكام مسبقة.
ليس سراً على أحد أن يسوع المسيح كان له أعداء بصريح المعنى، فمن هُم إن لم يكونوا منْ حكموا عليه “بالموت” وهم “الكتبة و الفريسيون” من معاصريه الذين أرسلوه إلى بيلاطس البنطى، ولما أراد أن يخرجه من السجن صرخوا “دمه علينا و على أولادنا” أصلبه .. أصلبه إن لم تصلبه فأنت خائن لقيصر.
لقد شرع يسوع ابن الله فى رسالته التى استمرت ثلاث سنوات حسب الأناجيل بعد أن “صام أربعين يوماً واربعين ليلة” كما كانت العادة منذ ألفين عاماً، وخضع للتجربة فى ثلاث مرات من”الشيطان” نفسه كما جاء بالأناجيل كلها:
و كانت التجربة تقوم على “الخلط بين صفة الألوهية و صفة البشرية”
“إن كنت ابن الله” أهرب من محدودية الانسان : ثلاث مرات تحد الشيطان يسوع بأن يستخدم صفته الالهية لكى يهدر صفته البشرية و هكذا تبطل فعل تضامنه مع البشر و تفريغ سر تجسده كإنسان و يعيش على هدر الشروط البشرية لتحقيق غايته الالهية:
أولاً:” بالاكل و الشرب و الاستمتاع بكل ما هو بعيداً عن اللياقة
ثانياً: بالمجد الباطل و إدعاء البطولة و كسر قوانين الجاذبية و قوانين البنية الإنسانية الجسدية و مغالطة الناس فى الإتيان بأشياء تفوق طاقتهم البشرية
ثالثا: السجود للشيطان لإمتلاك العالم مثلما غيرت اليوم في السلطات السياسية للحكام فى كل مكان فى العالم و في السيطرة على أسواق السلع الإستهلاكية و السيطرة على الإعلان للتغرير و الكذب و النفاق و التضليل.
إن ملخص هذه التجارب هو ما حدث للشعب اليهودى طيلة أربعين سنة فى البرية عصوا فيها الله .. فى الأكل ( أرسل لهم المن والسلوى) وفي الشرب ( ضرب موسي الصخرة أكثر من مرة حسب ارادة الله) و ترك الله وعبادة “العجل الذهبى” و السلطة (أرادوا إقامة مُلك) بدلاً من الله.
فإن يسوع الذى ينتمى إلى التقاليد و التراث اليهودى أراد أن ينفذ كلام المزمور الذى كان يُصلى به كمثل كل معاصريه”بِذَبِيحَةٍ وَتَقْدِمَةٍ لَمْ تُسَرَّ. أُذُنَيَّ فَتَحْتَ. مُحْرَقَةً وَذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ لَمْ تَطْلُبْ” هكذا رأى يسوع الذى بشر به يوحنا المعمدان و مهد له الطريق ” الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ، فَهذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ.وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هذَا هُوَ ابْنُ اللهِ”. قال المعمدان هذا الكلام ، ان خير بداية يستهل بها حياته العلنية في ارض فلسطين هو الانتصار المطلق على “ابليس” او “الشيطان” و فعلا استطاع سيدنا المسيح أن يواجه الشيطان وجها لوجه لينتصر لذاته و على الشيطان فيما يخص التعارض بين رغباته البشرية (الاكل و الشرب و السلطة و المجد الباطل) و بين رغبات الملكوت التى يريدها الآب أن تنتصر في قلب البشر.