الشجاعة الإنسانية… الأب روماني أمين اليسوعي
أن الشجاعة ليست خطوة جريئة في حد ذاتها ولا قفزة متهورة في لحظة، وإنما هي رصيد يكمن في عمق الإنسان ينطلق في وقت أو آخر ليُسهم في إثراء وسعادة من يشاركونك شجاعتك. والشجاعة ليست موهبة أو وحياً وإنما تدريب ومران على الإقدام.
في قديم الزمان مع الفليسوف أفلاطون أعتبر الشجاعة آحدى الفضائل الأربع الأصلية: الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة. وهي تأتي في المرتبة الثانية بعد الحكمة، وتسمو على العفة والعدل!
بينما عند تلميذه أرسطو أعتبر الشجاعة هي وسط بين التهور والجبن. بينما في التراث العربي يتحدث الفلاسفة عن الشجاعة ضمن الأخلاق الحسنة والفضائل. فيعرفها يحي بن عدي (أواخر القرن التاسع الميلادي) في كتابه “تهذيب الأخلاق” فيقول: الشجاعة هي الإقدام على المكاره والمهالك عند الحاجة إلى ذلك، وثبات الجأش عند المخاوف، والإستهانة بالموت.
وكلمة شجاعة في معناها اللغوي هي الجرأة والإقدام، وشدة القلب عند الهول. والشجاع هو الُمقدم على الخطر بغير خوف، والصابر على الالم بغير شكوى.
ويؤكد علماء النفس والتربية أن أهم أنواع الشجاعة ودعائمها هي بالدرجة الأولى شجاعة أن تكون نفسك، قبل أن تتمثل في الأعمال أو الإنجازات البطولية التي تدفع الناس إلى وصفك بالبطولة، أوتقليدك أوسمة الشجاعة والفخار..فمعرفتك بنفسك وتقديرك لمواطن القوة والضعف فيها، واقبالك على التعامل مع من حولك دون خوف منهم أو التزييف أمامهم، هي أساس الشجاعة!
فشجاع هو من لا يتردد في قول الحق… ولا يلجأ إلى النفاق أو المبالغة بغية التودد إلى شخص ما أو الحصول على مكسب ما.
شجاع هو من يملك الشجاعة الكافية ليواجه من حوله ولا يتجاهل ما يجري حتى لا يحرج صديقاً، أو يثير ثائرته ضده.
شجاع هو من لا تخفي كلماته ومجاملاته قدراً من الكذب أو تزييف الحقائق. شجاع هو من له دور ايجابي بين المحيطين به، ولا يسير خلف الأحداث… تائهاً في غبارها… يهز رأسه بالموافقة الدائمة أو الأسف الشديد.فالشجاع هو الذي يستلهم مبادئه ، ويسترشد بصوت ضميره، ونداء ربه، فلكل إنسان في الوجود هدف أوجدَه الله له، وميّزه بميزة خاصة ليتوائم مع دعوته وهدفه.
يُطلق على الإنسان الذي يفتقر إلى الشجاعة إنه “جبان” أي متخاذل يتحرك بدون ثقة في نفسه أو وعي بحقه في أن يبدع أن ينجز،، لذا فخطواته قليلة بطيئة متلصصة.. يغلب عليه الشعور بالضعة فيعجز عن المجاهرة بآرائه أو اقتحام ميادين جديدة.. فيركن الى المألوف والمعروف.. يفضل أن يتوه في زحام الناس عن أن يعرض نفسه لسخريتهم أو نقدهم إذا هو بادر بعرض فكرة أو إبداع عمل ما!
في واقع الأمر ليس كل فاشل جبانا.. بل إن الإنسان يحتاج إلي شجاعة هائلة حتى يجابه فشله ويحوله إلى نجاح. فليس جرماً أن تفشل أو أن تهزم في حرب لأنك لم تحارب أو لأن عدوك أقوى منك.. وإنما الجبن أن تبيع لعدوك سلاحك وتتنازل عن قوتك هرباً من مواجهته..
ومن هنا عليك بالثقة بنفسك، ولكن احذر أن تبالغ في تقديرها فتحيط نفسك بأساطير الشجاعة الخرافية.. فهذا يعني إنك تفتقد الشجاعة لتكون نفسك.فليك أن تبدد مخاوفك ،حتي لا تنسج من الخوف موانع تعوق إنطلاقك وتكبل طاقاتك ولا تتردد في قول الحق خوفاً من تحطيم فكرة سائدة، أو خوفاً من سخرية النقد..فعلى الشجاع أن يتحلى بالمعرفة.. معرفة الأشياء التي تستحق أن تخشاها أو أن نثق بها سواء في ميدان الحرب أو مجالات الحياة المتعددة. فالشجاعة ليست عدم معرفة أو جهل بالخطر المحدق.. وإنما هي معرفة ذلك الخطر والإستعداد لمواجهته او تحديه.
فشجاعتك في قوة أرادتك وصلابة نفسك، ولكن إذا اقترن بها التهور أصبحت الشجاعة شيئا ضاراً مُفسداً…
فإذا كانت الشجاعة هي مواجهة الإخطار بقلب ثابت جسور، ومواجهة الألم بالصبر والصمت، فكيف يواجه الإنسان العادي خطر الحياة الداهم بقلب ثابت؟ كيف يتحمل الإنسان العادي آلام المرض والحزن أو خيبة الأمل إذا كانت المصيبة فادحة، أو كان خوارا عديم التجلد، قليل الإحتمال؟
لقد حدثنا التاريخ عن كثير من الأبطال الذين واجهوا صعاب الحياة وآلامها بشجاعة منقطعة النظير، مع أن الكثيرين منهم كانوا أُناساً عاديين أهتزت نفوسهم خوفاً، وأرتجفت قلوبهم هلعاً من هول ما بدا لهم، لكنهم سرعان ما تشددوا بقوة من خارج نفوسهم، أعانتهم وساندتهم، حتى صارت قلوبهم ثابتة كالصخر.
وهذه القوة التي تشدد الخائر، وتقوي الضعيف، وتشجع الجبان، وتدفع المتردد، هي قوة الله وقدرته، وعزاء الله ونعمته، يمنحهما للمستغيثين به، المعترفين بسلطانه وعظمته فوق كل ما في الكون.
وليس هناك ما يهب مثل هذه الشجاعة جاعلاً الإستشهاد هيناً سوى الإيمان بقدرة الله وخلود الروح. فالبشر مهما كان سلطانهم في الأرض، لا يملكون سوى قتل الجسد فقط، أما الروح فهي في يد الخالق الحي، الذي يملك القرار في شأن خلود أرواحنا، ومقرها الأبدي.فليس هناك ما يشجع المتألم ويعزي الحزين، ويجبر كسر المنسحقين في الأرض، سوى الإيمان بالوعد الإلهي الحق، أن يجعل الآخرة عوض الدنيا، ويبعث أرواح الخاضعين التائبين الصابرين في عالم الخلود، الذي لا ألم ولا شقاء، ولا حاجة فيه ولا عناء. حينئذ يتشجع الخائر ويتقوى الضعيف، وتتلاشى الآلام، وتجف الدموع، في ضوء الرؤية المستقبلية المضمونة بالوعود الإلهية الصادقة.
وطنى