رسالة قداسة البابا فرنسيس بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي الثامن والأربعين للسلام
1. في بداية عام جديد نقبله كنعمة وعطية من الله للبشريّة أرغب بالتوجه، لكل رجل وامرأة، هكذا كما أيضًا لكل شعب وأُمّة في العالم، لرؤساء الدول والحكام ومسؤولي الديانات المتعدّدة، بأمنياتي الحارة بالسلام ترافقها صلاتي لكي تتوقف الحروب والنزاعات والآلام العديدة التي تسببها يد الإنسان والأوبئة القديمة والجديدة والآثار المُدمِّرة للكوارث الطبيعية. أصلّي بشكل خاص لكي، ومن خلال الإجابة على دعوتنا المشتركة بالتعاون مع الله وجميع الناس ذوي الإرادة الطيبة من اجل تعزيز الوفاق والسلام في العالم، نعرف أن نواجه تجربة التصرف بشكل لا يليق بإنسانيتنا.
في رسالة الأول من كانون الثاني يناير في العام الماضي لحظت أن “الرغبة في حياة مليئة تتميّز بشوق، لا يمكن قمعه، للأخوّة التي تدفعنا نحو الشركة مع الآخرين الذين نجد فيهم لا أعداء ولا منافسين وإنما إخوة لنقبلهم ونعانقهم”[1]. وبما أن الإنسان هو كائن علائقي، مدعو ليحقق ذاته في إطار علاقات شخصية تلهمها العدالة والمحبة، لذا من الأهمية بمكان لتطوره أن يُعترف بكرامته وحريته واستقلاليته وأن تُحترم. ولكن للأسف، لأن الآفة المنتشرة على الدوام لاستغلال الإنسان من قبل الإنسان تجرح بشكل خطير حياة الشركة والدعوة لنسج علاقات شخصية يطبعها الاحترام والعدالة والمحبّة. هذه الظاهرة المقيتة التي تقود إلى دوس حقوق الآخر الأساسية والقضاء على حريته وكرامته، تأخذ أشكالاً متعددة أرغب بالتأمل بها بشكل مُختصر، لكيما، وفي ضوء كلمة الله، نتمكن من اعتبار جميع البشر “إخوة ولا عبيدًا بعد الآن”.
في إصغاء لتدبير الله للبشريّة
2. إن الموضوع الذي اخترته لهذه الرسالة يذكِّر برسالة القديس بولس إلى فيلمون، والتي يطلب فيها الرسول من مساعده أن يستقبل أونيسمس، الذي كان سابقًا عبدًا لفيلمون ولكنه أصبح الآن مسيحيًّا، وبالتالي، وبحسب بولس، يستحق أن يُعتبر أخًا. وهكذا يكتب رسول الأمم: “لَعَلَّه لم يُفصَلْ عَنكَ ساعةً إِلاَّ لِيُعادَ إِلَيكَ لِلأَبَد، لا لِيَكونَ عَبْدًا بَعدَ اليَوم، بل أَفْضَلَ مِن عَبْد، أَي أَخًا حَبيبًا” (فيلمون 15- 16). فأونيسمس صار أخًا لفيلمون عندما أصبح مسيحيًّا. وهكذا فإن الارتداد إلى المسيح، بداية حياة تتلمذ في المسيح يشكل ولادة جديدة (راجع 2 كور 5، 17؛ 1 بط 1، 3)، تخلق الأخوة مجدّدًا كرباط أساسي للحياة العائليّة وقاعدة للحياة الاجتماعيّة.
نقرأ في سفر التكوين (راجع 1، 27- 28) أن الله خلق الإنسان ذكرًا وأنثى وباركهم لينموا ويكثروا: لقد جعل من آدم وحواء والدين، وبتحقيقهما لبركة الله بأن يكونا خصبين ويكثُرا، أنجبا الأخوّة الأولى، أي أخوّة قايين وهابيل. فقايين وهابيل هما أخوان لأنهما ولدا من الحشا نفسه، ولذلك لديهما المصدر نفسه وطبيعة وكرامة والديهما المخلوقين على صورة الله ومثاله.
لكن الأخوّة تعبّر أيضًا عن التنوّع والاختلاف الموجود بين الإخوة، بالرغم من رابط الولادة بينهم وامتلاكهم للطبيعة عينها والكرامة عينها. وبالتالي، فإن جميع الأشخاص هم بطبيعتهم في علاقة مع الآخرين كإخوة وأخوات، يختلفون عنهم ولكنهم يشاركونهم المصدر والطبيعة والكرامة نفسها. بموجب ذلك تشكل الأخوّة شبكة العلاقات الأساسية لبناء العائلة البشرية التي خلقها الله.
للأسف، بين رواية الخلق الأولى التي يُخبرنا عنها سفر التكوين والولادة الجديدة بالمسيح الذي يجعل المؤمنين إخوة وأخوات للـ “بكر لإخوة كثيرين” (روما 8، 29)، هناك واقع الخطيئة السلبي، الذي يعيق مرات عديدة الأخوة بين الخلائق ويشوّه باستمرار جمال ونبل أن نكون إخوة وأخوات في العائلة البشريّة عينها. فقايين لم يكتفِ بعدم تحمُّل أخيه فقط بل قتله بسبب الغيرة مقترفًا أول جريمة ضد الأخوّة. “إن قتل قايين لأخيه هابيل يشهد مأساويًّا على الرفض الجذري للدعوة إلى الأخوّة. وقصتهما (راجع تكوين 4، 1- 16) تظهر المهمة الصعبة التي دعي إليها جميع البشر، ليعيشوا متحدين ويعتنوا الواحد بالآخر”[2].
وفي تاريخ عائلة نوح وأبنائه أيضًا (راجع تكوين 9، 18- 27)، هي خطيئة حام إزاء أبيه نوح التي تدفع هذا الأخير ليلعن الابن عديم الاحترام ويبارك الآخرَين، اللذين كرّماه وأفسحا المجال بهذه الطريقة لعدم مساواة بين الإخوة المولودين من الحشا نفسه.
في رواية أصول العائلة البشرية، تصبح خطيئة الابتعاد عن الله، عن صورة الأب والأخ، تعبيرًا عن رفض الشركة وتُترجم في ثقافة الاستعباد (راجع تكوين 9، 25- 27)، مع التبعات التي تنتج عنها وتمتدّ من جيل إلى جيل: رفض الآخر، سوء معاملة الأشخاص، انتهاك الكرامة والحقوق الأساسية، وشرعنة عدم المساواة. من هنا ضرورة الارتداد المستمر إلى العهد الذي أقامه المسيح بذبيحته على الصليب، واثقين بأنه “حَيثُ كَثُرَتِ الخَطيئَةُ فاضَتِ النِّعمَة… بيسوع المسيح ربّنا” (روما 5، 20. 21). هو الابن الحبيب (راجع متى 3، 17)، الذي أتى ليُظهر محبة الآب للبشريّة. وكل من يصغي إلى الإنجيل ويجيب على نداء الارتداد يصبح ليسوع “أخًا وأختًا وأُمًّا” (متى 12، 50) وبالتالي ابنًا بالتبنّي لأبيه (راجع أفسس 1، 5).
لا نصبح مسيحيين، أبناء للآب وإخوة في المسيح، بمجرّد تدبير إلهيّ ذي سلطة، بدون ممارسة الحرية الشخصيّة أي بدون الارتداد الحر للمسيح. لأن البنوّة لله تتبع واجب الارتداد: “توبوا، وَليَعتَمِد كُلٌّ مِنكُم بِاسمِ يسوعَ المَسيح، لِغُفْرانِ خَطاياكم، فتَنالوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ القُدُس” (أعمال 2، 38). وجميع الذين أجابوا بالإيمان والحياة على بشارة بطرس هذه دخلوا في أخوّة الجماعة المسيحية الأولى (راجع 1 بط 2، 17؛ أعمال 1، 15. 16؛ 6، 3؛ 15، 23): يهود ويونانيّون، عبيد ورجال أحرار (راجع 1 كور 12، 13؛ غلا 3، 28)، والاختلاف في المنشأ والحالة الاجتماعية لا ينقّص من كرامة كل فرد منهم ولا يستثني أحدًا من الانتماء لشعب الله. فالجماعة المسيحية هي إذًا مكان الشركة التي تُعاش بالمحبّة بين الإخوة (راجع روما 12، 10؛ 1 تس 4، 9؛ عب 13، 1؛ 1 بط 1، 22؛ 2 بط 1، 7).
هذا كلّه يُظهر كيف أن بشرى يسوع المسيح السارة التي من خلالها يجعل الله “كلّ شيءٍ جديدًا” (رؤيا 21، 5)[3]، قادرة أيضًا على افتداء العلاقات بين البشر، بما فيها علاقة العبد بسيده، مسلطة الضوء على ما يجمعهما: بنوة التبني ورابط الأخوة بالمسيح. فيسوع نفسه يقول لتلاميذه: “لا أَدعوكم خَدَماً بعدَ اليَوم لِأَنَّ الخادِمَ لا يَعلَمُ ما يَعمَلُ سَيِّدُه. فَقَد دَعَوتُكم أَحِبَّائي لأَنِّي أَطلَعتُكم على كُلِّ ما سَمِعتُه مِن أَبي” (يوحنا 15، 15).
الأوجه المتعددة للعبودية بالأمس واليوم
3. منذ زمن بعيد جدا تعرف مختلف المجتمعات البشرية ظاهرة عبودية الإنسان من قبل الإنسان. وقد شهد تاريخ البشرية فترات كان فيها وضع العبودية مقبولا بصورة عامة ومنظَّما من قبل القانون. وكان هذا الإطار يحدّد من يولد حرا ومن يولد عبدا بالإضافة إلى الشروط التي يفقد بموجبها الشخص المولود حرا حريته أو يكتسبها مجدّدًا. وبمعنى آخر، كان القانون نفسه يقرّ بأن بعض الأشخاص يمكن أو يجب اعتبارهم مُلكا لشخص آخر يمكن أن يتصرف بهم بحرية؛ يمكن أن يُشترى العبد ويُباع، يُتنازل عنه ويُكتسب وكأنه سلعة ما.
اليوم وبعد تطور إيجابي لضمير البشرية، باتت العبودية، الجريمة التي تؤذي الإنسانية[4]، ملغاة رسميا في العالم. إن حق كل شخص في ألا يكون خاضعا للعبودية أو الاسترقاق تم الإقرار به من قبل القانون الدولي كإجراء ملزم.
مع ذلك، وعلى الرغم من تبنّي الجماعة الدولية العديد من الاتفاقات الهادفة إلى وضع حد للعبودية بجميع أشكالها وإطلاقها إستراتيجيات عدة لمكافحة هذه الظاهرة، ما يزال اليوم ملايين الأشخاص ـ من أطفال ورجال ونساء على اختلاف أعمارهم ـ يُحرمون من الحرية ويُرغمون على العيش في ظروف مشابهة للعبودية.
أفكر بالعديد من العمال والعاملات، بمن فيهم القصّر، المستعبَدون في مختلف القطاعات، على المستويين الرسمي وغير الرسمي، من العمل المنزلي إلى العمل الزراعي، من العمل الصناعي اليدوي إلى العمل في المناجم، وهذا يحصل في بلدان لا تتماشى فيها تشريعات العمل مع الإجراءات وأدنى المعايير الدولية، ويتمّ بصورة غير شرعية في بلدان تحمي تشريعاتها العامل.
أفكّر أيضا بالظروف المعيشية للعديد من اللاجئين، الذين يعانون من الجوع خلال سفرهم المأساوي ويُحرمون من حريتهم ويُجرّدون من ممتلكاتهم ويتعرّضون لانتهاكات جسدية وجنسية. أفكر بالذين يُعتقلون في ظروف تفتقر غالبا إلى المعايير الإنسانية بعد وصولهم إلى وجهتهم على أثر رحلة صعبة جدا ومحفوفة بالخوف وانعدام الأمن. أفكر بالذين تدفعهم الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتنوعة إلى الإقامة بصورة غير شرعية، وبِمَن يقبلون بالعيش والعمل في ظروف غير لائقة، بغية البقاء في ظل الشرعية، خصوصا عندما تخلق التشريعات الوطنية أو تسمح بتبعية بنيوية تربط العامل المهاجر بربّ العمل، مثلا، من خلال ربط شرعية الإقامة بعقد عمل… نعم، أفكر بـ”عمل العبودية”.
أفكر بـالأشخاص المرغمين على ممارسة الدعارة، وبينهم قصّر كثيرون وبـعبيد وعبدات الجنس؛ بالنساء المرغمات على الزواج، وأولئك اللواتي يُبَعن بهدف الزواج أو اللواتي يُزوَّجن إلى أحد الأقرباء بعد موت أزواجهن، دون أن يحق لهن الإعراب عن موافقتهن أو رفضهن.
لا يسعني ألا أفكر بالعديد من القصّر والبالغين الذين يذهبون ضحية الاتجار بالبشر من أجل استخراج الأعضاء، من أجل تجنيدهم، من أجل التسوّل، ومن أجل نشاطات غير مشروعة مثل إنتاج أو بيع المخدرات أو أشكال مقنّعة من عمليات التبنّي الدولية.
أفكر أخيرا بكل من يُخطفون ويُحتجزون على يد مجموعات إرهابية تستعبدهم كمقاتلين لتحقيق غاياتها أو، فيما يتعلق بالفتيات والنساء، كعبدات الجنس. وتُفقد آثار العديد من هؤلاء، وبعضهم يُباعون أكثر من مرة، يُعذبون، تُشوَّه أجسادهم، أو يُقتلون.
بعض الأسباب العميقة للعبودية
4. اليوم كما بالأمس يوجد في جذور العبودية مفهوم للشخص البشري يقبل بإمكانية معاملته كغرض ما. عندما تُفسد الخطيئة قلب الإنسان وتُبعده عن خالقه وعن أمثاله، لا يُنظر إلى هؤلاء ككائنات تتمتّع بكرامة متساوية، كأخوة وأخوات في البشرية، بل يُنظر إليهم كأغراض. والشخص البشري، المخلوق على صورة الله ومثاله، يُحرم من حريته بواسطة الخداع والإكراه الجسدي أو النفسي، ويتحوّل إلى سلعة ويُختزل إلى ملكية شخص ما، ويُعامَل كأداة لا كغاية.
إلى جانب هذا العامل الوجودي ـ نكران الإنسانية لدى الآخر ـ تساهم عوامل أخرى في تفسير الأشكال المعاصرة للعبودية. ومن بين هذه العوامل أفكّر قبل كل شيء بالفقر والتخلُّف والإقصاء، خصوصا عندما تضاف هذه العوامل إلى الحرمان من التربية، أو إلى واقع مطبوع بقلة أو انعدام فرص العمل. غالبا ما يكون ضحايا الاتجار بالبشر والاستعباد أشخاصا حاولوا البحث عن وسيلة للخروج من أوضاع الفقر المدقع، صدّقوا أحيانا كثيرة وعودًا زائفة بفرص العمل فسقطوا بشرك الشبكات الإجرامية التي تدير عمليات الاتجار بالكائنات البشرية. هذه الشبكات تستخدم ببراعة التكنولوجيات المعلوماتية الحديثة بغية استدراج أشخاص شبان وآخرين يافعين جدا في أنحاء العالم كافة.
ولا بد من اعتبار فساد الأشخاص المستعدّين لكل شيء من أجل الاغتناء من بين الأسباب الكامنة وراء العبودية. إن الاتجار بالكائنات البشرية واستعبادها يتطلبان في الواقع تواطؤا يمرّ غالبا عبر فساد الوسطاء، وبعض عناصر القوى الأمنية أو لاعبين حكوميين آخرين أو مؤسسات مختلفة، مدنية وعسكرية. “هذا ما يحصل عندما يوضع في صلب النظام الاقتصادي الإله المال، لا الإنسان، الشخص البشري. نعم، لا بد أن يوضع في صلب أي نظام اجتماعي أو اقتصادي الشخص، صورة الله، المخلوق كي يكون سيد الكون. عندما يُزاح الشخص ليحل مكانه الإله المال يحصل هذا الإرباك في القيم”[5].
وثمة مسببات أخرى للعبودية هي الصراعات المسلحة، العنف، الإجرام والإرهاب. أشخاص كثيرون يُخطفون ليُباعوا، أو ليُجندوا كمقاتلين، أو ليُستغلّوا جنسيا، بينما يُجبر آخرون على الهجرة تاركين كل ممتلكاتهم: الأرض، المنزل، الأملاك، وحتى الأقارب. ويسعى هؤلاء الأشخاص إلى البحث عن بديل لهذه الظروف الرهيبة حتى عندما تُهدّد كرامتهم وحياتهم، وهكذا يواجهون خطر الدخول في حلقة مفرغة تجعلهم فريسة البؤس والفساد وتبعاتهما المدمرة.
التزام مشترك للتغلب على العبودية
5. عندما نراقب ظاهرة الاتجار بالأشخاص، والتهريب غير المشروع للمهاجرين وأوجهاً أخرى للعبودية، أكانت معروفة أو غير معروفة، يتكوّن انطباع في غالب الأحيان بأن هذا يحدث إزاء اللامبالاة العامة.
وإذا كان هذا الأمر، وللأسف، صحيحا إلى حد بعيد، أودّ التذكير بالعمل الكبير والصامت الذي تقوم به جمعيات رهبانية كثيرة، لاسيما النسائية منها، لصالح الضحايا منذ سنوات طويلة. إن هذه الجمعيات تعمل في ظروف صعبة، يطغى عليها العنف أحيانا، وتحاول أن تكسر السلال غير المرئية التي تُبقي الضحايا بيد المتاجرين بهم ومستغِلِّيهم؛ سلاسل صُنعت حلقاتها من آليات سيكولوجية غير ملحوظة تجعل الضحايا يعتمدون على سجّانيهم من خلال الابتزاز والتهديد الموجهَين إليهم أو إلى أحبائهم، وأيضا بواسطة وسائل مادية كمصادرة الأوراق الثبوتية والعنف الجسدي. إن عمل الجمعيات الرهبانية يتمحور أساسا حول نشاطات ثلاثة: نجدة الضحايا، إعادة تأهيلهم من الناحية السيكولوجية والتكوينية، وإعادة دمجهم في مجتمع المقصد أو المنشأ.
إن هذا العمل الشاسع الذي يتطلّب شجاعة، أناة ومواظبة، يستحق التقدير من قبل كل الكنيسة والمجتمع، ولكنه لا يكفي وحده بالطبع لوضع حد لآفة استغلال الشخص البشري، فهناك حاجة أيضا لالتزام ثلاثي على الصعيد المؤسساتي للوقاية، وحماية الضحايا والملاحقة القضائية للمسؤولين عنها. إلى ذلك، وكما أن المنظمات الإجرامية تستخدم شبكات عالمية لبلوغ أهدافها، فإن العمل للقضاء على هذه الظاهرة يتطلّب جهدا مشتركا وعالميا أيضا من قبل مختلف الجهات الفاعلة التي تؤلف المجتمع.
ينبغي على الدول أن تسهر كي تكون تشريعاتها الوطنية الخاصة حول الهجرات والعمل والتبني ونقل نشاط الشركات والمتاجرة بمنتجات مصنوعة بواسطة استغلال العمل، محترِمة حقًا لكرامة الإنسان. هناك حاجة لقوانين عادلة ترتكز للشخص البشري، وتدافع عن حقوقه الأساسية وتُعيدها إليه إذا انتُهكت، من خلال إعادة تأهيل من هو ضحية وضمان سلامته، إضافة لآليات فعّالة للرقابة على التطبيق الصحيح لهذه القوانين، ولعدم ترك فسحة للفساد والإفلات من العقاب. وهناك حاجة أيضا لأن يتمّ الاعتراف بدور المرأة في المجتمع، من خلال العمل أيضا على الصعيد الثقافي والإعلامي للحصول على النتائج المرجوّة.
إن المنظمات الحكومية الدولية، وبموجب مبدأ التكافل، هي مدعوة للقيام بمبادرات متناسقة لمحاربة الشبكات عبر الوطنية للجريمة المنظَّمة التي تدير الاتجار بالكائنات البشرية والاتجار غير المشروع بالمهاجرين. هناك حاجة لتعاون على مختلف المستويات، يضمّ المؤسسات الوطنية والدولية ومنظمات المجتمع المدني وعالم الأعمال.
في الواقع، من واجب الشركات[6] أن تضمن لموظفيها شروط عمل لائقة وأجورًا ملائمة، وأن تسهر أيضا كي لا تقع أشكال استعباد أو اتجار بالكائنات البشرية ضمن سلسلة التوزيع. وتترافق المسؤولية الاجتماعية للشركة مع المسؤولية الاجتماعية للمستهلك. في الواقع، ينبغي على كل شخص أن يعي بأن “الشراء هو دائما فِعل أخلاقي، فضلاً عن كونه اقتصاديًا”[7].
من جهتها، ينبغي على منظمات المجتمع المدني أن تحسّس وتوقظ الضمائر حيال الخطوات الضرورية لمكافحة ثقافة الاستعباد واستئصالها.
في السنوات الأخيرة، ومن خلال الإصغاء لصراخ ألم ضحايا الاتجار بالبشر وصوت الجمعيات الرهبانية التي ترافقهم نحو التحرر، ضاعف الكرسي الرسولي النداءات إلى المجتمع الدولي كي يوحّد مختلف الفاعلين الجهود ويتعاونوا لوضع حد لهذه الآفة [8]. وبالإضافة إلى ذلك، تم تنظيم بعض اللقاءات بهدف تسليط الضوء على ظاهرة الاتجار بالأشخاص ولتسهيل التعاون بين مختلف الفاعلين، من بينهم خبراء من العالم الأكاديمي والمنظمات الدولية وقوى الأمن من مختلف الدول التي يأتي منها ويمرّ عبرها ويتوجّه إليها المهاجرون، إضافة إلى ممثلين عن الجماعات الكنسية الملتزمة لصالح الضحايا. آمل بأن يتواصل هذا الالتزام ويتقوى خلال السنوات القادمة.
عولمة الأخوّة، لا العبودية واللامبالاة
6. في عملها “لإعلان حقيقة محبة المسيح في المجتمع” [9]، تلتزم الكنيسة على الدوام في الأعمال ذات الطابع الخيري انطلاقا من الحقيقة حول الإنسان. فمن واجبها أن تُظهر للجميع الطريق نحو الارتداد، الذي يقود لتبديل النظرة إزاء القريب، والاعتراف بالآخر، أيًّا يكن، أخًا وأختًا في الإنسانية، والاعتراف بكرامته المتداخلة في الحقيقة والحرية، كما تُظهرها لنا قصة جوزيبينا باخيتا، القديسة من منطقة درفور في السودان، والتي خطفها تجّار العبيد وباعوها لأسياد شرسين مذ كانت في التاسعة من العمر، وأصبحت فيما بعد، وعبر أحداث أليمة، “ابنة الله الحرّة” بواسطة الإيمان المُعاش في التكرّس الرهباني وخدمة الآخرين، لاسيما الصغار والضعفاء. إن هذه القديسة التي عاشت بين القرنين التاسع عشر والعشرين، هي اليوم أيضا شاهدة مثالية على الرجاء [10] لضحايا العبودية الكثيرين، وتستطيع أن تعضد جهود جميع الذين يلتزمون بمكافحة هذه “الآفة في جسد البشرية المعاصرة، آفة في جسد المسيح” [11].
من هذا المنظار، أرغب بدعوة كل واحد، بحسب دوره ومسؤولياته الخاصة للقيام بأعمال أخوية إزاء مَن هم مقيّدون في حالة استعباد. لنسأل أنفسنا، كجماعة أو كأفراد، كيف نشعر عندما نلتقي في حياتنا اليومية، أو نتعامل مع أشخاص قد يكونوا ضحايا الاتجار بالكائنات البشرية، أو إذا ما علينا أن نختار شراء منتجات قد تكون صُنعت من خلال استغلال أشخاص آخرين. إن البعض منا، وبسبب اللامبالاة أو الانشغالات اليومية، أو لأسباب اقتصادية، يغضّون الطرف. وإن آخرين، بالعكس، يختارون فِعل شيء إيجابي والالتزام في هيئات المجتمع المدني أو القيام بتصرفات صغيرة يومية ـ ولهذه التصرفات قيمة كبيرة! ـ كتوجيه كلمة، تحية، “صباح الخير”، أو ابتسامة، وهي لا تكلّفنا شيئا لكنها قادرة على إعطاء رجاء، فتح دروب، تبديل حياة شخص يعيش في الخفاء، وتبديل حياتنا أيضا إزاء هذا الواقع.
ينبغي علينا الاعتراف بأننا أمام ظاهرة عالمية تفوق قدرات جماعة واحدة أو بلد. وللقضاء عليها، ينبغي التحرّك بأحجام مماثلة لأحجام الظاهرة نفسها. ولهذا السبب، أوجه نداء ملحا لجميع الرجال والنساء ذوي الإرادة الطيبة، ولجميع الذين، عن قريب أو بعيد، وعلى أعلى المستويات في المؤسسات، هم شهود على آفة العبودية المعاصرة، كي لا يجعلوا أنفسهم متواطئين في هذا الشر، وكي لا يغضّوا النظر عن آلام إخوتهم وأخواتهم في الإنسانية، المحرومين من الحرية والكرامة، بل أن يتحلّوا بشجاعة أن يلمسوا جسد المسيح المتألم [12] الذي يجعل نفسه مرئيًا من خلال الوجوه التي لا تُحصى لأولئك الذين يدعوهم هو نفسه “إخوتي هؤلاء الصغار” (متى 25، 40. 45).
نعلم أن الله سيسأل كل واحد منا “ماذا فعلتَ لأخيك ؟” (راجع تكوين 4، 9 ـ 10). إن عولمة اللامبالاة التي تُرخي بثقلها اليوم على حياة العديد من الأخوات والإخوة، تتطلّب منا جميعا أن نكون صانعي عولمة التضامن والأخوّة القادرة على إعطائهم الرجاء مجددا، وتمكينهم من استعادة السير بشجاعة عبر مشاكل زمننا والرؤى الجديدة التي يحملها معه والتي يضعها الله بين أيدينا.
الفاتيكان