في نهاية الحياة نور وسلام – بقلم الأب نادر ميشيل اليسوعيّ
المقدّمة:
في ذهن أغلب الناس، يقترن التفكير في نهاية الحياة بالخوف والقلق والاضطراب، وهذا شعور طبيعيّ لأنّ الموت، وإن كان جزءًا من واقعنا البشريّ فهو غريب عنّا، وكما يقول سفر الحكمة “والموت دخل العالم بحسد أبليس” (حك 2: 24). في الحقّ، لم نُخلق للموت، وتظل الرغبة في الحياة قويّة، عميقة في داخل كلّ إنسان، ويبقى الموت عدوًا بغيضًا لا يدري المرء كيف يقهره. ويكمن الخوف من الموت في مواجهة المجهول، فما من أحد عاد من الموت وأخبرنا بما يحدث بعده، وكيف يكون حالنا ولقاؤنا مع الله، وما معنى الجنة والجحيم؟ ونحمل كلّنا صورًا مقلقة عن الدينونة تلقيناها من محيطنا الأسريّ والكنسيّ، ومن ثقافة المجتمع المحيط بنا. وفي نهاية الحياة، عادةً ما يسترجع الإنسان عمره بأحداثه ومواقفه المختلفة، وقد يشعر بالتأنيب حيال أفعال معيّنة جرحت علاقته بالله وبالآخرين، أو بالندم على خطوات إيجابيّة لم يقدم عليها.
يدعونا يسوع إلى الإيمان بأنّه الحياة، من يعدّ لنا مكانًا لأنّ “في بيت أبي مساكن كثيرة” (يو14: 2)، وبأنّ من أكل جسده لا يموت بل يحيا للأبد (يو6: 50-51). فأسئلتنا الكثيرة عن الموت تجد استنارة عظيمة في الإيمان بمحبّة الله التي ظهرت في حياة يسوع، أعماله وتعاليمه، موته وقيامته. لقد ذاق الموت مثلنا، وعانى النزاع في بستان الزيتون، وأسلم روحه في الإيمان بمحبّة أبيه. عرف يسوع مخاوفنا وتجاربنا، ولكن ظل مؤمنًا بأنّ حياته ومصيره هما بين يديّ أبيه، “وهو في أيّام حياته الأرضيّة رفع بالدموع صلواته وتضرّعاته إلى الله القادر أن يخلّصه، لذلك استمع الله لصلاته وأقامه من بين الأموات (عب 5: 7). وبالحقّ، أمام الموت، لا سبيل لنا إلا الرجاء في ربّ الحياة والإيمان بيسوع المسيح الذي صار إنسانًا معنا ومن أجلنا، وأعلن محبّة الله أبيه الفيّاضة على البشر، وبالأخصّ حين ينال منهم المرض ويقترب الموت. إنّ ربّنا هو إله الحياة والفرح والسلام، وهو معنا في كلّ أيام حياتنا حتّى نلتقيه وجهًا لوجه في النور الذي لا تدركه الظلمة (يو1: 5).
وتُطرح علينا في نهاية الحياة تساؤلات أخلاقيّة كثيرة، نعرضها من منظور إنسانيّ يوضح واقع الإنسان في نهاية حياته، وآخر فكريّ ولاهوتيّ نقدّم فيه موقف الكنيسة الكاثوليكيّة ونستطلع المواقف السياسيّة والتشريعيّة المرتبطة بهذه الموضوعات. نبدأ في الفصل الأوّل بعرض واقع الإنسان في نهاية الحياة وحاجاته المختلفة وكيفيّة الردّ عليها، ونتوقّف بالأخصّ على إعلامه بحقيقة مرضه، ومن ثمَ نتطرّق إلى موضوعيّ المزايدة العلاجيّة والامتناع عن العلاجات غير المتناسبة، ونقدّم آليات الوصول إلى وضوح رؤية في هذه الظروف واتخاذ قرار أخلاقيّ صحيح. وفي الفصل الثاني، ندرس موضوع الألم ونعرض المواقف الإنسانيّة والطبيّة الواجب اتخاذها في هذه الحالات، ونقدّم عمل مراكز علاج الألم والعناية المُلطّفة وطبيعة الخدمة المقدّمة فيها. ونتطرّق إلى موضوع الموت الرحيم والمساعدة على الانتحار، ونعرض بعض الخطوات لمساعدة المرضى في نهاية حياتهم. ويقودنا هذا كلّه في الفصل الثالث إلى توضيح المراحل المختلفة التي يمرّ بها الشخص الذي يعاني من مرض خطير وكيفيّة مرافقته ومساعدة أسرته في كلّ مرحلة.
ونسعى من خلال عرضنا إلى أن نساعد في الوقت نفسه المرضى الذين يواجهون نهاية حياتهم ومن يعيشون معهم هذه الأوقات من ذويهم وأصدقائهم، وأن نعاون الأطبّاء والممرضات الذين يعتنون بهم، وكذلك الرعاة والمرافقين الروحيّين الذين يتردّدون عليهم. فهذه المرحلة دقيقة وعصيبة، يحيط بها ألم الفراق ومعاناة المرض، ممّا يصيب الناس بالتخبّط والارتباك، ويسود الخوف بل والفزع على الجميع، حتّى وإن لم يفصحوا عنهما بوضوح. إنّ هذه الأوقات مؤلمة للغاية، فلا يمكن أحدٌ أن يبقى غير مكترث أمام موت إنسان، مهما عاش ورأى من قبل. ووسط الأزمة الإنسانيّة هذه، يضطرب الفكر وتشتعل المشاعر، فنكون في أشدّ الحاجة إلى ما ينير بصائرنا ويساعدنا على ترتيب مشاعرنا، حتّى نصل إلى القرار الأمثل ونساعد الإنسان في نهاية حياته على الوجه الأمثل، ونصل جميعًا إلى النور والسلام.
ونعتمد في هذا الكتاب على خبرة فاقت العشرين عامًا في التدريس والمشاركة في مؤتمرات علميّة وإعطاء ندوات تكوينيّة للرهبان والعلمانيّين والإكليريكيّين، وعلى نعمة مرافقة الكثيرين في نهاية حياتهم، والعمل كطبيب في أحد مراكز علاج الألم والعناية المُلطّفة في أنجلترا. في آخر الكتاب نقدّم ملحقًا يشمل أوّلاً بروتوكول تمّ إعداده بواسطة فريق من الأطبّاء والممرضات والإداريّين العاملين بمستشفى الأوتيل ديو ببيروت، وتشرّفت بإدارته، ويهدف لمساعدة الفريق الطبّيّ على الوصول إلى تقييم واضح وموضوعيّ في نهاية الحياة ومن ثمَ إلى قرار أخلاقيّ مع العائلة يصب في مصلحة المريض، ويضم ثانيًا ترجمة لإعلان الكنيسة الكاثوليكيّة حول الموت الرحيم الذي صدر عن مجمع عقيدة الإيمان في مايو (آيار) 1981.
يسوعيون