“خارطة” لقراءة الرسالة البابوية العامة الجديدة “كن مسبحاً”
إيكولوجيا متكاملة تُصبح نموذجًا جديدًا للعدالة لأن الطبيعة ليست مُجرّد إطار للحياة البشريّة: هذا هو جوهر الرسالة العامة الثانية للبابا فرنسيس، “كن مُسبَّحًا” حول العناية بالبيت المُشترك والتي تمّ تقديمها ظهر اليوم الخميس خلال مؤتمر صحفي في دار الصحافة التابعة للكرسي الرسولي تخلّله مداخلة لرئيس المجلس البابوي للعدالة والسلام الكاردينال بيتر توركسون. تأخذ الوثيقة عنوانها من ابتهال القديس فرنسيس الأسيزي في “نشيد المخلوقات”، وتُقسم إلى ستة فصول. تجمع الرسالة العامة أيضًا، في نظرة مجمعيّة، تأملات عديدة من مجالس الأساقفة في العالم وتُختتم بصلاتين، الأولى ما بين الأديان والثانية مسيحيّة للحفاظ على الخليقة.
“كن مُسبَّحًا يا ربي لأختنا وأمنا الأرض”: يضع الأب الأقدس نفسه على خطى القديس فرنسيس الأسيزي ليشرح أهميّة إيكولوجيا متكاملة تصبح نموذجًا جديدًا للعدالة يرتبط فيه ارتباطًا وثيقًا الاهتمام بالطبيعة والمساواة تجاه الفقراء والالتزام في المجتمع. في هذه الفصول الستّة يشدّد البابا فرنسيس بأن أرضنا تُساء معاملتها وتُنهب، ويطلب “ارتدادًا إيكولوجيًّا” و”تغييرًا للمسار” لكي يتحمّل الإنسان مسؤوليّة التزام من أجل “العناية بالبيت المشترك”. التزام يتضمّن أيضًا اقتلاع الفقر والاهتمام بالمعوزين والحصول المنصف، للجميع، على موارد الكوكب.
تُشخّص الرسالة العامة أيضًا الشرور التي تضرب الأرض: التلوّث، التغييرات المناخيّة، غياب التنوع البيولوجي والدَّين الإيكولوجي بين شمال وجنوب العالم والمرتبط بفقدان التوازن التجاري والمركزية البشريّة وهيمنة التكنوقراطيّة والشؤون الماليّة التي تحمل على حماية المصارف على حساب الشعب، وإلى ملكيّة خاصة لا تخضع للتوزيع العام للخيور. وتبدو واضحة سيطرة ثقافة الهدر التي تؤدي إلى استغلال الأطفال، وترك المسنين واستعباد آخرين، وإلى ممارسة الاتجار بالكائنات البشرية وبـ”الألماس الملطخ بالدماء”. إنه منطق العديد من عصابات المافيا، يكتب البابا فرنسيس، ومنطق التخلص من الأطفال الذين لم يولدوا بعد لأنهم لا يتلاءمون مع مخططات الوالدين.
إزاء هذا كلّه، تشرح الرسالة العامة بأننا بحاجة ملحّة لـ “ثورة ثقافيّة شُجاعة” تُحافظ في المقام الأوّل على قيمة وكرامة كل حياة بشريّة، لأن الدفاع عن الطبيعة لا يتماشى مع تبرير الإجهاض وكل سوء معاملة تجاه مطلق أي مخلوق يتناقض مع الكرامة البشريّة. هذا ويشدّد الحبر الأعظم في رسالته العامة على ضرورة الدفاع عن العمل والذي يشكل جزءًا من معنى الحياة على هذه الأرض، ويطلب باسم الخير العام حوارًا بين السياسة والاقتصاد. وبالتالي وعلى المستوى الدولي فإن الحبر الأعظم لا يتوانى عن تقديم أحكام قاسية حول القمم العالمية حول البيئة والتي لم تلبي الإنتظارات بسبب غياب قرارات سياسيّة. أما على المستوى الوطني يحث البابا فرنسيس السياسة على الخروج من منطق الربح الفوري والفساد من خلال اتخاذ قرارات نزيهة وشفافة. فالمطلوب هو اقتصاد جديد أكثر تنبهًا للأخلاق.
هذا وتشدّد الرسالة العامة أيضًا على ضرورة الاستثمار في التربية على إيكولوجيا متكاملة لنفهم أن البيئة هي عطيّة من الله وإرث مشترك ينبغي علينا إدارته ولا القضاء عليه. ولهذا تكفي تصرفات صغيرة يومية: كفصل النفايات وعدم هدر المياه والأكل وإطفاء الأضواء غير اللازمة، فنتمكن بهذه الطريقة من أن نشعر مجددا بأننا لدينا مسؤولية إزاء الآخرين وإزاء العالم، وبأنه يستحق الأمر أن نكون صالحين ونزيهين. وختامًا تدعونا الرسالة العامة للنظر إلى الأسرار ولاسيما إلى الافخارستيا التي توحد الأرض والسماء وتوجّهنا لنكون حرّاسًا للخليقة. فيرتفع عندها تسبيحنا لأننا في النهاية، وأبعد من الشمس، سنلتقي بجمال الله وجهًا لوجه.
ننشر فيما يلي “خارطة” للرسالة العامة “كن مُسبَّحًا” كوسيلة تساعدنا في قراءة أولى لهذه الرسالة
كُن مُسبَّحًا: “خارطة”
نظرة شاملة
“ما هو نوع العالم الذي نريد تركه للذين سيأتون من بعدنا، للأطفال الذين يكبرون؟” (160). هذا السؤال هو في صميم الـ “كُن مُسبَّحًا” الرسالة العامة المُنتظرة حول العناية ببيت البابا فرنسيس المشترك. ويتابع: “هذا السؤال لا يتعلّق فقط بالبيئة بشكل منعزل، لأنه لا يمكننا أن نطرح السؤال بشكل جزئيّ” وهذا الأمر يقودنا لنتساءل حول معنى الوجود والقيم التي تقوم عليها الحياة الاجتماعيّة: “لأي هدف جئنا إلى الحياة؟ لماذا نعمل ونجاهد؟ لماذا تحتاج إلينا هذه الأرض ؟”: “إن لم يتجاوب في داخلنا صدى هذا السؤال الأساسي – يقول الحبر الأعظم – فلا أعتقد أن مخاوفنا البيئيّة سيكون لها تأثيرات هامة”. تأخذ الرسالة العامة الاسم من ابتهال القديس فرنسيس، “كُن مُسبَّحًا، يا سيّدي”، الذي يذكِّر في نشيد المخلوقات أن الأرض، بيتنا المُشترك، “هي أيضًا كأُخت نتشارك معها الوجود، وكأُمٍّ جميلة تحتضننا بين ذراعيها” (1). “نحن أيضًا تراب (راجع تكوين 2، 7). جسدنا ذاته مكوّن من عناصر الأرض، وهواؤها هو الذي نتنسّمه، وماؤها هو الذي ينعشنا ويجدّدنا” (2). والآن، هذه الأرض، التي تُساء معاملتها وتُخرَّب تنتحب وأنينها يتّحد بأنين جميع الذين تركهم العالم. يدعو البابا فرنسيس للإصغاء إليهم ويطلب من الجميع ومن كل شخص – أفرادًا وعائلات وجماعات محليّة ووطنيّة وجماعة دوليّة – “توبة بيئيّة” بحسب عبارة القديس يوحنا بولس الثاني، أي “تغير مسار” وأن يأخذوا على عاتقهم جمال ومسؤوليّة التزام من أجل “الاهتمام بالبيت المُشترك”. في الوقت عينه يعترف البابا فرنسيس بأنّه “يُلاحظ وعي متزايد حول البيئة وحول العناية بالطبيعة، وينمو قلق صادق ومؤلم بسبب ما يحدث لكوكبنا” (19)، فيشرّع نظرة رجاء تسطع في الرسالة العامة بأسرها وتبعث للجميع رسالة واضحة ومُفعمة بالرجاء: “ما زال بغمكان البشريّة أن تتعاون من أجل تعمير بيتنا المُشترك” (13)؛ “فالكائن البشريّ ما زال قادرًا على التدخُّل بشكل إيجابيّ” (58)؛ “لم نخسر بعد كل شيء، لأن البشر القادرين على الانحطاط إلى أقصى الحدود، هم أيضًا قادرون على تخطّي ذواتهم والعودة من جديد لاختيار الخير والتجدّد” (205). يتوجّه البابا فرنسيس بالتأكيد إلى المؤمنين الكاثوليك، مُستعيدًا كلمات القديس يوحنا بولس الثاني: “المسيحيّون يوقنون بوجه خاص أن واجباتهم ضمن الخلق ومسؤولياتهم حيال الطبيعة والخالق هي جزء من إيمانهم” (64)، ولكن يقترح “بشكل خاص الدخول في حوار مع الجميع حول بيتنا المُشترك” (3): الحوار موجود في النص بأسره ويصبح في الفصل الخامس الأداة لمواجهة المشاكل وحلّها. منذ البدء يذكّر البابا فرنسيس أيضًا بأن “هناك كنائس وجماعات مسيحيّة أخرى – وكذلك ديانات أخرى – قد طوّرت اهتمامًا عميقًا وفكرًا ثمينًا” حول موضوع الإيكولوجية (7). لا بل تأخذ على عاتقها بوضوح المساهمة، انطلاقًا من مساهمة “البطريرك المسكوني بارثولوميوس” (7)، الذي تمَّ ذكره بإسهاب في العددين 8 – 9 مرّات عديدة، ومن ثمّ يشكر الحبر الأعظم رواد هذا الالتزام – أفرادًا أو منظمات أو مؤسسات – ويعترف بأن “خواطر الكثير من العلماء والفلاسفة واللاهوتيين والمنظّمات الاجتماعيّة الذين أغنوا فكر الكنيسة في قضايا كهذه” (7) ويدعو الجميع للاعتراف “بالمساهمة الغنيّة التي يمكن أن تقدّمها الأديان لصالح إيكولوجية شاملة ومن أجل نمو كامل للجنس البشري” (62).
إن مسيرة الرسالة العامة قد رسمت في العدد 15 وتتفصّل في ستة فصول. يتم الانتقال من إصغاء إلى حالة انطلاقًا من أفضل الإنجازات العلميّة المتوفرة اليوم (الفصل الأول)، وصولاً إلى حوار مع الكتاب المقدّس والتقليد اليهودي- المسيحي (الفصل الثاني)، من خلال تحديد جذور المشاكل (الفصل الثالث) في تكنوقراطيّة وفي عزلة مرجعيّة ذاتيّة مفرطة للكائن البشري. إن اقتراح الرسالة العامة (الفصل الرابع) هي “إيكولوجيا متكاملة تتضمّن بوضوح البعد الإنساني والاجتماعيّ” (137)، المرتبطة بشكل وثيق بمسألة البيئة. في هذا المنظار، يقترح البابا فرنسيس (الفصل الخامس) بدء حوار صادق، على جميع مستويات الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، ينظّم أساليب تقريريّة شفّافة، ويذكّر (الفصل السادس) بأنه لا يمكن لأي مشروع أن يكون فعّالاً إن لم يُحرِّكه ضمير مبني ومسؤول، من خلال اقتراح أفكار للنمو في هذا الاتجاه على مستوى تربوي وروحي وكنسي وسياسي ولاهوتي. ينتهي النص بصلاتين، الأولى موجّهة للمقاسمة مع جميع الذين يؤمنون بـ “إله خالق وقدير” (246) والأخرى موجّهة للذين يؤمنون بيسوع المسيح، على وقع لازمة “كُن مُسبَّحًا” التي بها تُفتتح وتُختتم الرسالة العامة. يتخلل النص بعض المواضيع الأساسيّة المطروحة من وجهات نظر مختلفة تمنحها وحدة قويّة: “العلاقة الوثيقة بين الفقراء وهشاشة الأرض؛ الاقتناع بأن كلّ شيء في العالم هو مترابط ارتباطًا عميقًا؛ نقد النموذج الجديد وأشكال السلطة الناجمة عن التكنولوجية؛ الدعوة للبحث عن طرق أُخرى لفهم الاقتصاد والتقدّم؛ القيمة الخاصة لكل مخلوق؛ المعنى الإنساني للإيكولوجية؛ ضرورة القيام بمناظرات صادقة ونزيهة؛ المسؤوليّة الخطيرة التي تتحمّلها السياسة الدوليّة والمحليّة؛ ثقافة الهدر واقتراح أسلوب حياة جديدة” (16).
الفصل الأوّل – ما يحدث لبيتنا المشترك
يتضمّن الفصل الأول الإنجازات العلميّة الحديثة في مجال البيئة كأسلوب للإصغاء إلى صرخة الخليقة، “تحويل ما يحدث في العالم إلى ألم شخصيّ، وبالتالي تحديد ما يمكن أن يقدّمه كل فرد” (19). فتتمُّ هكذا مواجهة “الجوانب المتعددة للأزمة الإيكولوجية الحاليّة” (15). التغييرات المناخيّة: “تمثّل التغييرات المناخيّة مشكلة عالميّة ذات أبعاد بيئيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وتوزيعية وسياسيّة، وهي تُشكّل إحدى التحديات الحاليّة للبشريّة” (25). إذا كان “المناخ خيرًا عامًّا للجميع ومن أجل الجميع” (23) فسيقع الوقع الأكبر لتبدُّلاته على الأشد فقرًا، لكن العديد “من الذين يتحكمون بأهمّ الموارد والقدرات الاقتصاديّة أو السياسيّة يضعون جل تركزهم، قبل كلّ شيء، على حجب المشاكل وإخفاء أعراضها” (26). إن عدم وجود ردود فعل على مآسي إخوتنا وأخواتنا هذه، هو علامة لفقدان حسّ المسؤولية تجاه أشقائنا، ذاك الحس الذي عليه يقوم أي مجتمع مدني (25).
مسألة المياه: يؤكّد الحبر الأعظم بوضوح أن “الحصول على مياه الشرب السليمة هو حق جوهري وعالمي وأساس من حقوق الإنسان، لأنه يحدد بقاء الأشخاص، ولهذا فهو شرط لممارسة حقوق الأشخاص الأخرى. إن هذا العالم عليه دَيّن اجتماعي خطير تجاه الفقراء الذين لا تصلهم مياه الشرب، لأن هذا يعني حرمانهم من الحق بالحياة، ذاك الحق المتأصل في كرامتهم غير القابلة للتساوم” (30).
الحفاظ على التنوّع البيولوجي: “آلاف الأصناف من النبات والحيوانات تنقرض سنويًّا ولن نتمكن بعد من معرفتها، ولن يراها أبناؤنا، فقد انقرضت للأبد” (33). فهي ليست مجرّد “موارد” يمكن استغلالها ولكنها تملك قيمة بذاتها. في هذا المنظار “إن الجهود التي يبذلها العلماء والتقنيون لمحاولة إيجاد حلول للمشاكل التي تسبب بها الكائن البشري تستحق الثناء والإعجاب. ولكن، عندما نتأمل بالعالم نلاحظ أن هذا المستوى من التدخل البشري، وهو غالبًا ما يكون في خدمة المالية والاستهلاكية، يُفقر الأرض التي نقطنها ويجعلها أقل جمالا، وأكثر محدودية ورمادية” (34).
الدَّين الإيكولوجي: في إطار أخلاقيّة العلاقات الدوليّة، تشير الرسالة العامة إلى وجود “دَين إيكولوجي حقيقيّ” (51)، بالأخصّ بين الشمال والجنوب. إزاء التبدّلات المناخيّة هناك “مسؤوليات متفاوتة” (52) ومسؤوليات البلدان المتطوّرة هي أكبر. في الإدراك لعمق الاختلافات بالنسبة لهذه المسائل يظهر تأثر البابا فرنسيس العميق بسبب “وهن ردود الفعل” إزاء مأساة العديد من الأشخاص والشعوب. وبالرغم من عدم غياب الأمثلة الإيجابيّة (58)، أشار البابا إلى “نوع من الإنكار وانعدام المسؤوليّة” (59). تنقص ثقافة مناسبة (53) والجهوزيّة لتغيير نمط الحياة والإنتاج والاستهلاك (59)، بينما نجد أنه من الملح “وضع نظام معياري يوفّر حماية للنظم الإيكولوجيّة” (53).
الفصل الثاني ـ إنجيل الخليقة
بغية مواجهة المشاكل المشار إليها في الفصل السابق، يعيد البابا فرنسيس قراءة روايات الكتاب المقدس، ويقدم نظرة شاملة نابعة من التقليد اليهودي ـ المسيحي ويفصّل “المسؤولية الكبيرة” (90) للكائن البشري حيال الخلق، والرابط الحميم بين كل المخلوقات وأن “البيئة هي ملك عام، إرث للبشرية بأسرها وهي مسؤولية الجميع” (95). في الكتاب المقدس، “إن الله الذي يُحرر ويخلّص هو نفسه الذي خلق الكون … فيه تلاقت العاطفة والقوة” (73). تحتل رواية الخلق مكانة مركزية في التفكير بالعلاقة بين الكائن البشري وباقي المخلوقات وبالخطيئة التي تكسر التوازن القائم بين الخليقة كلها: ” تحتوي روايات الخلق في سفر التكوين، بلغتها الرمزية والسرديّة، على تعاليم عميقة حول الوجود البشريّ وواقعه التاريخيّ. تشير هذه التعاليم إلى أن الوجود البشري يقوم على ثلاثة علاقات أساسية متّصلة ببعضها اتصالا وثيقا: العلاقة مع الله، ومع القريب ومع الأرض. وبحسب الكتاب المقدس، قد تمزقت هذه العلاقات الحيويّة الثلاث، ليس فقط خارجيًّا، إنما أيضًا بِداخِلنا. وهذا الانفصال هو الخطيئة” (66). “وإن صحّ أن المسيحيّين قد فسّروا الكتاب المقدس أحيانًا بطريقة غير دقيقة، إلا أنه علينا اليوم أن نرفض وبقوة، إمكانية تبرير هيمنة مطلقة للإنسان على باقي الخلائق” (67). الكائن البشري مسؤول عن العمل في بستان العالم وحراسته (راجع تكوين 2، 15)” (67)، مدركا أننا “فنحن لسنا الغاية الأخيرة للخلائق الأخرى. خلافا لذلك، فهي جميعًا تتحرّك معنا ومن خلالنا، نحو الهدف المشترك، والذي هو الله” (83).
“إن هذا لا يعني وضع جميع الكائنات الحيّة على نفس المستوى، وانتزاع من الكائن البشري تلك القيمة الخاصة التي تُلزِمه في الوقت عينه بمسؤولية كبيرة. ولا يفترض أيضًا تأليه الأرض، الذي قد يحرمنا من التعاون معها ومن حماية هشاشتها” (90). من هذا المنظار “إن كل قسوة تجاه أيّة خليقة كانت هي ضدّ كرامة الإنسان” (92)، لكن ” لا يمكن لشعورٍ بوحدة حميمة مع بقيّة مخلوقاتِ الطّبيعة أن يكونَ أصيلًا، إن لم يكن القلب، في الوقت نفسه، مفعمًا بالعطفِ والشفقةِ والاهتمامِ بالبشر” (91). ثمة حاجة إلى إدراك الشركة الكونية: ” لكوننا خُلِقنا من قِبَل الآبِ نفسِه، فإننا متّحدون برُبطٍ غير مرئية وأننا نُكَوِّن نوعًا من أسرةٍ عالميّة، […] وهذا ما يدفعنا إلى احترام مقدس ومُحب ومتواضع” (89). يُختتم الفصل بجوهر الوحي المسيحي: “يسوع الأرضي” مع “علاقته الملموسة والمُحبة جدًّا مع العالم”، “قائمًا من بينِ الأموات ومُمَجَّدًا، وحاضرًا في كل الخليقة بِسيادتِه على الكون” (100).
الفصل الثالث ـ الأصل البشري للأزمة الإيكولوجية
يقدم هذا الفصل تحليلا للأوضاع الحالية “بشكل يسمح بإظهار ليس فقط الأعراض وإنما الأسباب العميقة” (15)، في إطار الحوار مع الفلسفة والعلوم الإنسانية. تتمثل أول نقطة محورية لهذا الفصل بالتفكير حول التكنولوجيا: ويتم الإقرار بامتنان بالإسهام المُقدم لصالح تحسين ظروف الحياة (102 ـ 103)، بيد أن التكنولوجيا “تمنح بالأخص لأولئك الذين يملكون المعرفة والسلطة الاقتصادية لاستغلالها، هيمنةً رهيبة على مجمل الجنس البشري وعلى العالم بأسره.” (104). إن منطق السيطرة التكنوقراطية يؤدي إلى تدمير الطبيعة واستغلال الأشخاص والشعوب الأكثر ضعفا. ” يميلُ النموذجُ التكنوقراطي أيضًا إلى ممارسة سلطته على الاقتصاد والسياسة” (109)، ويحول دون الإقرار بأن “منطق السوق وحده لا يضمن النموّ البشريّ الكامل ولا التماسك الاجتماعي” (109).
وفي عصرنا الحالي نجد في الجذور إفراطا في المركزية الأنثروبية (116): فالكائن البشري لم يعد يعرف مكانته الصحيحة في هذا العالم ويتخذ موقفا يدور حول نفسه، يتمحور عليه حصريا وعلى سلطته. ويتمخض عن هذا منطقٌ “استعمل وارمِ” يبرر كل نوع من أنواع الإقصاء، بيئيا كان أم بشريا، ويعامل الآخر والطبيعة كمجرد سلعة ويقود إلى أشكال كثيرة من الهيمنة. إنه ذات المنطق الذي يدفع لاستغلال الأطفال جنسيًّا، ولهجر المسنين الذين لا يخدمون المصالح الشخصية، إلى المبالغة في تقييم قدرة السوق على تنظيم نفسها، وإلى ممارسة الاتجار بالبشر، والمتاجرة بجلود الحيوانات التي هي في خطر الانقراض وبـ”التجارة الدمويّة بالألماس”. إنه منطق العديد من جماعات الإجرام المنظمة، والمتاجرين بالأعضاء وبالمخدرات ومنطق التخلص من الأطفال الذين لا يلبون رغبة أهلهم. (123)
في هذا السياق تتطرق الرسالة العامة إلى مشكلتين أساسيتين في عالم اليوم. بدءا بالعمل: ” في أي إعداد لإيكولوجية شاملة، لا تستثني الكائن البشري، لا بدّ من إدخال قيمة العمل” (124)، كما أن “التوقّف عن الاستثمار في الأشخاص بهدف رفع المردود الفوريّ هو صفقة رديئة للمجتمع” (128). والمشكلة الثانية تتعلق بحدود التطور العلمي، مع إشارة واضحة إلى مسألة العضويات المعدلة وراثيًّا (132 ـ 136)، وهي “قضيّة معقّدة” (135). مع أن ” استخدامها في بعض المناطق قد أدى إلى نمو اقتصادي قد ساهم في حل بعض المشاكل، إلا أن هناك مشاكل هامة لا يجب التهاون بها” (134)، بدءا من “استحواذ عدد قليل من الأشخاص على الجزء الأكبر من تلك الأراضي المنتجة” (134). يفكر البابا فرنسيس بنوع خاص بالمنتجين الصغار وعمال الأرياف، بالتنوع البيولوجي، وبشبكات الأنظمة البيئية. من هنا تبرز الحاجة إلى “نقاش علمي واجتماعي، يكون مسؤولا وشاملا، وقادرًا على تحليل كل المعلومات المتوفّرة وتسمية الأشياء بأسمائها” انطلاقا من “البحوث المختلفة والمستقلة، ومتعددة التخصصات” (135).
الفصل الرابع ـ إيكولوجية متكاملة
إن لب المقترح الذي تقدمه الرسالة العامة هو الإيكولوجيا المتكاملة كنموذج جديد للعدالة؛ إيكولوجيا “تدمج بين المكان المحدد الذي يحتله الكائن البشري في هذا العالم وعلاقاته بالواقع الذي يحيط به” (15). وهذا يمنعنا من اعتبار الطبيعة كشيء منفصل عنا أو كمجرد إطار لحياتنا” (139). وهذا ينطبق على مختلف المجالات التي نعيش فيها: الاقتصاد والسياسة ومختلف الثقافات، لاسيما تلك المعرضة للخطر أكثر من سواها، وحتى في كل لحظة من حياتنا اليومية. إن النظرة المتكاملة تتطلب أيضا إيكولوجيا المؤسسات: ” إن كان كل شيء متصلا، فإن الحالة الصحية لمؤسسات مجتمع ما تنطوي على عواقب تؤثر في البيئة وفي نوعية الحياة البشرية: “فكلُّ إساءةٍ للتضامنِ وللتعايُشِ المتمدِّنِ تلحقُ أضراراً بالبيئةِ” (142).
يشدد البابا على أفكاره من خلال العديد من الأمثلة الحسية: ثمة رابط بين المسائل البيئة وتلك الاجتماعية والبشرية لا يمكن قطعه أبدا. هكذا “لا يمكن الفصل بين تحليل المشاكل البيئية وتحليل السياقات البشرية، والعائلية والتشغيلية والحضرية، وبين علاقة كل شخص مع ذاته” (141)، بما أنه “ليس هناك أزمتان منفصلتان، الأولى بيئية والأخرى اجتماعية، وإنما أزمة اجتماعية-بيئية واحدة ومعقدة” (139).
إن هذه الإيكولوجية البيئية “لا يمكن فصلها عن مفهوم الخير العام” (156)، لكن يجب فهمها بطريقة ملموسة: في سياق يومنا هذا الذي “نجد فيه حالات كثيرة من انعدام المساواة، وينمو عدد الأشخاص الذين يتم إقصاؤهم، ويُحرمون من الحقوق الإنسانية الأساسية”، الالتزام لصالح الخير العام يعني اتخاذ خيارات تضامنية على أساس “تفضيلي للأكثر فقرًا” (158). هذه هي أيضا الوسيلة الفضلى لترك عالم مستدام للأجيال المقبلة، لا عن طريق الشعارات، إنما من خلال الالتزام بالاعتناء بفقراء اليوم كما سبق أن أكد بندكتس السادس عشر: “إلى جانب التضامن الصادق ما بين الأجيال، لا بد من تأكيد الضرورة الأدبية الملحة لتضامن متجدد داخل الأجيال نفسها” (162).
الإيكولوجيا المتكاملة تعني أيضا الحياة اليومية التي توليها الرسالة العامة اهتماما خاصا لاسيما في البيئات المُدنية. إنه لمثيرٌ للإعجاب، إبداع وسخاء الأشخاص والجماعات القادرة على تخطي الحدود البيئة… وتعلم توجيه حياتهم وسط الفوضى وعدم الاستقرار المحيط بهم” (148). مع ذلك، فإن التنمية الأصيلة تتطلب تحسينا متكاملا لنوعية الحياة البشرية: فضاءات عامة، مساكن، وسائل نقل، الخ. (150 ـ 154). وجسمنا أيضا يضعنا في علاقة مباشرة مع البيئة ومع بقية الكائنات الحية. فمن الضروري قبول الجسد الخاص كهبة من لدن الله لاستقبال وقبول العالم بأسره كهبة من الآب وكبيت مشترك؛ في حين أن منطق الهيمنة على الجسد الخاص يتحول أحيانا إلى منطق بارع للهيمنة على الخلق” (155).
الفصل الخامس ـ بعض الإرشادات للتوجيه والعمل
يتطرق هذا الفصل إلى ما يمكننا وما يجب علينا فِعله. فالتحاليل لا تكفي فقط، وهناك حاجة لخطوط عريضة “للحوار وللعمل التي تُشرك على حدّ السواء كل واحد منا والسياسة الدولية” (15)، و”تساعدنا على الخروج من دوامة التدمير الذاتي الذي نغوص فيها” (163). وبالنسبة للبابا فرنسيس من الضروري ألاّ يتم التعامل مع بناء مسارات ملموسة بشكل إيديولوجي، سطحي أو اختزالي. ولهذا، لا بد من الحوار وهي كلمة ترد في عنوان كل قسم من هذا الفصل: ” هناك مناقشات، حول مسائل تتعلق بالبيئة، يصعب فيها التوصل إلى توافق […] إن الكنيسة لا تدعي تحديد المسائل العلمية، ولا أخذ محل السياسة، ولكني أدعو إلى نقاش صادق وشفاف، كي لا تُلحِقَ الحاجاتُ الخاصة أو الأيديولوجياتُ الضررَ بالخيرِ العام. ” (188).
وعلى هذا الأساس، لا يخشى البابا فرنسيس من إطلاق حُكم قاس على الديناميكيات الدولية الأخيرة: “إن القمم العالميّة حول البيئة في السنين الأخيرة لم ترقَ لمستوى التوقعات، ولغياب القرار السياسي، لم يتم التوصّل إلى اتفاقيات بيئيّة عالميّة مهمّة وفعّالة حقّا” (166). ويتساءل “لماذا نريد اليوم التمسّك بسُلطَةٍ سيرتبط ذكراها بعدم قدرتها على التدخل عندما كان الأمر ضروريًّا وملحًا؟” (57). وبالمقابل هناك حاجة، كما كرّر الباباوات مرات كثيرة، بدءا من السلام في الأرض، إلى أشكال ووسائل فعالة لإدارة عالميّة (175): “نحن بحاجة للاتفاق حول أنظمة إدارة، لكل الأمور التي يُطلق عليها الخيرات المشتركة الشاملة” (174)، ذلك أنه “لا يمكن ضمان حماية البيئة فقط على أساس الحسابات المالية للتكاليف والفوائد. فالبيئة هي إحدى الخيرات التي لا تستطيع آليات السوق الدفاع عنها أو تعزيزها بشكل كاف” (190، تذكير بما جاء في ملخّص التعليم الاجتماعي للكنيسة).
في هذا الفصل أيضا، يشدد البابا فرنسيس على تعزيز عمليات اتخاذ قرارات نزيهة وشفافة، للتمكّن من “تمييز” السياسات والمبادرات في مجال الأعمال والتي تستطيع أن تقود إلى “تنمية حقيقية متكاملة” (185). وبشكل خاص، إن دراسة التأثير البيئي لمشروع جديد “تتطلّب عمليات سياسية شفافة، وخاضعة للحوار، في حين أن الفساد الذي يُخفِي التأثير البيئي الحقيقي لمشروع ما، مقابل الحصول على منافع خاصة، يحمل على إبرام اتفاقيات مُبهمة تتهرب من واجب توفير المعلومات ومن النقاش المتعمق” (182). وإنه لملحّ بوجه خاص النداء الموجَّه إلى من يشغل مناصب سياسية، كي يتم الابتعاد عن منطق الفعّالية المهيمن (181) اليوم: ” ولكن إن امتلك شجاعة القيام بهذا، فإنه سيتمكن مجددًا من التعرف على الكرامة التي أعطاها اللهُ إياه كشخص، وسيترك، بعد مروره في هذا الزمن، شهادة مسؤولية سخية” (181).
الفصل السادس ـ تربية وروحانية إيكولوجية
يتطرق الفصل الأخير للتوبة الإيكولوجية الذي تدعو إليه الرسالة العامة. إن جذور الأزمة الثقافية تتحرّك بعمق وليس من السهل تغيير العادات والتصرفات. إن التربية والتنشئة تبقيان تحديين أساسيين: “يحتاج كل تغيير إلى دوافع ومسيرة تعليمية” (15)؛ بإشراك كل بيئات التربية، وفي طليعتها “المدرسة، والعائلة، ووسائل التواصل، والتعليم الديني” (213). إن الانطلاقة هي في “السعي إلى نمط آخر من الحياة” (203 ـ 208)، يفتح الإمكانية أيضا “لممارسة ضغط سليم على أصحاب السلطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية” (206). هذا ما يحدث حين تنجح حركات المستهلكين في “تغيير تصرفات الشركات، وإجبارها على تقييم التأثيرات البيئية ونماذج الإنتاج” (206).
هذا ولا يمكن التقليل من أهمية مسيرات تربية بيئية قادرة على التأثير على تصرفات وعادات يومية، من تخفيض استهلاك المياه مرورا بفرز النفايات “فإطفاء الأنوار غير اللازمة” (211): “فالإيكولوجية المتكاملة تتكوّن أيضًا من مبادرات بسيطة يوميّة، نكسر من خلالها منطق العنف، والاستغلال، والأنانية” (230). وسيكون كل ذلك أكثر سهولة انطلاقًا من نظرة تأملية متأتيّة من الإيمان: “فالتأمل بالعالم، بالنسبة للمؤمن، لا يتم من الخارج وإنما من الداخل، عبر الإقرار بالأواصر التي وحدّنا بها الآب مع كل الكائنات. فضلا عن ذلك، تحمل التوبة الإيكولوجية المؤمن، عبر تنمية قدراته الخاصة التي وهبها له الله، على إثراء إبداعه وحماسه” (220). ويتم التذكير بما جاء في فرح الإنجيل: “إن القناعة، المعاشة بحرية وبوعي، هي محرِّرة” (223) كما أن “السعادة تكمن في معرفة وضع حدود لبعض الحاجات التي تُربكنا، والبقاء هكذا منفتحين على الإمكانيات المتعددة التي تقّدمها الحياة” (223)؛ وبهذه الطريقة يصبح من الممكن “أن نشعر مجدّدًا بأننا بحاجة بعضنا إلى بعض، وأنه تقع علينا مسؤولية تجاه الآخرين وتجاه العالم، وأنه أمر يستحقّ العناء أن نكون صالحين وصادقين” (229).
يرافقنا القديسون في هذه المسيرة، كما أن القديس فرنسيس الذي يُذكر مرات كثيرة هو”المثال النموذجي للاعتناء بما هو ضعيف وفي إيكولوجية شاملة، عاشهما بفرح وبأصالة” (10) وفيه “نشعر إلى إي حد يصعب الفصل بين الاهتمام بالطبيعة، والعدالة تجاه الفقراء، والالتزام في المجتمع، والسلام الداخلي” (10). وتذكّر الرسالة العامة أيضا بالقديس بندكتس والقديسة تريز دو ليزيو والطوباوي شارل دو فوكو. وبعد الرسالة العامة “كن مسبّحًا”، ينبغي على فحص الضمير، الوسيلة التي أوصت بها الكنيسة دائما لتوجيه حياتها في ضوء العلاقة مع الرب، أن يشمل بُعدًا جديدًا، آخذًا في الاعتبار لا طريقة عيش الشركة مع الله والآخرين ومع أنفسنا وحسب، وإنما أيضا مع كل المخلوقات والطبيعة.
الفاتيكان