عيد انتقال سيدتنا مريم العذراء إلى السماء
من أكثر الأعياد قدماً ومحبة للعذراء مريم الكلية القداسة هو عيد انتقال العذراء لمجد السماوات بالنفس والجسد، أي بكامل كيانها البشري، بكامل شخصها. يُعد انتقال العذراء مريم بالنفس والجسد إلى السماء عقيدة من أهم العقائد المسيحية حول العذراء في الكنيسة الكاثوليكية. والعقيدة معناها حقيقة إيمانية إلزامية، بحيث لا يمكن لأحد أن يدعي الكثلكة ما لم يؤمن بها.
أشار نص سفر الرؤيا إلى مصير سيدتنا مريم العذراء، مصير مجد فائق الوصف لأنها متحدة بشكل كبير بالابن الذي تلقته بالإيمان وولدته في الجسد، وقاسمت بالكمال مجده في السماوات. “ظهرت آية عظيمة في السماء: امرأة ملتحفة بالشمس والقمر تحت قدميها، وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكبا، حامل تصرخ من ألم المخاض… فوضعت ابناً ذكراً، وهو الذي سوف يرعى جميع الأمم بعصاً من حديد” (رؤ 12، 1 – 2؛ 5). إن عظمة مريم، أم الله، الممتلئة نعمة، والخاضعة بالكامل لعمل الروح القدس، تعيش في سماء الله بكامل كيانها، نفساً وجسداً.
هكذا آمنت الكنيسة على مر العصور “أن أُمَّ الله الطاهرة، في ختام حياتها الأرضية، قد نُقِلَتْ نفساً وجسداً إلى المجد السماوي”. وهذا ما حدَّده البابا بيوس الثاني عشر في اليوم الأول من شهر تشرين الثاني عام 1950، سنة اليوبيل، عقيدةً إيمانية بشأن انتقال مريم المجيد إلى السماء، الذي يشيد به عيد اليوم. فقال البابا حينها: “إنها لحقيقة إيمانية أوحى الله بها، أن مريم والدة الإله الدائمة البتولية والمنزهة عن كل عيب، بعد إتمامها مسيرة حياتها على الأرض نُقِلَت بجسدها ونفسها إلى المجد السماوي”. ويبيّن البابا أن هذا العيد “لا يذكر فقط أن الفساد لم ينلْ من جسد مريم العذراء بل يذكر انتصارها على الموت أيضاً، وتمجيدها في السماء، على مثال ابنها وحيدها يسوع المسيح
أتى هذا الاعتقاد في الكنيسة الكاثوليكية متوافقاً مع الرؤية المسيحية لأمومة مريم البتول الإلهية وقداستها وحُبل بها بلا خطيئة. أولاً: بما أن أنها الوالدة المجيدة للمسيح مخلصنا وإلهنا واهب الخلود، فهو يهبها الحياة، وهي تشاركه إلى الأبد في عدم فساد الجسد. فهي متحدة اتحاداً وثيقا بابنها الإلهي وشريكة معه في كل شيء. ثانياً: القديس جرمانس من القسطنطينية يرى أن جسد مريم البتول، والدة الإله، نقل إلى السماء، ليس فقط بسبب أمومتها الإلهية، بل لقداسة خاصة شملت جسدها البتولي، فقال: “جسدك البتولي كلُه مقدسٌ وكله عفيف ولكنه مسكن لله. ولهذا فهو بعيد عن كل انحلال ولا يعود إلى التراب”. وأخيراً، الإنسان يموت بسبب الخطيئة المتوارثة منذ آدم، وبصفة أن العذراء لم ترث هذه الخطيئة الأصلية فهي بالتالي لا داعي لموتها. ومن هنا جاء تعليم الكنيسة الكاثوليكية “أن العذراء مريم، التي جنّبها الله وصمات الخطيئة الأصلية، والتي أكملت حياته الأرضية، رُفعت، بالنفس والجسد، إلى مجد السماء، وأعطاها الرب لتكون ملكة الكون، لتكون أكثر تطابقاً مع ابنه، رب الأرباب، المنتصر على الخطيئة والموت”، فنالت لامتيازاتها ألا يمسَّها فساد القبر ونُقلت نفساً وجسداً إلى السماء حيث تجلس الآن ملكة متألقة عن يمين ابنها، ملك الدهور.
أما في الكنائس الأرثوذكسية الشرقية فيرون أن الانتقال قد تمّ بعد فترة قصيرة من وفاتها، فعندما توفيت حسب التقليد
الشرقي في بستان الزيتون حيث نازع يسوع. وشهد الحدث من بقي حياً من التلاميذ الاثني عشر بعث جسدها بعد ثلاث أيام من جديد حياً وانتقلت نفسها وجسدها إلى السماء، علماً أنه يذكر في الكتاب المقدس عدد من الشخصيات التي رفعت أو انتقلت بدون موت إلى السماء كالنبي ايليا (2 ملوك 2/11) وأخنوخ (تكوين 5/20).
وقد ظهرت هذه العقيدة في كتابات آباء الكنيسة إذ يقول القديس يوحنا الدمشقي: “كما أن الجسد المقدّس النقي، الذي اتخذه “الكلمة الإلهي” من مريم العذراء، قام في اليوم الثالث هكذا كان يجب أن تُؤخذ مريم من القبر، وأن تجتمع الأم بابنها في السماء” ويتابع القول: “كان لا بد لتلك التي استقبلت في حشاها اللوغوس الإلهي، أن يتم انتقالها إلى أخدار ابنها… كان لا بد للعروسة التي اختارها الآب، أن تقيم في أخدار السماوات” (PG 96: 742). ويشير القديس يوحنا الدمشقي إلى هذا السر بعظة شهيرة فيقول: “اليوم حُملت العذراء إلى الهيكل السماوي… اليوم، التابوت المقدس الحي الحامل الإله الحي، التابوت الذي حمل في أحشائه صانعه، اليوم يرتاح في هيكل الرب الذي لم تبنه أيدٍ بشرية” (PG 96: 723)، أما القديس بطرس دميانوس فيقول: “في صعودها جاء ملك المجد مع أجواق الملائكة والقديسين لملاقاتها بزفةٍ إلهية؛ ولهذه الأقوال نجد صدىً في الكتاب المقدس ولاسيما نشيد الأناشيد (10/ 2).
وظهرت عقيدة انتقال العذراء أيضًا في الطقوس المسيحية المبكرة، وكذلك في إفراد عيد خاص لها يوم 15 آب يسبقه صوم مدته أربعة عشر يوماً؛ وقد عمّ هذا العيد الإمبراطورية البيزنطية ما بين 588-603، وادخله إلى كنيسة رومه البابا تيودورس الأول (642-649)، وهو من الإكليروس الأورشليمي. وأصل العيد أن كنيسة القدس كانت تقيم، منذ القرن الخامس في مثل هذا اليوم، عيداً لوالدة الإِله عُرف فيما بعد بعيد “رقاد مريم”، ثم بعيد “انتقال القديسة مريم”، منذ القرن الثامن.
كيف نعيش عيد الانتقال