stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

عن الكنيسة

أضواء على القانون الكنسيّ-فرنسوا عقل المريمي

1.1kviews

imagescalglj3d_01

I. الكنيسة والقانون:

إنّ الكنيسة مؤسّسة على صورة معلّمها ومثاله، وهي إن جاز لنا القول ذات طبيعتين: إلهيّة مقدّسة بيسوع المسيح الرّأس، وبشريّة تتألّف من جماعة المعمّدين المؤمنين بمبادئ يسوع وأسراره المقدّسة. لذا استعمل المجمع الفاتيكانيّ الثّاني أثناء مناقشته هذا الموضوع، عبارة “سرّ الكنيسة المقدّسة” Ecclesiae sanctae mysterium (نور الأمم 5). فمن حيث طبيعتها البشريّة، كان لا بدّ لهذه المؤسّسة من قوانين تدبيريّة وقواعد تنظيميّة تهدف أوّلا وآخرا، إلى خلاص نفوس أبنائها؛ أمّا مجموعة تلك القواعد فهي ما ندعوها اليوم بالقوانين الكنسيّة التي يتطلّبها طابع الكنيسة البشريّ، المنفتح على التّطوّر والتّقدّم والتّنظيم والتّدبير، لأنّها بتحديد أكثر دقّة هي “واقع مركّب من عنصرين: بشريّ وإلهيّ” sed unam realitatem complexam efformant, quae humano et divino coalescit elemento (نور الأمم 8) حسب تعبير المجمع نفسه؛ وعليه، إنّ مسألة القوانين الكنسيّة تندرج في سياق العنصر البشريّ الذي طالما يحتاج إلى تنظيم دائم[1] من أجل خير تلك الجماعة الكنسيّة التي “أنشئت ونظّمت كمجتمع في هذا العالم” (نور الأمم 8).

فالقانون الكنسيّ إذاً والمعروف أيضا بالحقّ القانونيّ هو بثابة النّظام العامّ التّشريعيّ الدّاخليّ والضّروريّ، لإدارة شؤون الكنيسة الكاثوليّكيّة كمؤسّسة، بطريقة دائمة وأساسيّة.

تتحدّر كلمة “قانون” من أصل يونانيّ Kanon وهي تعني قاعدة أو “قاعدة قانونيّة”؛ وفي اللغة اللاتينّية Iusو Lex. الأولى تعني قانون ينبثق منه مبدأ العدالة ومنهج الاجتهاد، والثّانية تعني الشّريعة، إذ تشمل مبدأ التّشريع بصورة عامّة وشاملة، ومنها تشتقّ عبارتا “تشريع ومشرِّع”. أمّا عندما نتكلّم اليوم عمّا يسمّى بالحقّ القانونّي فإنّنا ننطلق في الواقع من “القانون”Ius. ومن هنا يطلق على مجموعة القوانيّن الكنسيّة اللاتينيّة والشّرقيّة معا، في اللغة الللاتينيّة Codex Iuris Canonici، يضاف إليها دستور الكوريا الرّومانيّة “الرّاعي الصّالح” Pastor Bonus، للبابا الكبير يوحنا بولس الثّاني.

يعود تاريخ القانون الكنسيّ في الواقع إلى قانون عهد الرّسل ومجمع نيقيا،(325) يوم كانت كلمة “القانون” تعني أيضا “الإيمان” لذا يقال “قانون الإيمان النّيقاويّ”، لأنّه حدّد المبادئ الإيمانيّة الأساسيّة، ثمّ تبدّلت المصطلحات في ما بعد حيث أطلق على الحقائق الإيمانيّة عبارة “عقيدة” أو “عقائد”، وشَرَع القانون رويدا رويدا يتّخذ طابعا قانونيّا صرْفا وتنظيميا بحتاً، فنما وكبر في المجامع الكنسيّة المتعاقبة، ما بين القسطنطينّية وخلقيدونية وروما…، واتّسع وتطوّر عبر اللجان الكنسيّة المختصّة، حيث نضج على أيدي جهابذتها وأُصقِل على وهج نور علمهم وخبرتهم، فأصدره الأحبار الرّومانيّون قوانينَ خاصّة، ومراسيم رسوليّة ومجموعات قانونيّة، إلى أن وصل إلينا بشكله الحاليّ موحِّدا بمبادئه العامّة الكنيسة الكاثوليكيّة برمّتها، ومميِّزا بتفاصيله خصائص طقوسها وجمال تراثها وغنى تقاليدها وفرادة شخصيّة كلّ من كنائسها المشرقيّة ذات الحقّ المستقلّ، والتي تشكّل على تنوّعها إلى جانب شقيقتها الكنيسة اللاتينيّة، فروع شجرة العائلة الكنسيّة الكاثوليكيّة الكبرى.

II. مواقف بعض التّيارات الفكريّة:

إنّ نظرة المسيحيّين عموما إلى القانون الكنسيّ واللاهوتيّين خصوصا والمواقف الفكريّة لبعض المفكّرين والفلاسفة والمثقّفين المسيحيّين، متنوّعة تنوّع بيئتهم وثقافتهم وتاريخهم وجغرافيّتهم… وهذا أمر بديهيّ وطبيعيّ إذ لا بدّ لحركة التّفاعل القانونيّ الكنسيّ بجناحيها النّظري والتّطبيقيّ، أن تكون حافزا لظهور بعض التّيارات الفكريّة القانونيّة التي تملك نظرة خاصّة وموقفا متمايزا من القانون، وها نحن نجهد لحصرها بثلاثة مذاهب:

1. القَوْنَنَة(Juridisme) :

وربّما كان أفضل لنا تعريبها “التَّقَوْنُنْ” على وزن “التَّقَوْقُع”. إنّه تيّار عزّزه في وسط الكنيسة، بعض القانونيّين المتطرّفين المنغلقين الذي يعْزُون كلّ شيء إلى القانون. وكأنّي بهم يريدون “قَوْنَنَة” كلّ ما يحدث. طالما تُسْئمُك عباراتُهم الجامدة: “يقول القانون “… “ينصّ القانون على…” يجب تطبيق القوانين المقدّسة…” “أنتم تخالفون القانون…” “فعل غير صحيح… “لا يجوز…” فالقانون في عقيدتهم كتاب الكتب، يجب الرّكون إليه في كلّ المسائل. وينبغي تطبيقه حرفيّا. كأنّ الإنسان للقانون وليس القانون للإنسان. إنّها مغالاة ضالّة.

2. معاداة القانون (Antijuridisme):

للتّعريف بتاريخيّة المسألة، ندرج هنا الفيلسوف واللاهوتيّ الإنكليزيّ غِيُّوم دي أوكهام(1285-1347) Guillaume D’Ockham الذي ذهب إلى أنّ القانون الكنسيّ هو من إنتاج حكم الإكليروس وليس ثمرة تفاعل الإيمان والعقل؛ أمّا أعنف أتباع هذا التّيار في الواقع التّطبيقيّ، فكان مارتين لوتير Martin Luther الذي رفض كلّ التّعاليم والتّدابير والقرارات والأحكام والقوانين الصّادرة عن الكنيسة الكاثوليكيّة، فعاقبه الحبر الأعظم آنئذ بالحرم الكبير، وما كان من لوتر إلاّ أن أحرق علنا مرسوم الحرم وكتاب القوانين الكنسيّة، معلنا بذلك رفض الكنيسة الكاثوليكيّة وقوانينها والانشقاق عنها. إنّه موقف سلبيّ جذريّ تجاه القانون الكنسيّ، وقد تجدّد لاحقا بطريقة أخرى على المستوى النّظريّ، بُعيد المجمع الفاتيكاني الثّاني، لدى بعض الكهنة واللاهوتييّن وعدد من المؤيّدين. ويكفي التّنويه في هذا السّياق، بالفيلسوف واللاهوتيّ البرازيليّ Leonardo Boff الذي ذهب إلى أنّ ثمّة تناقض داخل الكنيسة ما بين عمل الموهبةEx spiritu وممارسة السّلطة الكنسيّة Ex officio[2].ممّا ساهم في انطلاقة ما عرف باللاهوت التّحرّريّ الذي انتشر بصورة خاصّة في بلدان أميركا اللاتينيّة.

يتعاطف بعض المسيحيّين اليوم، مع هذا المذهب المعادي للقانون من حيث يدرون أو لا يدرون. فهم يرون في القوانين الكنسيّة شريعة حرف لا روح فيها ولا حياة، بل إنّها فرّيسيّة جديدة على رأسها شلّة من الفرّيسيّين الجدد الذين يقدّمون القانون على الإنجيل.

ما هذا المذهب إلاّ ردّة فعل سلبيّة على تيّار”التّقونن” كما أسلفنا. إذ ما من تناقض بين القانون الكنسيّ والمبادئ الإنجيليّة العامّة. لأنّ قوانين الكنيسة ترتكز أوّلا وآخِرا على الإنجيل والحقائق الإيمانيّة النّهائيّة. إنّ مواجهة المغالاة بمغلاة نقيضة، هو أمر غير مُجدٍ في الواقع، كأعمى يقود أعمى إذ يقع الإثنان في حفرة التّطرّف والرّفضيّة والإنغلاق، من دون أن يصل أحد منهما إلى الحقيقة الموضوعيّة المنشودة.

3. الرَّوْحَنَة (Spiritualisme):

هناك أشخاص يعتقدون أنّ الحياة الرّوحيّة المتفلّتة من الأنظمة والتّنظيم والقواعد والقوانين، هي الحياة الفضلى والحرّة والمثاليّة. والجماعة الكنسيّة لهؤلاء هي كما الإنسان الفرد، لا تحتاج إلى قوانين وأنظمة، لأنّ ذلك يدفعها إلى التّعثّر بشريعة الحرف. لذا يجب أن نحيا بحسب الرّوح فقط على حدّ قولهم.

يندرج تيّار “الرَّوْحَنَة” في سياق “معاداة القانون”، فهو تحديث له إذ يمتلك مجموعة من التّعابير والمصطلحات المعاصرة تتلاءم مع ثقافة العصر ومنطقه الخاصّ.

إنّه موقف سلبيّ آخر تجاه القانون الكنسيّ، بل سوء فهم له ولأهدافه السّامية. وقولنا فيه هو عينه في ما سبقه.

III. إيضاح واستنتاج:

ما تجب معرفته قبل اتّخاذ أيّ موقف فكريّ نهائيّ تجاه القانون الكنسيّ، هو أنّ الكتاب المقدّس نفسه، يرتكز في عهده القديم على الشّريعة التي أعطاها الله لشعبه. ثمّة شريعة إلهيّة إذاً، وهذا أمر معروف. يكفي التّنويه بالوصايا العشر إن كنّا لسنا بصدد تعداد مجمل الشّرائع الإلهيّة الواردة في الأسفار المقدّسة؛ وهناك أيضا شرائع العهد الجديد وأعظمها المحبّة. ناهيك عن بعض القواعد القانونيّة التي أشار إليها بولس الرّسول في رسائله، بالنّسبة إلى الزّواج وأمور أخرى… لأجل هذا ارتكزت الكنيسة بطريقة جذريّة في صياغتها للقوانين على الكتاب المقدّس، كما أنّها استفادت من الأنظمة القانونيّة الوضعيّة في الإمبراطوريّة الرّومانيّة. مستخدمة ذلك لنشر البشارة السّارة في كلّ مكان. فانقسمت القوانين الكنسيّة آنئذٍ إلى إلهيّة: أي الوصايا والشّرائع الإيمانيّة والأدبيّة الموحاة في الكتاب المقدّس، وقوانين كنسيّة وضعت من قبل الكنيسة والبابوات والأساقفة… كالقوانين الليتورجيّة والطقسيّة – وتُسمّى أيضا “الرّوبريكات”- ودساتير دوائر الكرسيّ الرّسوليّ والأنظمة الخاصّة للمجالس البطريركيّة والأسقفيّة والرّعويّة… والقوانين والشّرائع الخاصّة، للكنائس المتمتّعة بحكم ذاتيّ نوعيّ وأنظمة أخرى لسائر المنّظمات الرّهبانيّة والمؤسّسات الكنسيّة والجمعيّات العامّة والخاصّة…

إنّنا بالطّبع أتباع شريعة روح لا شريعة حرف، “لانّ الرّوح يحيي وأمّا الحرف فيقتل” كما يقول بولس الرّسول. إنّما نحن بالأحرى أبناء “التجسّد”؛ تجسّد الكلمة الإلهيّ في عمق واقعيّة المادّة التي استعادت معنى قداستها وعلّة وجودها منه وحده. لذا نحن دعاة شريعة روح تتجسّد في الحرف فتحييه. فالحياة الروّحيّة تبثّ في القانون روح الحبّ فتنعش غايته الخيّرة، والقانون بدوره ينظّم مراحل حياة الرّوح ويرسم لها ضوابط محدّدة كي لا تجنح نحو المغالاة؛ وهو من صلب تعاليم الكنيسة المقدّسة. لذلك قال البابا يوحنّا بولس الثّاني إبّان إصداره مجموعة قوانين الكنائس الشّرقيّة سنة 1990، إنّ هذه القوانين التي يتمّ الآن إعلانها “يجب أن تُعدّ تكملةً جديدة لتعليم المجمع الفاتيكانيّ الثاني”.

وعليه، إنّ قانون الكنيسة لا يتعارض إطلاقا مع إنجيل مؤسِّسِها، فالإنجيل يقوم على الوحي، فيما العدالة التي يحميها القانون هي مطلب أوّليّ للمحبّة، جوهر الرّسالة الإنجيليّة وغايتها؛ وهذا ما قد أكدّه أيضا بعبارات أخرى البابا الآنف الذّكر، يوم إصداره مجموعة قوانين الكنيسة اللاتينيّة عام 1983، إذ قال إنّ هذه القوانين “ستمنح النّصيب الأهمّ للحبّ والنّعمة والموهبة الرّوحيّة”؛ “لأنّ خلاص النّفوس أسمى الشّرائع” Salus animarum suprema lexحسب القوانين الكنسيّة نفسها؛ ممّا يدحض كلّ ادّعاءات التّيارات المعادية للقانون. كما أنّ الواقعيَن “المؤسَّسَتيّ” و”المَوْهِبِيّ” للكنيسة اللذين أشرنا إليهما في البداية، لا ينفصلان ولا يتنقاضان، بل يجب أن يتعانقا ويتكاملا إلى ما لانهاية، ممّا ينسجم جوهريّا مع قول المشترع السّماويّ: “لا ينبغي لك أن تفعل هذه وتترك تلك”.

—————————

[1] Cf. Gianfranco Ghirlanda, “Perché un Diritto nella Chiesa? Un vero Diritto (…) sui generis”, in Periodica 90 (2001) 389-413.

[2] Cf. Communicationes, Allocutio Exc.mi Praesidis apud Universitatem Catholicam Mediolanensem “Il Diritto Canonico, perché?”, Vol. XXXIV-N.1, 2002

عن موقع زينيت العالمية