نار المحبة : ” جئت لألقي على الأرض ناراً ” ( لوقا ١٢ : ٤٩ )
جاء السيد المسيح ليلقي على الأرض ناراً جديدة ، هي نار المحبة ، لتقوم مكان النار القديمة التي هي : نار البغض والحقد والكذب والحسد والنميمة والكبرياء والكراهية والانانية ومحبة الذات والغيرة والسيطرة على الآخرين وتهميشهم و…
نسعى اليوم في تأملنا هذه الآية إلى فهَم وإدراك قول السيد المسيح هذا ، ونسأله أن يُطفىء في قلوبنا نار البغضاء القديمة باشكلها المتعددة ، ويُضرم في قلوبنا بدلاً منها نار المحبة الجديدة ، هذه النار ، نار المحبة التي أرادها علامة فارقة لتلاميذه وأتباعه حينما قال : ” أُعطيكم وصية جديدة : أحبوا بعضكم بعضاً ، كما انا أحببتكم … إذا أحبَ بعضكم بعضاً ، عرف الناس جميعاً أنكم تلاميذي ” ( يوحنا ١٣ : ٣٤ – ٣٥ ) .
1 – النار القديمة :
وهي نار لا تزال تشتعل في قلوب الناس منذ فجر الخليقة ، وهي التي حملت قايين على قتل أخيه هابيل حسدا وبغضاً وغيرةً ، وهي التي سبَبت للبشرية الويلات والمشاكل والحروب فقوَضت أركان الممالك ودكَت العروش وأزهقت الأرواح وأسالت الدماء ونشرت الخراب والدمار هنا وهناك .
هذه النار القديمة التي أشار إليها السيد المسيح : ” وأما الذي يخرج من الفم ، فإنه ينبعث من القلب ، وهو الذي ينجَس الإنسان . فمن القلب
تنبعث مقاصد السوء والقتل والزنى والفحش والسرقة وشهادة الزور والنميمة . تلك هي الأشياء التي تنجَس الإنسان ” ( متى ١٥ : ١٨ – ١٩ ).
وليست هذه المقاصد الشريرة سوى ألسنة تلك النار التي تنجَس ولا تطهَر ، تهدم ولا تبني ؛ لقد قال القديس بولس الرسول عن وصية المحبة
انها تمام الشريعة ( غلاطية ٥ : ١٤ ) . فالذي يحب أخاه يحترمه ولا يسعى إلى إيقاع الأذى به ولا يطيل لسانه إلى صيته ولا يده إلى رزقه . ويمكننا القول أن البغض كالكبرياء جرثومة كل شرَ , وناره ” تأكل بعضها ان لم تجد ما تأكله ” ، خلافاً للنار الجديدة التي جاء السيد المسيح يضرمها في قلوب الناس .
2 – النار الجديدة :
كان السيد المسيح ولا يزال : ” أيةً مُعرَضة للرفض ” ( لوقا ٢ : ٣٤ ) ، كما قال فيه سمعان الشيخ ، يوم قدَمه لله في الهيكل : ” إنه جُعل لسقوط كثير من الناس ، وقيام كثيرين منهم ” ( لوقا ٢ : ٣٤ ) . ومن عرفه مرَةً لا يمكنه أن يتناساه أبداً ؛ ومن سمع بتعاليمه تعذَر عليه أن يتجاهلها فيما بعد ؛ ولا سبيل إلى الوقوف منه موقف الحياد ؛ فإما أن تجمع معه ، كما قال ، وإما أن نفرَق ونبدَد ( لوقا ١١ : ٢٣ ) .
وإن لم نكن عوناً له كنا حرباً عليه ، وإما أن نتقيَد بتعاليمه ونعمل على نشرها ، وإما ان نخرج عليها ونغمض العيون عن أنوارها . ولهذا قال الرب يسوع : ” جئت لألقي على الأرض ناراً ” . وهي نار محبته ومحبة القريب . وفي سبيل محبة الله والقريب أصبح واجباً على الإنسان أن يجاهد نفسه ليصلَح فيها أميالها المعوجَة ويخفف أهواءها الثائرة ، ليمكَن جذوة هذه المحبة من الإشتعال في قلبه ، وتطهيره من مآثمه
وخطاياه ؛ وهي محبة لا تتغذى نارها إلاَ بالتضحية والآلام ، ولا يلامس لهبها القلوب إلاَ إذا مال المؤمنون على إستعداد للذهاب كالسيد المسيح إلى أبعد حدود البذل والعطاء . ولهذا قال الرب يسوع , بعد أن أعلن عن هذه النار الجديدة : ” عليَ أن أقبل معمودية ، فأي كرب أعانيه حتى تتمَ ” . وقد شبَه آلامه بعماد يجب أن يغطس في حوضه ، ليتمكن من إضرام نار محبته الجديدة في القلوب .
3 – الخلاف المزعج :
وكما سلك السيد طريق التضحية ليعرب عن محبته للناس ، لذا وجب على الناس أن يسلكوا الطريق عينيها ليعربوا عن محبَتهم . وكما تخلىَ عن مجده السماوي واتخذ ” صورة عبد ” ( فيليبي ٣ : ٧ ) ، على حد قول القديس بولس الرسول ، وجب على الإنسان أن يكفر بعاطفته البشرية ، ليتمكَن من اللحاق بمعلمه الإلهي . ولهذا قال المسيح المخلَص ” أو تظنون إني جئت لألقي السلام على الأرض ؟ أقول لكم : لا ، بل الخلاف ” ( لوقا ١٢ : ٥١ ) . وهذا يعني أن يسوع لم يأتي ليترك الناس يعيشون على هواهم وكما تعوَدوا من تراخٍ وكسل ، لا تثير همتَهم قضيَة ، ولكنه أرادهم على نكران الذات والابتعاد عن الأهل والأقرباء والأحباء والأموال وخيور الدنيا وغناها ، للسير وراءه وخدمته .
وإذا دارت المعركة في العائلة ، نرى نارها تشتعل في وجدان المؤمن وفي خلوة ضميره . ومن آثر على السيد المسيح أماً أو أباً أو أخاً أو أختاً أو غير ذلك من كل ما يستهوي القلوب ، كان غير جديراً به . ” من كان أبوه أو أمه أحبَ إليه مني ، فليس أهلاً لي . ومن كان ابنه أو ابنته أحبَ إليه مني ، فليس أهلاً لي ” ( متى ١٠ : ٣٧ ) . ذلك أنه يجب يكون السيد المسيح أول مخدوم ، كا قال أحد الأباء القديسين .
وهذا الخلاف الناشب في داخل الإنسان ، بينه وبين أمياله ، بينه وبين أقرب الناس إليه ، هذا الخلاف بالفعل مزعج ، ولذلك قال يسوع عنه :
” أو تظنون اني جئت لألقي السلام على الأرض ؟ أقول لكم : لا ، بل الخلاف ” .
4 – الخلاف الموحَد :
هذا الخلاف عرفه يسوع وقاسى منه في داخل عائلته البشرية ، وقد نشب الخلاف بينه وبين أفرادها حول رسالته . يقول القديس يوحنا
الانجيلي : ” وكان اخوته أنفسهم لا يؤمنون به ” ( يوحنا ٧ : ٦ ) .
وإذا كان يسوع قد أطاع أبويه ( لوقا ٢ : ٥١ ) ، فإنه ، مع ذلك ، قد أظهر بوضوح انه في حالة نشوب خلاف بين واجب الطاعة لله والطاعة للوالدين ، على المؤمن أن يطيع الله لا الوالدين . وهذا ما فعله يسوع يوم فقده والداه وذهبا يبحثان عنه ، وعندما وجداه لاماه ، فقال لهما :
” لم بحثتما عني ؟ ألم تعلما أنه يجب عليَ أن أكون عند أبي ” ؟
وهكذا فالسيد المسيح لم يبذر بذار الخلاف ، بل في الحقيقة ، عمل على توحيد القلوب على محبة الله ، والَفَ عائلة واحدة جديدة تربط بين أفرادها الرغبة في العمل بإرادة أبيه ؛ وهي العائلة الكنسية ، ينتشر أفرادها في العالم ، وتتسع آفاقها حتى تشمل الأرض والسماء بتعاليم ووصاياه الإلهية .
اللهم أطفىء فينا النار القديمة ، نار البغض في القلوب والنفوس ، وأضرم فيها النار الجديدة ، نار المحبة الإلهية اللاهبة .
+ المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
أسقف الإسكندرية للأرمن الكاثوليك