” أحبب الرّبّ إلهكَ بكُلِّ قلبِكَ ، وأحبب قريبكَ حُبّكَ لنفسِكَ ” ( متى ٢٢ : ٣٧ – ٣٨ )
ونحن نقترب من نهاية الصوم الأربعيني الكبير ، ونستعدُّ لإستقبال السيد المسيح يوم أحد الشعانين ، والدخول معه في الاسبوع العظيم لنشاركه ألآمه وصلبه وموته لتستحق أن نقوم معه ونمّجده في يوم قيامته ، نستعرض متأملين معاً هذه الوصية التي ترتبط بها الشريعة كُلِّها والأنبياء ( متى ٢٢ : ٤٠ ) ، نجد أهم أسباب محبة الله والقريب . وهي ثلاثة : الله والمسيح والكنيسة ، نسأله تعالى أن يوطّد في قلوبنا حب بعضنا البعض ، حتى إذا أتممنا هذه الوصية نكون قد أتممنا الناموس كله ، عملاً بقول القديس بولس الرسول : ” فالمحبةُ لا تُنزِلُ بالقريب شراً ، فالمحبة إذاً كمالُ الشريعة ” ( رومة ١٣ : ١٠ ) .
١ – نحب القريب حباً بالله :
يقول القديس توما الأكويني ، المعلم الملائكي ، أن مبعث المحبة ، محبة الله ومحبة القريب ومحرّكها الأول إنما هو كمالات الله . نحن نحب الله لأجل كمالاته ، ونحب كل ما تتجلَّى فيه كمالاته . وتتجلّى كمالات الله في مخلوقاته ، ولا سيما في الإنسان الذي جعله على صورته ومثاله وأقرب المخلوقات إليه تعالى . فعندما نحبّ الله يتوجب علينا أن نحب القريب الذي تظهر فيه كمالات الله . وقد فهم الآباء القديسون هذه الحقيقة فقالوا أنه لا يمكن الفصل بين محبة الله ومحبة القريب ، لأنهما محبّتان متلازمتان متلاصقتان . وقد يصعب علينا بسبب ضعفنا البشري أن نعرف حقيقةً إذا كنا نحب الله من كل قلبنا وعقلنا أو لا نحبه ! ولكن نسعى جاهدين للتوصل إلى محبته بالذهاب إلى اعماق قلوبنا وفحص ضميرنا سائلين انفسنا كيف نبادل محبة الله بالمحبة التي بادلنا اياها ونعمل بوصية يسوع : ” أحبب الرب إلهك من كل قلبك وكل ذهنك “. أما محبة القريب فلا مجال إلى الخطأ حولها . وهذا ما عبَّر عنه القديس أوغسطينوس عندما قال : ” إذا كنت تريد أن تعرف إذا كان فيك روح الله ، فاسأل قلبك . فإذا كنت تحب أخاك فكن في اطمئنان ، لأنه لا محبة حقيقية إذا لم تتوطّد في الله ” . ومن الطبيعي أن من لم يسعى بمحبة قريبه للوصول إلى الله ، ضلّ الطريق وأوقع نفسه في الظلمات و المهالك . وما كان القديسون إلا أصداء للسيد المسيح الناطق بلسان يوحنا الإنجيلي الذي اتّهم بالكذب من ادّعى أنه يُحبّ الله في حين لا يحب أخاه ولا القريب ، فعبّر عن ذلك في رسالته الأولى قائلاً : اذا قال أحَد : ” إني أّحبُّ الله ” وهو يُبغضُ أخاه كان كاذباً ، لإن الذي لا يُحبُّ أخاه وهو يراه ، لا يستطيع أن يُحب الله وهو لا يراه . إليكُم الوصية التي أخذناها عنه : من أحبّ الله فليُحب أخاه أيضاً ” ( يوحنا الأولى ٤ : ٢٠ – ٢١ ) . ولذلك جعل السيد المسيح ” المحبة ” علامة تلاميذه الفارقة لذلك قال : ” إذا أحبّ بعضُكُم بعضاً عرف الناس أنكُم تلاميذي ( يوحنا ١٣ : ٣٥ ) .
٣ – نحب القريب حباً بالمسيح :
عندما تجسّد السيد المسيح واتّحد بالطبيعة البشرية ، اتّحد بجميع الناس ، لأنه عانى في جسده ما يعانيه جميع الناس – ما عدا الخطيئة – من شقاء ، وشعر بما يشعرون به من أفراح واحزان . فأصبح جميع الناس يؤلفون معه جسداً واحداً لأنهم جميعاً مدعوون إلى الانضمام إليه واعتناق عقيدته والإستفادة من استحقاقات آلامه وموته وقيامته . ويؤلّف المسيح مع الذين يحيون بحياته ، بواسطة النعمة الإلهية ، جسده السرّي . فهو رأس هذا الجسد والمؤمنون به أعضاءه . فمن أحبّ المسيح وجب عليه أن يُحب أعضاءه ويحترمهم ويعتني بهم ومن سلّم بتجسد المسيح وجب عليه أن يسلّم بنتائج هذا التجسّد الذي جعل جميع المؤمنين جسداً واحداً . ومن احتقر أعضاء المسيح احتقر المسيح عينه ، وهذا ما أشار إليه السيد المسيح عندما أنّب بولس – شاول يومذاك – على اضطهاده للمسيحيين وكان يتبعهم حتى في دمشق . فقال له : ” شاول ، شاول ، لماذا تضطهدني ” ؟ ( أعمال الرسل ٩ : ٥ ) ، ولم يقل لماذا تضطهد أتباعي والمؤمنين بتعاليمي . ومن المعلوم أن بولس لم يكن قد رأى المسيح من قبل ، ولم يتعرّف عليه ، ولكن المسيح أفهمه بقوله هذا أن من يضطهد المسيحيين يضطهد المسيح ايضاً ، وهو وهم يؤلفون جسداً واحداً . وعبر السيد المسيح عن هذه الحقيقة بصورة جليّة مرّة ثانية عندما رسم لوحة عن الدينونة الأخيرة ، فمثل الله جالساً على عرشه للقضاء الأخير والناس حوله ، فراح يمّيز بين الأخيار والأشرار، بين الخراف والذئاب ، وجعل الخراف عن يمينه ودعاهم إلى دخول ملكوته لأنهم عادوه مريضاُ وزاروه مسجوناً وأطعموه جائعاً وسقوه عطشاناً وكسوه عرياناً . وعندما أبدى هؤلاء دهشتهم لقوله لأنهم لم يروه كما وصف لهم ، أجابهم قائلاً : ” الحق اقول لكم : كلّما صنعتم شيئاً من ذلك لواحد من إخوتي هؤلاء الصغار فلي قد صنعتموه ” ( متى ٢٥ : ٤٠ ) فالمسيح وإخوته كل الناس يؤلفون جسداً واحداً ، ولأنهم كلهم وبدون استثناء مدعوين ليؤلّفوا معه جسده السري .
٣ – نحب القريب حباً بالكنيسة :
بعد أن تجسّد السيد المسيح أصبح للإنسان المقام الأول في مساعدة أخيه الإنسان على تحقيق عمل خلاصه وقد جُعل أداة للنعمة . فلنأخذ مثلاً الأسرار المقدسة التي تركها لنا يسوع عربوناً للقداسة والخلاص ، فلا يقبل الإنسان نعمة السر إلا من يد أخيه الإنسان الذي أقامه الله خادماً وموزعاً لأسراره بواسطة سر الكهنوت . فالمسيح هو الذي يُعمّد، ولكن يعمّد بواسطة الكاهن الإنسان الذي اختاره ، والمسيح هو الذي يغفر الخطايا ولكنه يغفرها بواسطة الكاهن الإنسان ، وهكذا يعمل الكاهن بمسحة الروح القدس التي نالها في الكهنوت خدمة سائر الأسرار المقدّسة . وكذلك القول عن العقيدة المسيحية . فنحن عندما نريد الاطلاع على هذه العقيدة لا نتوجه مباشرةً إلى الله ولا نكتفي بتصفّح الكتاب المقدس ثم نفسره ونؤوله على ذوقنا وهوانا ومصالحنا شأن بعض الناس الذين يستغلون تفسيره رغبةً لمكاسب شخصية ، ولكننا نطّلع على هذه العقيدة لدى القيّمين عليها ، وهم رؤساء الكنيسة من أساقفة ومن يتخذونهم معاونين لهم من الكهنة . فلا سبيل إلى نيل النعمة والإطلاع على العقيدة إلا بواسطة القريب المدعو من الله أي الكاهن ، وكذلك لا سبيل إلى محبة الله إلا بواسطة القريب . فالقريب هو طريقنا إلى الله . وكما نعامله يعاملنا الله الذي قال : ” فكما تدينونَ تُدانون ، ويُكال لكم بما تكيلون ” ( متى ٧ : ٢ ). وذهب السيد المسيح إلى أبعد من ذلك ، فوضع شرطاً لنيل الغفران منه ، وهذا الشرط هو أن نمنح نحن ايضاً الغفران للقريب فقال : ” فإن تغفروا للناس زلاتِهم يغفِرُ لكم ابوكم السماوي ، وإن لم تغفِروا للناس لا يغفِرُ لكم ابوكم زلاتِكُم ” ( متى ٦ : ١٤ – ١٥ ) . هذه هي وصية السيد المسيح الأخيرة والجديدة محبة القريب حباً بالله والمسيح والكنيسة وهي موجز للدين المسيحى بكامله .
اللهم استأصل من قلوبنا ومن قلوب جميع المؤمنين بك الحقد والبغض والنميمة والشك والشراسة والظلم ، ووطّد فيها محبة القريب ليعيشوا على الأرض إخوة واخوات متحابين وينعموا برؤية وجهك في الآخرة ، فيلتّفوا حولك إلتفاف الابناء المخلصين .
المطران كريكور أوغسطينوس كوسا
أسقف الإسكندرية واورشليم والاردن للأرمن الكاثوليك