رسالة البابا يوحنا بولس الثاني بمناسبة اليوم العالمي للإرساليات – ترجمة الأب بولس جرس
1- الأسرة والكنيسة في بعدهما الإرسالي:
إن الكنيسة المرسلة إلى العالم كله كي تعلن بشارة إنجيل المسيح قد كرست عام 1994 من أجل الأسرة. وبينما هي تصلي مع الأسرة ومن أجلها، وبينما هي تفكر في المشاكل التي تحيط بالأسرة، وفي إطار الرسالة السنوية من أجل اليوم العالمي للإرساليات، أود أن أتحدث في هذا الموضوع وأنا على وعي بالروابط الوثيقة بين رسالة الكنيسة ورسالة الأسرة.
لقد اختار السيد المسيح نفسه الأسرة البشرية كإطار لتجسده وكما كان للاستعداد للرسالة التي كلفه بها الآب السماوي. ولقد أسس هو ذاته أسرة جديدة هي الكنيسة كامتداد لعمله من أجل خلاص العالم. لهذا فإن الكنيسة والأسرة، من وجهة نظر المسيح الرسولية، تبديان روابط متبادلة وأهداف مختلفة؛ فحيث يجب على كل مسيحي أن يكون على وعي وإحساس بمسئوليته نحو النشاط الرسولي الذي تمثله الأسرة الكنسية التي نشكلها جميعًا بنعمة الله ونتبعها. (فادي البشرية،77) فبالأحرى يجب على الأسرة المسيحية المرتكزة على هذا السر بالذات، أن تشعر بالدوافع التي تحملها نحو العمل الرسولي.
2- الأسرة وحضارة الحب (مدينة الحب):
ونفسه تلك النار الملتهبة التي تدفع نحو البشارة. فكل عضو من أعضاء الكنيسة بالاتفاق والارتباط مع قلب يسوع المخلص، مدعو أن يتلاحم مع كل رجال ونساء العالم لإظهار “التمسك بأولئك الذين مازالوا بعيدين كما بالقريبين” (فادي البشرية،77).
إنه ذلك الحب الذي يقود المرسلين كي يعلنوا بغيرة رسولية وحماس متواصل الخبر السار “لكل الأمم” وأن يقدموا لهم الشهادة ببذل ذواتهم في عطاء يصل أحيانًا إلى الاستشهاد وسفك الدماء. وهدف المرسلين الوحيد هو إعلان بشارة الإنجيل من أجل بناء جماعة تشكّل امتدادًا لأسرة يسوع المسيح، وتكون “خميرة” لنمو وانتشار ملكوت الله، ودافعًا لتحقيق أعلى القيم الإنسانية. (فادي البشرية34).
إن العمل من أجل المسيح ومع المسيح يجعل الكنيسة تعمل من أجل العدالة والسلام والتطور ليس على المستوى الأيديولوجي فحسب ولكن على المستوى الواقعي والعملي وبهذا تساهم في بناء حضارة الحب.
3- الأسرة كنيسة منزلية إرسالية:
لقد أراد المجمع الفاتيكاني الثاني أن يؤكد بقوة على هذا المعنى الغالي على قلب آباء الكنيسة. والذي تعكس فيه الأسرة المسيحية، المبنية على نعمة سر الزواج، سر الكنيسة على مستوى المنزل. (نور الأمم11)ذلك أن الثالوث الأقدس يسكن في الأسرة المخلصة، التي تشارك بحسب الروح القدس في إلحاح الكنيسة الجامعة وحثها على تنمية البعد الرسولي، وذلك بمساهمتها بالمعاونة والمشاركة الفعالة في العمل الرسولي. ولعله من المناسب أن نبرز أن القديس فرنسيس إكزافيه والقديسة تيريزا للطفل يسوع شفيعي الإرساليات مثلهما مثل العديد من فعلة الإنجيل، قد استفادا خلال طفولتهما من بيئتهما الأسرية المسيحية الحقة. فلقد عكس القديس فرانسيس إكزافيه كرم وعمق الروح الدينية الحقة التي اختبرها في حصن الأسرة، وبالذات لدى أمه، في حياته الرسولية. أما القديسة تريزا للطفل يسوع، فإنه بدورها قد كتبت ببساطتها المعهودة “لقد شاء الرب الرحيم أن يحيطني في كل مراحل حياتي بالمحبة: وذكريات طفولتي الأولى مليئة بالحنان والابتسام الرقيق!” (قصة نفس، مخطوط أ، ف، ب7)والأسرة تسهم في حياة الكنيسة الرسولية بأفعال تبشيرية ثلاث:
أولاً في حضنها،
ثانيًا في حضن الجماعة التي تنتمي إليها (أو الرعية)
ثالثاً في حضن الكنيسة الجامعة
“وذلك لأن سر الزواج يعدّ الزوجين والوالدين المسيحيين كشهود للمسيح وإلى أقاصي الأرض “كشهود ومرسلين حقيقيين للحب والحياة” (Fam. Cons, 54)
4- الأسرة إرسالية عبر الصلاة والتضحية:
عبر الصلاة والتضحية قبل كل شيء تصير الأسرة إرسالية. وكما في كل صلاة مسيحية فحتى تشارك الأسرة بفاعلية في عملية نشر الإنجيل يجب أن تتناول البعد الرسولي في صلاتها. ولهذا السبب عينه فإن المرسلين، حسب المنطق الإنجيلي، يشعرون بأهمية وضرورة الصلاة المستمرة والتضحيات الدائمة من جانب العائلات كمساعدة فعالة لهم في عملهم لنشر إنجيل المسيح.
والصلاة بحسب الروح الرسولية تحمل أوجهًا عديدة، يأتي على رأسها التأمل في عمل الله، الذي يخلصنا بيسوع المسيح. وبهذا تتحول الصلاة إلى فعل شكر حي من أجل انتشار الإنجيل الذي وصل إلينا والذي يواصل انتشاره في العالم أجمع. وفي نفس الوقت تصير الصلاة دعوة إلى الرب أن يجعل منّا أدوات طيّعة لتحقيق إرادته، وذلك بإمدادنا بالوسائل الأدبية والمادية الضرورية لتحقيق إرادته وبناء ملكوت الله.
والعنصر المكمل للصلاة والغير قابل للانفصال عنها هو التضحية، وهي تزداد فاعلية كلما ازداد السخاء. إن للتضحية قيمة لا نهائية وبالذات تضحية الأبرياء والمرضى والعجزة وكل الذين يعانون من الاضطهاد والعنف أي كل الذين بآلامهم على درب الصليب يتحدون بطريقة خاصة، بيسوع المسيح مخلص الإنسانية كلها وكل إنسان.
5- الأسرة ووسائل الاتصال الجماعية:
يتأثر الإنسان بكل ما يدور في العالم من آراء وأحداث، مشاكل وصراعات، نجاح وفشل، وذلك بفضل انتشار وقوة إقناع وسائل الإعلام، مما ينعكس بوجه خاص على الأسرة. وهكذا فإن الوالدين يستطيعان تحقيق دورهما المتميز بمشاركة أبنائهما في التعليق على الأحداث على الأحداث الجارية، على المعلومات والآراء، مما يجعلهم يفكرون بوعي ونضج فيما يدخل منزل الأسرة عبر وسائل الإعلام وقبل أن ينطلقوا إلى نطاق العمل الواقعي.
بهذه الطريقة تتجاوب الأسرة مع الوظيفة الأساسية لوسائل الإعلام الاجتماعية، التي تعمل على تزايد اندماج وتقدم الأسرة الإنسانية (الشركة والتقدم، نحو وضع جديد، 6-11). مثل هذا الهدف يجب أن يشارك في تحقيقه كل رسول للإنجيل، وأن يبحث عنه في ضوء الإيمان في إطار حضارة الحب.
لكن العمل في مجال معقد وحساس كالحقل الإعلامي يتطلب استثمارًا هائلاً للطاقات الإنسانية والاقتصادية. وإني لأشكر كل من يساهم بسخاء في إعلان رسالة المسيح بين العديد من الرسائل الأخرى التي تملأ الكرة الأرضية، أشكر كل من لا يقصر في رفع صوته، برقة لكن بثبات، ليعلن المسيح كخلاص ورجاء لجميع البشر.
6- الأسرة والدعوة الإرسالية:
إن العطاء الكلي للذات هو أعظم تعبير عن الكرم والسخاء. وبمناسبة اليوم العالمي للإرساليات، لا أستطيع إلا أن أتوجه بطريقة خاصة نحو الشباب: أيها الشباب الأعزاء لقد وهبكم الرب قلبًا مفتوحًا على الآفاق العظمى: لا خشوا أن تكرسوا حياتكم تكريسًا كليًا في خدمة المسيح وخدمة إنجيله، استمعوا إليه عندما يكرر اليوم قوله: إن الحصاد كثير لكن الفعلة قليلون” (لو2:10).
إني أتوجه بالتالي إليكم أيضًا أيها الآباء والأمهات ألا يقل الإيمان والاستعداد للعطاء في قلوبكم، عندما يرغب الرب في منحكم بركة خاصة، وذلك بدعوة أحد أبنائكم للخدمة الإرسالية. تعلّموا أن تتقدموا إليه شاكرين، وأن تعملوا بطريقة تُنضج وتُعد هذه الدعوة عبر المثل المعاش يوميًا، عبر الصلاة الأسرية والتربية المبنية على العطاء والاهتمام بالآخر، عبر النشاط الرعوي والإيبارشي، وعن طريق المشاركة التطوعية الملتزمة والفعالة في أنشطة مؤسسات الخدمة الاجتماعية.
إن الأسرة التي تراعي الروح الرسولية بحيث توجه وتؤثر في أسلوب الحياة فيها بل وفي أسلوب التربية نفسها، تُعد الأرضية لنمو بذور الدعوة الإلهية، كما تغذي وتقوّي في الوقت نفسه الفضائل المسيحية والروابط العاطفية لأعضائها.
7- الصلاة الزوجية والروح الإرسالية:
فلتضرع كل الأسر المسيحية بثقة إلى العذراء القديسة مريم أم الكنيسة وإلى القديس يوسف خطيبها حتى تنمو وتزداد الروح الإرسالية، خلال هذا العام، في كل جماعة مسيحية منزلية، لتصير البشرية كلها “في المسيح أسرة أبناء الله” (فرح وسعادة 92).
بهذه التهنئة والأمنية أتوجه إلى جميع المرسلين المنتشرين في العالم كله، وأتوجه إلى كل أسرة مسيحية، وبنوع خاص إلى كل أسرة مرتبطة بطريقة خاصة ببشارة الإنجيل، طالبًا موهبة الروح القدس الإلهي ومانحًا إياهم بركتي الرسولية.
عن مجلة صديق الكاهن 3 / 1993