تطور الفكر الكنسي في المجال الاجتماعي والاقتصادي-إعداد جورج برنوطي
نظرة موجزة حول تطور الفكر الكنسي في المجال الاجتماعي والاقتصادي في أربع حقبات تاريخية مختلفة
مقدمة
إن الكنيسة تعمل في قلب هذا العالم لتغير واقعه وتحقق ملكوت الله على الأرض وتشهد ليسوع المسيح الفادي مؤسسها ومعلمها الذي قال :”جئت لكي يكون لهم حياة ولتكون أفضل”(يو10:10 ) (فهي الخميرة الصالحة التي تخمر تاريخ البشر. كما أن رسالتها تقتضي منها جهداً وبذلاً وتحقيق مشاريع ثقافية واجتماعية لخير البشر ومجد الله الأعظم.) ( 1 )
” لكن الكنيسة, التي أسست في مجمل ما حصل من تاريخ الله مع البشر حتى الآن , لا تزال في مسيرةٍ إلى اكتمالها في نهاية الأزمنة فهي الكنسية الحاجّة, التي تحمل في أسرارها ومؤسساتها, التي لا تزال تنتمي إلى زمن هذا العالم , صورة هذا العالم؛ وتعيش هي نفسها وسط الخلائق التي لا تزال تئن حتى الآن في أوجاع المخاض وتنتظر تجلي أبناء الله (رو8: 19-22)” (2)
فالكنيسة إذ هي ابنة واقعها تتأثر وتؤثر فيه على امتداد تاريخ البشر منذ زمن الظهور الإلهي في يسوع المسيح حتى اليوم الذي يعود فيه يسوع المسيح ليعلن الدينونة العامة.
“إن نقطة الانطلاق والأساس لتحديد العلاقة بين الكنيسة وعالم اليوم تحديداً قويماً هي البشارة بملكوت الله الموكلة إلى الكنيسة. وهذا يعني إن هدف الكنيسة هو خلاص الأزمنة الأخيرة الذي لن يتم كاملاً إلا في العالم الآتي .لا جرم أن الكنيسة مكونة في هيكل عضوي منظور, ولكنها, في مهمتها وصلاحيتها تتميز عن الجماعة السياسية , ولا ترتبط بأي نظام سياسي . وفيما تبين الكنيسة رسالتها الخاصة والمميزة, تقر في الوقت عينه بالاستقلال المشروع للشؤون الأرضية ولاسيما الدولة.وهي تدافع عن الحرية الدينية كتعبير عن كرامة الشخص الإنساني.هذا التميزفي الصلاحيات بين الكنيسة والعالم (المجتمع ,الثقافة , السياسة,إلخ), لا يعني أي انفصال. فيسوع المسيح هو مفتاح تاريخ البشر وقلبه ونهايته ؛ إنه النقطة التي تنصب فيها كل رغبات التاريخ والثقافة , إنه محور الجنس البشري , إنه الألف والياء.عن هذه البشارة تنجم مهمة ونور وقوة يمكن توظيفها في بناء المجتمع البشري.ومن ثم فالكنيسة تطالب بحقها في أن تصدر حكماً أدبياً حتى في الأمر التي تتعلق بالنظام السياسي , عندما تقتضي ذلك حقوق الشخص البشري الأساسية أو خلاص النفوس.” ( 3 )
ومن أهم الوسائل التي كانت تنقل بها الكنيسة بشرى الخلاص هي الرسائل, فعلى مثال الرسل القديسين الذين كانوا يرسلون رسائل إلى مختلف الكنائس التي أسسوها بغية متابعة أحوالها ومعالجة مشاكلها وإعطاء تعاليم تتوافق مع الإيمان تنبع أهمية الوثائق الصادرة عن الكرسي الرسولي وخصوصاً الرسائل العامة, والتي تعتبر منهاج عمل للكنيسة الجامعة على امتداد أصقاع العالم كله. ففي هذه الرسائل تعليم الكنيسة الجامعة بخصوص كل الأمور المستجدة على الساحة العالمية والمؤثر على مجرى تاريخ البشرية والمتوافق مع الإيمان.
سنتطرق في الأسطر القليلة التالية كيف عالجت الكنيسة بعض المواضيع الاجتماعية والاقتصادية ابتداء برسائل الرسل القديسين مرورا برسالة البابا لاون الثالث عشر ( الشؤون الحديثة) نظرا لأهميتها القصوى في هذا المجال وصولاً إلى ما بعد المجمع الفاتيكاني الثاني مع أهم الرسائل الصادرة عن الكرسي الرسولي التي تعالج هذا الموضوع كرسالة (ترقي الشعوب) للبابا بولس السادس ورسالتي البابا يوحنا بولس الثاني (الاهتمام بالشأن الاجتماعي) (السنة المئة.)
1- رسائل الرسل القديسين واهتمامهم بالشؤون الاقتصادية للمؤمنين
لقد اهتمت الكنيسة الأولى منذ بدء نشأتها بالواقع الاجتماعي و الاقتصادي لأبنائها طبعاً إلى جانب رسالتها الأساسية في نقل البشرى وحفظ ذخيرة الإيمان. ففي عهد الرسل عالجت الكنيسة الأولى عدة ظواهر اجتماعية واقتصادية, على ما نجده مدونا بين دفتي الكتاب المقدس, العهد الجديد, فنجد في أكثر من مكان الاهتمام بالعدالة الاجتماعية و توزيع الثروات. حيث نقرأ ما ورد في كتاب أعمال الرسل: “وكان جماعة المؤمنين قلباً واحداً وروحاً واحدة, لا يدعي أحد منهم ملك ما يخصه, بل كانوا يتشاركون في كل شيء لهم … فما كان أحد منهم في حاجة, لأن الذين يملكون الحقول والبيوت كانوا يبيعونها ويجيئون بثمن المبيع, فيلقونه عند أقدام الرسل ليوزعوه على قدر احتياج كل واحد من الجماعة.”(أع 4 : 32-35)
فكانت الحياة المشتركة حتى في الأمور المادية صبغة تطبع أجدادنا في الكنيسة الأولى. وبعد أن انتشرت الكنيسة في مختلف أنحاء العالم أحس الرسل بوجود فوارق اقتصادية كبيرة بين كنائسهم فعملوا على جمع التبرعات من الكنائس الغنية وإرسالها إلى الكنائس الفقيرة وذلك ليس من مبدأ الصدقة وحسب بل من مبدأ العدالة والمساواة حيث نقرأ في رسالة القديس بولس الرسول الثانية إلى أهل قورنتس عندما كان يطالب كنيسة قورنتس بجمع التبرعات: “فليس المقصود أن يكون الآخرون في يسر وتكونوا أنتم في عسر, بل المراد هو المساواة.”( 2قور 8 : 13) إن الرسل كانوا على يقين من أن الأمور المادية هي أيضا مهمة وهي العلامة المحسوسة على الإيمان على حد قول القديس الرسول يعقوب في رسالته عندما تحدث عن الإيمان والأعمال أعطى المثال التالي: (يع 2 : 15-16):”فإن كان فيكم أخ عريان أو أخت عريانة ينقصهما قوت يومهما, وقال لهما أحدكم : « اذهبا بسلام فاستدفئا واشبعا» ولم تعطوهما ما يحتاج إليه الجسد, فماذا ينفع قولكم؟”
وكذلك جابه القديس بولس ظاهرة البطالة التي انتشرت في تسالونيقي بلهجة شديدة وأعطى فيها تعليما أسماه وصية:” فلما كنا عندكم كنا نوصيكم هذه الوصية: إذا كان أحد لا يريد أن يعمل فلا يأكل.”(2تس 3 : 10) لأن القديس بولس يعلم علم اليقين أن كرامة الإنسان لا تكتمل إلا إذا كان يعمل ويتعب فجعل من نفسه قدوة, وهو رسول الأمم, إذ كان لا يأكل إلا مما كان ينتجه على حد قوله :”فإنكم تعلمون كيف يجب أن تقتدوا بنا, فنحن لم نسر بينكم سيرة باطلة ولا أكلنا الخبز من أحد مجاناً , بل عملنا ليل نهار بجد وكدٍّ لئلا نثقل على أحد منكم , لا لأنه لم يكن لنا حق في ذلك , بل لأننا أردنا أن نجعل من أنفسنا قدوة تقتدون بها.”( 2تس 3 :7-9)
وهكذا وعبر تاريخها كانت الكنيسة دائما تواكب مشاكل أبنائها ليس فقط الروحية والدينية بل أيضا الدنيوية وتقدم لهم النصح ولإرشاد إن لم نقل المساعدات المادية الملموسة.
وفي هذه الأسطر القليلة لا أريد أن أتناول كيف عالجت الكنيسة المواضيع الاقتصادية الاجتماعية في العصور الوسطى أو في بداية عصر النهضة بل أريد التركيز على فكر الكنيسة في هذا المجال في ما بعد المجمع الفاتيكاني الثاني مع عدم إهمال فكر البابا لاون الثالث عشر رغم أنه يسبق المجمع الفاتيكاني الثاني بعدة عقود والذي مهد برسالته العامة (الشؤون الجديدة) للفكر المسيحي المعاصر في المجال الاقتصادي والاجتماعي المجال ليكون فكرا عمليا يواكب التطور الاقتصادي الذي يشهده العالم. طبعا مرورا بفكر البابا يوحنا السادس وانتهاءً بفكر البابا الراحل يوحنا بولس الثاني.
2- أهمية الرسالة في الشؤون الحديثة للبابا لاون الثالث التي كتبت عام (1891)
إن الذي يبحث في تطور فكر الكنيسة عبر تاريخها من الناحية الاقتصادية والاجتماعية لا بد له من أن يقف موقف المعجب أمام الرسالة العامة (الشؤون الحديثة) التي كتبها البابا لاون الثالث عشر عام (1891) والتي وبسبب أهميتها القصوى مهدت لظهور عدة رسائل بعدها منها السنة الأربعون للباب بيوس الحادي عشر عام (1931) والسنة الثمانون للبابا بولس السادس عام ( 1971)ورسالتي العمل البشري (1981)والسنة المئة للبابا يوحنا بولس الثاني عام (1991). وهذه الرسائل تعتبر امتداداً للرسالة في الشؤون الحديثة وتكميلا لها وتطويرا عليها مواكبة لتطور العالم الاقتصادي والاجتماعي ودعما لرسالة الكنيسة في العالم (فالكنيسة إذ تعيش في صلب التاريخ كان عليها أن تتنبه لعلامات الأزمنة وتفسرها على ضوء الإنجيل) ( 4 )
يقول البابا يوحنا بولس الثاني عن (الشؤون الجديدة) أن الله استعان بهذه الوثيقة (ليحقق خيراً عميماً وينشر نوراً كثيراً في الكنيسة وفي العالم.) ( 5 )
إن الرسالة في الشؤون الحديثة كتبت والعالم يعيش حالة صراع كبير بين النظم الاقتصادية القديمة والنظم الحديثة فإذا بنا أمام مجتمع تقليدي آخذ بالتقلص ويحل محله مجتمع آخر, يحدوه الأمل بحريات جديدة,من جهة , ويحدق به, خطر التعرض لأشكال جديدة من الظلم والاستبداد من جهة أخرى. حيث تميزت البلدان الغربية بأنها بلدان صناعية تبحث عن مصادر المواد الأولية وتبحث عن سوق لتصريف منتجاتها فكان الفكر الاستعماري هو السائد فيها.
نقرأ في مقدمة الرسالة ما يلي: ” في الزمن الذي أخذت تتنامى فيه الرغبة العارمة عند الشعوب,منذ زمن بعيد, في الشؤون الحديثة, كان لا بد لهذه الرغبة في التغيير من أن تنتقل من حيز السياسة إلى جوار دائرة الاقتصاد. ولا غرو, فالصناعة تطورت وأساليبها تجددت كلياً. والعلاقات بين أرباب العمل والعمال تبدلت, والثروات تراكمت عند قلة من الناس بينما الجمهور في عوز. وتنامت ثقة العمال بأنفسهم وأقاموا بينهم حلفاً أوثق. هذا كله , بالإضافة إلى انحلال الأخلاق, أدى إلى تفجير الصراع.) ( 6 )
وأضحت القضية العمالية أي الصراع بين رأس المال والعمل في هذه البلدان بما تحتويه من حقوق العمال وأجورهم وأيام الإجازات والاهتمام بشؤون صحتهم وأسرهم وحرية ممارستهم الدينية, القضية الأولى التي دافعت عنها هذه الرسالة, لأن البابا لاون الثالث عشر كان على يقين, أن السلام يبنى على أساس العدالة فطالب الدول بأخذ دورها في هذا المجال بعد أن أمسى العمل سلعة عرضةً للشراء والبيع في السوق الحرة لا يحكمه سوى قانون العرض والطلب ولم يكن العامل يضمن بيع سلعته بل كان دوما مهدداً بخطر البطالة والهلاك جوعاً في غياب كل حصانة اجتماعية أو قانونية.مثلاً يقول البابا في مجال حياة العامل الروحية: “فالمسيحية تقتضي بأن تؤخذ مصالح العامل الروحية وخير نفسه بعين الاعتبار. وعلى أرباب العمل أن يؤمنوا للعامل الوقت الكافي لممارسة إيمانه، فلا يتعرض للتضليل والإغراءات المفسدة” ( 7 )
وكانت نتيجة هذا التحول انشطار المجتمع إلى طبقتين بينهما هوة عميقة, بهذا الصدد يكتب البابا لاون الثالث عشر: “ولكن على الدولة, في حماية الحقوق الفردية, أن تخص الصغار والضعفاء باهتمامها. فالفئة الثرية المقتدرة بأموالها أقل حاجة إلى رعاية الدولة, بينما الطبقة الفقيرة لا تملك ثروة تضمن لها الحماية, فتضع في عصمة الدولة جل اتكالها. ومن ثم, فعلى الدولة أن تحوط العمال الكادحين بمخصوص عنايتها وحدبها”( 8 ) فلقد تكلم البابا لاون الثالث عشر عن قضية العمال وحقوقهم في الوقت الذي كان الحديث حول هذا الموضوع يعتبر ممنوعاً. ولقد أكد البابا عندما تحدث عن الصراع بين رأس المال والعمل ما يعود للعمال من حقوق أساسية فكرامة العامل هي فوق كل اعتبار. أما “ما هو عار فهو أن يستعمل الإنسان كأداة حقيرة للكسب وأن لا يقيم إلا قياساً إلى قوة ساعده”( 9 )
كذلك دافع البابا لاون عن حق إنشاء جمعيات ونقابات وأعتبرها ” الحق الطبيعي لدى الإنسان” وأكد أن ” الدولة وجدت لتحمي الحق الطبيعي لا لتهدمه. فإذا منعت الدولة مثل هذه التجمعات, فهي تتعدى على ذاتها.” (10)
من هنا تنبع أهمية الرسالة الشؤون الحديثة فهي تطرقت إلى أهم الجوانب الاقتصادية التي طبعت وميزت أواخر القرن التاسع عشر وخصوصا المسألة العمالية وعلاقة المواطن مع الدولة وحق التملك وواجبات الدولة تجاه المواطنين وخصوصا الفئات الفقيرة التي تمثل الأغلبية الكبرى في الجسم المجتمعي ومبدأ التضامن الذي دل عليه البابا لاون الثالث عشر مستعملاً لفظة الصداقة.
من يدرس هذه الرسالة بالعين الفاحصة يجد أن البابا “اتخذ من (الاشتراكية) منطلقاً لنقد الحلول المقترحة(للقضية العمالية)، يوم لم تكن الاشتراكية قد اتخذت بعد شكل دولة قوية وقادرة بيدها الطاقات كلها , كما تم لها ذلك لاحقاً ولكنه أصاب في تقدير الخطر المتربص بالجماهير من جرى اعتماد صورة مغرية لحل مشكلة العمال آن ذاك , بطريقة ساذجة وجذرية معاً . ويظهر ذلك بطريقة أوضح في ضوء الظلم المريع الذي آلت إليه الجماهير الكادحة في الدول الحديثة التصنيع.” ( 11 )
فأهمية الرسالة أخيراً: نبعت من النتائج التي تولدت عنها، على الصعيدين الداخلي والخارجي.
– فداخلياً، انطلقت في الكنيسة مسيرة ديناميكية ازدهرت فيه المؤسسات والحركات الاجتماعية المسيحية، فأدت إلى نشوء “العمل الكاثوليكي” ووضعت الكنيسة في مسار جديد، تلتزم فيه بكل القضايا الإنسانية، وترسم لها سياسة جديدة في المجال الاجتماعي عامة والعمالي خاصة.
– أما خارجياً، فقد كان للمواضيع التي تطرقت إليها الرسالة، والمبادئ التي أعلنتها القضية العمالية، تأثير تخطى نطاق الكنيسة والمسيحيين، فأصبحت تلك المبادئ خيارات أساسية اعتمدها، في تحديد السياسات الاجتماعية، عدد كبير من المتعاطين في الشأن الاجتماعي والعمالي، من مسؤولي دول وحكومات ومؤسسات وطنية وعالمي، ونقابات وجمعيات.
عن موقع جمعية التعليم المسيحي بحلب