حياة بولس الرسول- الأب لوكاس رسمي
حياة بولس الرسول- الأب لوكاس رسمي
«الحَياةُ عِندي هي المسيح» في 1/21
وُلد شاوُل (بولس) في السنة الخامسة الميلاديّة تقريباً، في مدينة طرسوس التي كانت مركزاً من مراكز التهذيب العقلي، فقد كثرت فيها معاهد العلم والتربيّة. وكانت مركزاً للفلسفة الرواقيّة التي ظهر تأثيرها في كثير من تعبيرات الرسول عن المبادئ المسيحيّة. كان والديّه يهوديين من سبط بنيامين (روم11/1، في 3/5)، أصبح شاوُل «عبراني من العبرانيين» (في 3/5)، كان ملتزماً بالمعتقدات الفريسيّة الصارمة ويدين بالولاء الشديد للتقاليد الدينيّة، على مثل والده الذي كان فريسياً محافظاً صارماً، ويشغل منصباً هاماً في المدينة. اسم شاوُل يعنى بالعبرية المشتهى أو المطلوب في الصلاة، مما يفيد أن والديه كانا يصليان لكي يُرزقا بولد. لذلك بعد ميلاده من المحتمل أن يكون والداه نذراه لخدمة الله، ولهذا أرسلاه مبكراً لدراسة الناموس والتوراة. وتعرّف على الناموس وقوانينه المتعددة (الميشنا). كان شاوُل مواطناً رومانياً حيث أنه وُلد في طرسوس كيليكيّة، وهي مركز الثقافة الهللينية (أع 22/3، 25/12). حيث أتقن شاوُل في طرسوس اللغة اليونانيّة، وحصل على لقب فخري صعب المنال وهو لقب المواطن الروماني، ولقد ورث بولس هذا اللقب عن والده. وأدى هذا اللقب الشرفي خدمات كثيرة في كثير من المواقف والظروف العصيبة (أع 16/37، 22/25-29).
علم في فترة صباه الثقافة اليونانيّة، وكان شاوُل في الثالثة عشرة عندما أرسله أبواه إلى أورشليم، ليتعلم على يدي جملائيل أشهر معلمي إسرائيل، لكي يتعلّم فيها أصول الدين، ويتثقف بثقافة أورشليم بهدف تعلّم التعليم الحاخامي مع تفسيراته الشرعيّة والأدب الفولكلوري. كما تعلّم شاوُل حرفة “صناعة الخيام” (أع18/3). بعد أن مكث عند جملائيل عدد من السنوات، أصبح متحمساً دينياً وعنيداً ومتعصباً وغيوراً في اضطهاد الذين خالفوه في الرأي، وحاقداً على من اعتقدوا أن مراسم التدين الظاهريّة التي اعتصم بها علماء الناموس ليست الطريق القويم لعبادة الله.
في حوالي سنة 34، في أورشليم، كان إستفانوس، وهو مملوء من النعمة والقوة، كان يُبشر بالمسيح القائم (أع7 ). وفي النهاية رُجم حتى الموت. وكان شاوُل «راضياً بقتله» (أع7/60).
لم يكن شاوُل عند اهتدائه واعتناقه الإيمان المسيحي مجرد تلميذاً بسيطاً، بل كان معلماً معترفاً به رسمياً، يمكنه أن يتخذ القرارات الشرعية عند الحاجة، وهذا ما نستنتجه من الدور الذي لعبه عندما ذهب إلى دمشق للقبض على المسيحيين، فلا يمكن أن يأخذ تلميذ ما أخذه شاوُل من سلطان للقبض على المسيحيين (أع 9/1-2، 22-5، 26/12).
لقد كان موت إستفانوس مؤشراً على واحد من أكثر الاضطهادات الدمويّة ضد الكنيسة الوليدة. وحيث أن شاوُل كان غيوراً لتقاليد آبائه (غل1/14)، أصبح باحثاً رئيسياً للاضطهاد، ولقد رأى بوضوح شديد أن المسيحية هي الخطر الداهم الذي يهدد التقليد الشرعي اليهودي (غل 1/13-23، 1كو 15/9)، فكان
يتصور أن القانون الموسوي الذي يتحوّل الآن إلى تدبير مسيحي جديد يبدو أنه بمثابة تحديث صارخ بالنسبة له. لذا كان شاوُل يسطو على الكنيسة، ويدخل البيوت ويجر الرجال والنساء ويسلمهم للسجن (أع 8/3).
كان شاوُل يهودي متعمق في شريعة وسنن آبائه، كما أنه أيضاً يمتاز بحماسه الديني الذي يفوق كل أقرانه (1قور 15/9-10، غل 1/13-14، في 3/5-6، 1تيم1/12-13)، وهذا ما دفعه أن يبحث عن الطرق والوسائل التي تساعده على أن يدمر الكنيسة الناشئة باعتبارها هادمة الشريعة والتقاليد، وهذا الحماس الكبير وصل إلى حد التعصّب الفريسي. كان شاوُل مختلفاً عن كل أقرانه، إذ كان يسعى إلى الكمال الديني وهذا ما جعله مضطهداً للكنيسة.
انطلق شاوُل بقوة نشاطه العدائي ضد الكنيسة من أورشليم محمّلاً برسائل لمضايقة مجتمع دمشق المسيحي الصغير. «وبَينَما هو سائِرٌ، إذا نورٌ مِنَ السَّماءِ قد سَطَعَ حولَه، فسَقَطَ إِلى الأَرض، وسَمِعَ صَوتًا يَقولُ له: شاوُل، شاوُل، لِماذا تَضطَهِدُني؟» (أع 9/3-4). فكان سؤاله الفوري «مَن أَنتَ يا ربّ؟». إثر هذا اللقاء الفريد من نوعه نجد شاوُل يشرق في داخله نور المسيح، فيتساءل: «يا رب، ماذا تريد أن أفعل؟» (أع9/6). أرشده الرب يسوع المسيح مباشرة نحو حنانيا الذي قام بتعميده. ثم بقي أياماً في دمشق ثم انطلق إلى الصحراء العربية لقضاء خلوة روحيّة (غل 1/15-18)، ثم عاد ملتهبًا بالروح القدس يكرز في المسكونة كلها. ملتهب مشتاقًا أن يضم العالم كله إلى ملكوت الله، لينعم الكل بالمسيا المخلص. بعد الاهتداء يُطلق سفر أعمال الرسل على شاوُل اسم (بولس)، حيث قيل «أما شاول الذي هو بولس أيضاً» (أع 13/9) ومعناه (الصغير).
كان بولس ذو شأن عظيم وقوة ذهن وحذق وطهارة قلب وفكر، تعب كثيرا في التبشير، فهو رجل فريد بين المسيحيين. وكان بلا مال، بلا عائلة، وقام في وجهه عالم مضادّ، وتجنّد لخدمة المسيح الذي كان قد اضطهده. فكان له مكانة فريدة في نشاط الكنيسة الرسولي، لذا أُطلق عليه رسول الأمم
حياته التبشيرية
بعد عودته من بلاد العرب عاد إلى أورشليم، وهو راغب بلقاء رسل المسيح، فمكث عند بطرس خمسة عشر يوماً قابل خلالها يعقوب البار، عقب ذلك ابتدأ برحلاته، ولكنه قام أولاً بالتبشير في سوريا وكيليكيّة.
رحلة التبشيرية الأولى: بدأت من أنطاكيّة، رافقه فيها برنابا وفي قسم منها مرقس. كانوا يتبعون أسلوباً معيناً في الدعوة، فقد كانوا يتنقلون من مدينة إلى أخرى ينادون بالخلاص بيسوع المسيح في مجامع اليهود وفي الأسواق والساحات العامة حيث أوجدوا جماعات مسيحيّة جديدة وأقاموا لها رعاة وقساوسة. انقسم اليهود من سامعيهم بين مؤيد ومعارض.
مجمع أورشليم: حوالي عام 48 م وقعت أزمة بين مسيحيي أنطاكيّة حول مسألة الختان عندما وصل إلى المدينة مسيحيون ذو خلفيّة يهوديّة يطالبون بضرورة تطبيق شريعة الختان على المسيحيين القادمين من الديانات الوثنيّة لكي ينالوا الخلاص، أما بولس وبرنابا فقد خالفا ذلك بشكل كبير، ولما لم يتمكنا من حل المسألة أرسلت كنيسة أنطاكيّة بهما مع أناس آخرون إلى الرسل ومشايخ أورشليم للنظر في الأمر. وتم عقد ما يعتبره مؤرخو الكنيسة أول مجمع كنسي وهو مجمع أورشليم وافقت فيه الكنيسة على مقترحات بولس بأن لا يلزم بالختان الأمميون المؤمنون بالمسيح وإنما يكتفى منعهم عن نجاسات الأصنام والزنا والمخنوق والدم. بفضل ذلك المجمع تحدد وجه المسيحية كديانة مستقلة وليس كفرع من فروع اليهوديّة.
الرحلة التبشيرية الثانيّة: في الرحلة الثانيّة أراد برنابا اصطحاب مرقس معهما ولكن بولس لم يوافق على ذلك فوقع شجار فيما بينهما افترقا على إثره، ومضى بولس في طريقه مع سيلا أحد الوعاظ المسيحيين. كان هدف بولس الرئيسي هو افتقاد الجماعات المسيحيّة التي أقامها في رحلته الأولى، وفي لسترة التقى بتيموثاوس الذي انضم إليه هو الآخر. أسس بولس كنائس جديدة في فيلبي وتسالونيكي وبيرية وأثينا وكورنثوس. وخلال إقامته في كورنثوس قام بولس بكتابة رسالتيه الأولى والثانيية إلى تسالونيكي (حوالي عام 52 م)، ومن المحتمل أنه كتب في تلك الفترة أيضا رسالته على الغلاطيين. أبحر بولس بعد ذلك إلى قيصرية في فلسطين ومنها قام بزيارة لأورشليم ومن ثم عاد إلى أنطاكيّة.
الرحلة التبشيرية الثالثة: ذهب بولس في الرحلة الثالثة إلى غلاطية ثم إلى فريجية ومنها إلى أفسس، وكانت فترة العامين والنصف التي قضاها في أفسس هي أكثر فترات حياته إثماراً، كتب فيها رسالتيه الأولى والثانيّة على أهل كورنثوس (حوالي عام 56 م). بعدها ذهب بنفسه إلى كورنثوس حيث يعتقد أنه كتب فيها رسالته إلى أهل روما، ثم عاد إلى أفسس وبعدها إلى أورشليم حيث اعتقل فيها، وكانت تلك هي زيارته الأخيرة للمدينة المقدسة (بين عامي 57 و59 م).
اعتقاله وموته: في فترة الخمسينات زار بولس أورشليم مع بعض مسيحيي الأمم الذين آمنوا على يديه، وهناك تم اعتقاله لأنه قام بإدخالهم (وهم يونانيون) إلى حرم الهيكل، وبعد سلسلة من المحاكمات أُرسل إلى روما ليقضي بها سنتين وعظ خلالها اليهود والأمم وهو في الأسر، بعد السجن في روما تمت تبرئته وإطلاق سراحه، فذهب بولس لأسبانيا وعاد بعدها إلى الشرق فتوجه إلى أفسس وإلى مقدونيا واليونان حيث كتب خلال هذه الفترة رسالته الأولى إلى تيموثاوس ورسالته إلى تيطس. وبعد اضطهاد نيرون تم توقيفه باعتباره منتمياً إلى الجماعة المسيحية التي كانت تعتبر حينها خارجة عن القانون، وتمت إعادته إلى روما، وخلال هذه الفترة كتب رسالته الثانية إلى تيموثاوس. عانى بولس في الأسر وبعد محاكمة طويلة حكم عليه بالإعدام بقطع رأسه على طريق أوستي حوالي عام 67. هذه النهاية مرفوضة من قبل الكثير من النقاد، وبشكل عام فقد تم بناؤها اعتماداً على رسائل بولس الثلاث الآنفة الذكر والتي تسمى بالرسائل الرعوية، وعلى تاريخ الكنيسة ليوسابيوس القيصري وعلى رواية القديس جيروم.
إعداد/ الأب لوكاس رسمي