إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي – الأب وليم سيدهم
يقول أحد الفلاسفة لا يمكن لأحد أن يشعر بألم ضرسك إلا أنت، إن الألم الجسدى أو النفسي هو شعور فردى جداً و شخصى جداً. يستطيع الآباء و الأمهات أو الأصدقاء إحتضان المتألم و لكن لن يشعروا قط بما يعانيه المتألم مهما كانت صلة قرابته بهم.وكما أن الطبيب يستطيع اليوم تخفيف الآلام الجسدية بالمسكنات و البنج ولكن بعد إنتهاء مفعول المسكنات يطفو الألم على السطح مرة أخرى. هكذا يصبح الجسد البضَّ الملئ بالحياة مسرحاً لآلام مبرحة فى المعدة أو الكبد أو القلب أو العضلات …الخ فتتعطل وظائف التفكير و القدرة على التركيز أو إصدار الأحكام الموضوعية.
إن العطب الذى يصيب جسد الإنسان مهما كان سببه يفقد الإنسان سلامه الداخلى وهدوءه و توازنه العاطفى و النفسي. إن ضريبة تجسد المسيح باهظة لأنها تعرضه لكل هانات (آنات) البشر و تجعله يذوق مرارة الألم و قسوة الوحدة و دراما الوجود البشرى الخاضع لظروف المكان و الزمان و المتسربل بالضعف و المحدودية.
صرخ المسيح “إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي” وهى كلمات المزمور الثانى والعشرون الذى استعارها المسيح من المرنم ، صرخة معبرة عن حجم التضامن مع البشر فى ضعفهم و إضمحلال قواهم الجسدية و النفسية أمام قسوة الضرب و الوخذ بالمسامير.
لم يكن فى مقدور الآب أن يُجنب إبنه مثل هذا الألم الملاصق للطبيعة البشرية التى إختارها أداة للتواصل مع إخوته البشر. و حينما نتسائل عن حنان الآب و حبه و رحمته لإبنه بالجسد لن نجد جواباً أبلغ من تصريحات المسيح نفسه لتلاميذه عن مصير ابن الانسان البار “إنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيرًا، وَيُرْفَضُ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ” و كالمعتاد لم يفهم التلاميذ سر موت و قيامة يسوع إلا بعد وقت طويل من التردد والبحث.
إن الآهات التى نطلقها من أعماق ذواتنا و نحن تحت وطئة المرض و الألم تفصح عن محدودية الإنسان و هشاشة كيانه الجسدى الذى يشبه الآنية الخزفية التى تحمل كنزاً ثميناً لا يبلى وهو سر محبة الله و حنانه ، في الرسالة الى العبرانين تتحدث عن صراخ يسوع و رفع الدعاء للذى يمكن أن يخلصه فاستجيب طلبه : “إِذْ قَدَّمَ بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ طَلِبَاتٍ وَتَضَرُّعَاتٍ لِلْقَادِرِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْمَوْتِ، وَسُمِعَ لَهُ مِنْ أَجْلِ تَقْوَاهُ “.
إلهى إلهى لماذا تركتنى هى جملة مليئة بمعانى العجز الكلى للإبن المتجسد أمام سطوة الموت و القصور الجسدى الذى يعمل فى كياناتنا الهشة الضعيفة و اللجوء إلى الآب هو الموقف الصحيح الذى تعترف فيه بأن من له الدوام هو الله فقط أما هذا الجسد الذى هو نحن فخلاصه يأتى من دعوة الآب إلينا ليعبر بنا من الضعف و المهانة إلى القوة و المجد الذى يرافق فيه الآب مسيرتنا في العبور من الجسد الفانى إلى الجسد الباقى النورانى المتحرر من الألم و من الموت.
لقد أصدر الجنود تحت الصليب تحدياً كبيراً ليسوع خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا! ” “إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا ”! أما اللص اليمين فقال له : ”اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ” هذه الملكوت التى لن تولد إلا من على الصليب فى خضم الألم المرأة وهى تلد تحزن من الألم لأن ساعتها قد جاءت و حينما تلد تعود فتفرح لأنها ولدت انسان للعالم إن دور الآب على الصليب هو دور الشاهد الأمين على صدق إبنه المتألم فى محبته للبشر و هو المعضد لهذا الصدق و لدوره فى سر الخلاص و قمة المجد هى قبول الألم بصبر و ثبات حتى آخر لحظة من حياته دون الكفر بالله الآب الحنون ، هذا ما عاناه أيوب البار و هذا ما يعيشه مريض السرطان اليوم الذى يخضع لآلام عنيفة إلى أن يسلم الروح بإيمان شديد و قوة تحمل و صبر.
و إذا كان المسيح قام من الأموات فلأنه بكر الراقدين أما نحن فننتظر قيامة الأموات و حياة الدهر الآتى حينما يأتى الابن في مجده.