مجمع فرّارا- فلورنسا – الأب مكاريوس توفيق في عام 1993
من فرّارا إلى فلورنسا
رأينا في العدد الماضي أن المحاورات التمهيدية بين اللاتين والروم خلال جلسات المجمع في فرّارا، والتي تركزت أساساً على شرعية إضافة كلمة “والابن” إلى قانون الإيمان، لم تؤد إلى نتيجة حاسمة، فبدأ الروم يفكرون في العودة إلى بلادهم، في حين دعا البابا إلى نقل المجمع إلى فلورنسا “وأما الملك فكان ذا صبر وطول روح، يدبر الأمور بمعرفة وحزم… فاحتدّ الملك وقال [لأساقفته] “نحن تركنا مواطننا وأتينا إلى هاهنا… بنصَب شديد طالبين المحبة واتحاد الكنائس، وكفّ الانشقاق وحسم الفتن. وكلكم تعنّيتم وأتيتم إلى هاهنا… فأنا لأجل رجاء واحد تعبت وأتيت إلى هاهنا حتى أنال غفران خطاياي، لأن ليس لي ولد، ولا أريد غير ذلك من الكرامات، بل لأجل صلاح جنس الروم فقط. فاعملوا أنتم حسبما ترون، والأولى أن تحرصوا في اتحاد الكنائس، ولكي نرجع إلى أوطاننا متحدين بالكرامة، لا منفصلين بخزي. وإن البابا كلمني ان نخرج من هاهنا، فرّارا، لنذهب إلى فلورنسا وهناك نكمل المجمع، فكيف ترون هذا الرأي؟ جيداً أن نذهب؟”[1]
وافق أساقفة الروم بعد المفاوضة مع الملك على أن يمضوا إلى فلورنسا على شرط أن يكون سبب نقل المجمع هو انتشار وباء الطاعون… وفقاً للقوانين الكنسية التي لم تكن تجيز نقل المجمع من مكانه إلا لسبب حرب أو وباء أو غلاء… كما طلبوا ألا تطول اقامتهم بفلورنسا أكثر من أربعة شهور.
على أن الانتقال إلى فلورنسا لم يكن دافعه الوحيد انتشار الوباء الذي ذهب ضحيته بعض المشاركين في المجمع بل كان وراءه أيضاً تدبير نفقات المجمع والمعونات المطلوبة للقسطنطينية[2]. فخزينة البابا كانت مثقلة بالديون إذ أن النفقات التي تكبدها البابا من جراء استضافته للمجمع كانت باهظة، بدءاً من تكاليف استئجار الأسطول الذي ذهب ليحضر الوفد من القسطنطينية، ونفقات السفن والرجال الذين أُرسلوا إلى القسطنطينية لحمايتها، ونفقات انتقال الوفد اليوناني من البندقية إلى فرّارا، ومصروفات إعاشتهم ومرتباتهم، فضلاً عن إعاشة الوفد اللاتيني.
وزاد الطين بلّة أن فرنسا وبولونيا أحجمت عن تقديم معوناتها التي وعدت بها، كما أن دوق ميلانو واصل التهام أراضي الدولة البابوية لطمعه في إيرادتها فحرم الكرسي الرسولي بذلك من جزء هام من إيراداته، وفرض عليه من جهة أخرى الإنفاق على جيش للدفاع عن باقي الأراضي.
ولكي يواجه البابا أوجنيوس الموقف إضطر إلى تحصيل العشور ابتداء من أول سبتمبر 1438، وكان قد أقر تحصيلها من قِبَل مجمع بازل، وإلى التناول عن حكم عدة مدن مقابل بعض المساعدات والاقتراض من دوقي البندقية وفلورنسا وغيرهما.
وقد بلغت تلك النفقات حتى نهاية إبريل 1438 ثمانين ألف دينار ذهبي. ولم تكن فرّارا قد قدّمت أيّة مساعدات في حين عرضت فلورنسا تقديم الإقامة المجانية ودفع 1500-1700 دينار ذهبي شهرياً للوفد اليوناني كسلفة يقوم البابا بردها فيما بعد، بالإضافة إلى قرض آخر للبابا لدفع المتأخرات عليه وتغطية نفقات السفر من فرّارا إلى فلورنسا[3].
هكذا لم يجد اليونانيون بُداً من الاقتناع بضرورة الانتقال إلى فلورنسا. وقد أبدوا موافقتهم في 2 يناير 1439، كما أقرّها السينودس اللاتيني في 6 يناير وفي جلسة عامة بتاريخ العاشر منه قُرئت البراءة البابوية التي أعلنت نقل المجمع إلى فلورنسا باللغتين اللاتينية واليونانية: “افجنيوس عبد عبيد الإله انذاراً بالمجمع المقدّس المسكوني الذي كان مزمعاً أن يصير في فرّارا، فلأجل حدوث الوباء هناك في الشتاء، وخوفنا أن يدوم إلى الصيف، فعلى موجب النواميس والقوانين [الكنسية] نقلنا هذا المجمع من فرّارا إلى فلورنسا… وفي يوم الحادي عشر من كانون الثاني (يناير) أعطي البابا للروم المصروف والخرج، وبعث إلى مدينة القسطنطينية تسعة عشر ألفاً من الذهب يستعينون بها واستعد للمضي إلى فلورنسا”[4]. وكان البابا أول من ترك فرّارا في 16 يناير ووصل إلى فلورنسا في 24 منه. وسافر البطريرك في 26 يناير ووصل في 7 فبراير، ووصل الإمبراطور في 15 فبراير. وقد أُجري لكل منهم استقبال رسمي وكنسي حافل.
جلسات فلورنسا
في الثامن عشر من فبراير اجتمع الأحبار اليونانيون بالإمبراطور للإتفاق على الإجراءات فطلبوا أن يتم الحوار في لجان بدلاً من الجلسات العامة. فعرض الإمبراطور رغبتهم على البابا فوافق. وفي 26 فبراير التقى أربعون يونانياً وأربعون لاتينياً في دير الدومنيكان حيث كان يقيم البابا ولم يتمكن البطريرك من المشاركة لمرضه. وبدأ الكاردنال شيزاريني فذكّر بالاتفاق السابق على أن تعقد ثلاث جلسات أسبوعياً تستمر كل منها ثلاث ساعات على الأقل. ورغم أن اللاتين كانوا يفضلون المناقشات العامة فقد نزلوا عند رغبة الروم. وهكذا انتهت الجلسة الإجرائية الأولى بتكليف الروم بإيجاد سُبل تفاهم أخرى غير المناقشات العامة.
اجتمع الروم للبحث عن تلك الوسيلة لكنهم لم يصلوا إلى شيء فاقترح البابا التمسك بالجلسات العامة مع بعض التعديل: فبدلاً من الخطابات المطولة التي لا تنتهي من طرف ثم من الطرف الثاني كما حدث في فرّارا، يتبع منهج “الأسئلة من طرف والأجوبة من الطرف الثاني”
عُقدت الجلسة العقائدية الأولى في فلورنسا في الثاني من مارس بكنيسة القديسة مريم الجديدة. ولم يحضرها البطريرك والإمبراطور لمرضهما. فتحدث اللاتين أولاً، بموافقة مسبقة من الإمبراطور، فعرضوا فكرهم عن انبثاق الروح القدس من الآب والابن.
كان الفكر اللاهوتي لشرح عقيدة التثليث قد تشكل رويداً رويداً على أثر مجادلات طويلة ومحاربات للبدع والهرطقات استدعت إنعقاد مجمعي نيقية 325م والقسطنطينية 381 ويمكن إيجاز هذا الفكر اللاهوتي في التحديدات التالية: “ثلاثة أقانيم في طبيعة واحدة” وهذا يعني وحدة الذات الإلهية أو الجوهر أو الطبيعة للأقانيم الثلاثة بينما كل منها يتميّز “بالخواص” الفردية. فالآب يتميّز بخاصة الأبوّة، والابن بخاصة البنوة، والروح القدس بخاصة الإنبثاق. وهذه الخواص هي التي تحكم العلاقات بين الأقانيم. فالآب هو الذي يصدر منه كما من نبع واحد الأقنومان الآخران: الابن بالولادة الأزلية والروح القدس بالإنبثاق.
فأما عن ولادة الابن أزلياً فاليونان واللاتين كانوا متفقين. ولكنهم لم يكونوا كذلك على كيفية انبثاق الروح القدس. هل من الآب وحده أم من الآب والابن؟ وعلى مدى ثماني جلسات استغرقت شهر مارس 1439 بكامله تبادل الراهب الدومنيكاني يوحنا دي مونتنيرو والمتروبوليت مرقس أوجينيكوس أسقف أفسس عرض أقوال الآباء الشرقيين والغربيين، كل منهما يحاول تأييد فكر كنيسته. في الجلسات الخمس الأولى اجتهد مونتنيرو والمتروبوليت مرقس أوجينيكوس أسقف أفسس عرض أقوال الآباء الشرقيين والغربيين، كل منهما يحاول تأييد فكر كنيسته. في الجلسات الخمس الأولى اجتهد مونتنيرو أن يثبت- مستعيناً بنصوص آبائية- أن الروح القدس طالما “يأخذ مما للابن”- كما كتب القديس يوحنا (15:16)- فلابد أنه يأخذ منه الكيان، وهذا يعني أنه ينبثق منه- لكن مرقس نفى هذه النتيجة مستشهداً بنصوص آبائية أخرى.
ولقد أثار منهج “الأسئلة والأجوبة” بين الخطيبين مساجلات حارة غالباً. وشرح مونتنيرو مراراً الأسس الميتافيزيقية للولادة الأزلية، حيث أن الشخص يلد بالطبيعة “وبالتالي فالآب يلد الابن أزلياً معطياً إياه كل ذاته إلا خاصة الأبوة، كذلك الابن هو مبدأ الروح القدس. وهذا لا يتعارض مع خاصة البنوة بحيث يكون الآب والابن على واحدة للروح القدس”.
لكن لأن المصطلحات اليونانية تختلف عن المصطلحات اللاتينية فكثيراً ما كان يحدث لبس في فهم ما يقصده الطرف الآخر بالضبط. وكان ردّ مرقس أن لو كان الروح القدس ينبثق من الآب والابن (وهما أقنومان) فهذا يعني وجود علّتين للروح القدس. وهذا يضاد التقليد الكنسي.
استشهد مونتنيرو من جديد بالقديس باسيليوس والقديس ابيفانيوس.. لكن الجزء الأكبر من الجلسات الخمس الأولى انقضى في فحص الكلمات ومعنى النصوص، فلم يتحقق تقدم في التفهم العميق للاهوت الانبثاق… لذلك ففي الجلسة السادسة قدّم مرقس متروبوليت أفسس عرضاً متكاملاً لفكر كنيسته من خلال الكتاب المقدس والآباء والمجامع التي تذكر أن “الروح القدس من الآب ينبثق”. عقّب مونتنيرو على عرض مرقس مؤكداً أن الكنيسة اللاتينية تُعلن، بلا أدنى تردد، أن قولها بانبثاق الروح القدس من الآب والابن إنما يعني أن الآب والابن هما علة واحدة ومبدأ واحد للروح القدس.
بعد الجلسة تحاور اليونانيون فيما بينهم عن أقوال مونتنيرو وحضهم الإمبراطور على البحث عن وسيلة للاتحاد غير الجدال الذي لا يجدي، وأكد لهم أن مونتنيرو قدّم له كتابة إقراره بالعلة الواحدة لانبثاق الروح القدس. وقد ذكر أحدهم قول القديس مكسيموس الذي أكد أن الرومان “لم يجعلوا الابن علة للروح القدس لأنهم لم يقرّوا إلا علة واحدة للابن وللروح القدس هي الآب، فهو على الابن بالولادة الأزلية، وعلة الروح القدس بالانبثاق”.
عندئذ صرح اليونانيون بأنه إذا وقّع اللاتين على هذه الصياغة فإنهم على استعداد لإتمام الاتحاد. فنقل الإمبراطور هذا الاقتراح إلى البابا… لكن البابا فضّل أن يعرض مونتنيرو الفكر اللاتيني في الانبثاق كما عرض مرقس فكر الكنيسة اليونانية، وهذا ما فعله مونتنيرو في جلستي 21و24 مارس، بادئاً هو أيضاً من الكتاب المقدس ثم اباء الكنيسة اللاتين واليونانيين، وخاتماً بالإجابة على اعتراضات مرقس الرئيسية.
جاءت خلاصة عرض مونتنيرو الكتابي هكذا: إن الروح القدس هو روح الابن (غلا6:4) ليس كخادم له، بل لسبب أن الروح يجد أصله أيضاً في الابن. وهو مرسل من الابن (يو26:15) ليس كما يُرسل من معلم، بل من مصدر. وهو صورة الآب كما أن الابن هو صورة الآب، لأن يسوع يقول “جميع ما هو للآب فهو لي ولذلك قلت لكم إنه يأخذ مما لي ويخبركم به” (يو15:16) فهو يأخذ منذ الأزل من ذات الابن، داخل الطبيعة الإلهية نفسها…
استشهد مونتنيرو كذلك بأقوال الاباء اللاتين الذين يُعدّهم اليونانيون قديسين ومعلمين للكنيسة الجامعة: لاون الكبير ودامازيوس وهيلاريون وايرونيمس وانسلمس وأوغسطينوس ثم بمجمع طوليدا الأول (سنة 400) الذي وضع قانوناً للإيمان جاء فيه أن “الروح القدس ينبثق من الآب والابن”.
وقد أفاض مونتنيرو في الشرح والتعليق حتى إن الوقت لم يتسع لعرض أقوال الاباء اليونانيين إلا في جلسة 24 مارس حيث كان يقرأ النص باللاتينية ويقوم أحد الكتبة بقراءته في الأصل اليوناني… وقد ركّز على قول القديس أثناسيوس الرسولي أن صيغة العماد تُعلن أن الروح القدس من جوهر الآب والابن. وعلى قول كيرلس الاسكندري “الروح القدس يتدفق من الابن كما من الآب، وإنه يتدفق من الآب بالابن، وانه من جوهر الابن” وأنه “يأتي من الآب والابن”. وهذا يشرح جيداً أصل الروح القدس وانبثاقه الأزلي من الآب والابن.
وإلى هذه النصوص وغيرها أضاف مونتنيرو تعليقاته الشخصية لتوضيح معانيها فكان يقول مثلاً: بما أن الروح القدس “يأخذ العلم من الابن” فيلزم أنه يأخذ منه الكيان أيضًا. لأن العلم غير منفصل عن الذات في الطبيعة الإلهية وإلا لكان الروح يتلقى علمًا خارجًا عنه وبالتالي يفتقد شيئًا في ذاته. كما كان يؤكد على التوازي الذي عبّر عنه القديس كيرلس الإسكندري “إن (الروح القدس) مساو في الجوهر و “يتدفق” حقيقة (أي ينبثق)- كما من نبع- من الله الآب” فلفظ “يتدفق” يعني “ينبثق”.
وفي ختام التدليل من نصوص الآباء اليونانيين، أجاب مونتنيرو على النصوص التي استشهد بها مرقس معترفًا أن غريغوريوس النزينزي وأثناسيوس قد أعلنا أن الآب “هو مصدر الألوهية” وهذا لا يعني استبعاد الابن، تمامًا كقول السيد المسيح “لا أحد يعرف الآب إلا الابن” (مت27:11) فهذا لا يعني استبعاد الروح القدس من معرفة الآب. فالآب هو المصدر الأول والرئيسي للألوهية، لأن الابن بولادته الأزلية يشارك في انبثاق الروح القدس من الذات الإلهية.
ثم أشار مونتنيرو إلى أن الآباء علّموا حقيقة أن الروح القدس منبثق من الآب، ولكن مرقس هو الذي أضاف كلمة “فقط” أو “وحده” أي أنه قصر الانبثاق على الآب “فقط”. عقّب ايسيدورس الروسي باختصار باسم اليونانيين بأنه يلزمهم بعض الوقت لدراسة الوثائق. هكذا انتهت الجلسات الخاصة بانبثاق الروح القدس. وكان كثيرون من الوفد اليوناني قد تأثروا بالعرض اللاتيني[5].
مسيرة التفاهم نحو إتمام الاتحاد
بعد خطاب مونتنيرو المقنع، يوم خميس الآلام، ساد جو من التفاؤل المعسكر اليوناني. وقرر البطريرك بالاتفاق مع البابا عدم عقد جلسات أخرى لإتاحة الوقت لأساقفته لدراسة أقوال الآباء. إذ أن الوفد اليوناني كان قد انقسم إلى معسكرين متعارضين: بيساريون وايسيدورس متروبوليت كييف ودوروثاوس الميثيليني وغريغوريوس مرشد الإمبراطور أقروا الاتحاد لأنهم رأوا أن تعليم قديسي الكنيستين واحد. أما أنطونيوس ودوروثاوس أسقف مونمباسي ومرقس فلم يقتنعوا بذلك.
ولأن البطريرك قبل المسحة الأخيرة يوم سبت النور 4أبريل، لاشتداد المرض عليه، فقد تعطلت المباحثات أيامًا. وفي يوم الجمعة الأولى من الخمسين المقدسة اجتمع السينودس اليوناني بحضور الإمبراطور وقرّر أن يرسل إلى البابا يطلب البحث عن طريق للاتحاد غير المناقشات اللاهوتية. فتساءل البابا: في أي نقطة بالضبط من التعليم اللاتيني يشك اليونانيون؟ وأي براهين أفضل يمكنهم تقديمها؟ عندئذ عقد الإمبراطور اجتماعًا جديدًا لوفد كنيسته لم يحقق الاتفاق بين المعسكرين. وخلال ثلاثة أيام حاول بيساريون وسخولاريوس حث زملائهما على الاتحاد. يقول المخطوط بحسب رؤية الكنيسة اليونانية “وإن جاورجيوس السخولاريوس أورد ثلاث مفاوضات تحض على السلامة والمحبة والاتفاق. وحث الروم على الاتفاق مع الافرنج وعبر الوقت. ثم قال الملك سرًا لمجمع الروم أن يوافقوا الافرنج. وكذلك البابا فاوض جماعته بخصوص الاتحاد، وانحل المجمع…”[6]
أبرز الخطاب العقائدي الذي ألقاه بيساريون مبدأً هاماً هو أن جميع القديسين يجب أن يكونوا بالضرورة على اتفاق بخصوص الإيمان، لأنهم جميعًا ملهمون بالروح القدس الواحد إذ لا يمكن أن يناقض الروح نفسه.
وفيما يخص إضافة “والابن” رأى بيساريون أن اللاتين يتحدثون بوضوح أكبر لكن لأن اليونانيين يقتنعون أكثر بأقوال آبائهم فقد شرع يدلل من أقوالهم أن تعليمهم رغم أنه أقل حسمًا فهو في جوهره نفس تعليم اللاتين.
وأعلن سخولاريوس من جهته أن اللاتين قد برهنوا بالكفاية على صحة تعليمهم انطلاقًا من الآباء اليونانيين الستة الأكثر توقيرًا. وإذا تطلّب الأمر فهو نفسه على استعداد أن يدلل في ساعة أو اثنتين على الاتفاق بين القديسين اللاتين واليونانيين. وإذاً فعلى اليونانيين أن يتحدوا مع اللاتين، إذ يمكنهم أن يقوموا بذلك بكل خير وكل شرف، وأن يعودوا إلى بلادهم للدفاع عنها بمساعدة الغرب ضد الهجوم التركي الوشيك.
وفي يوم الأربعاء 15 أبريل التقى الكرادلة شيزاريني وكوندولمارو وكابرانيكا بالوفد اليوناني. فعبّر شيزاريني عن قلق اللاتين إزاء عدم حسم اليونانيين سواء في القسطنطينية أو في البندقية أو في فرارا ثم في فلورنسا، بينما قام البابا بكل التزاماته الروحية والمادية وعمل كل شيء لإيضاح العقيدة.
أكد الإمبراطور أن لا فائدة من الاستمرار في المناقشات واقتراح بديلاً: عقد اجتماعات للجنة تضم عشرة أعضاء من كل جانب ليقترح كل عضو بدوره رأيه الشخصي في سبل الوصول إلى الوحدة. وقد وافق البابا على ذلك عندما حمل إليه الإمبراطور الاقتراح.
لم تصلنا وثائق كاملة عن اجتماعات اللجنة التي يبدو أنها كانت خمسة اجتماعات. ويغلب الظن أن بيساريون هو الذي استعمل عبارة القديس مكسيمس التي يؤكد فيها أن اللاتين يقولون إن “الابن ليس علة للروح القدس”. ويبدو أن ايسيدورس اقترح استعمال تعبير تاراسيوس القسطنطيني: “الروح القدس منبثق من الآب بالابن”. لكن المشكلة أن هذا التعبير قد يفسّر بأن الابن مجرد واسطة في الانبثاق.
لم تجد تلك الاقتراحات قبولاً، عندئذ اقتراح اليونانيون على اللاتين كتابة بيان عن تعليمهم بالضبط. ثم اجتمع الطرفان لفحص البيان وأقوال الآباء.
كان اليونانيون يخشون أن تعني إضافة “والابن” الإقرار بمبدأين لانبثاق الروح القدس، لذلك ترددوا في الموافقة على الإضافة دون أن ينووا استبعاد الابن من الانبثاق.
وفي الجهة الأخرى كان اللاتين يستعملون الإضافة دون أن يقصدوا مبدأين للانبثاق ودون أن ينفوا أن الأب هو مصدر ومبدأ كل الألوهية. لذلك وضعت هذه الصيغة “باسم الثالوث القدوس الآب والابن والروح القدس […] نحن اللاتين واليونانيين، نقبل ونؤمن بأن الروح القدس صادر أزلياً من الآب والابن، وينبثق أزلياً منهما كما من مبدأ واحد وبفعل انبثاق واحد”[7].
اجتمع اليونانيون لمناقشة هذه الصياغة، فتلا إيسيدورس نصوصاً يونانية انتخب منها المجتمعون اثنين ليشكلا أساساً للرد يقدمونه للاتين. كما قدم سخولاريوس البيان الذي أعدّه متضمناً، هذه النصوص. وكان عمله ذكياً إذ حوى تقريباً نفس الصياغة اللاتينية لكنه- في الفقرة الأخيرة (العقائدية)- وضع نصاً آخر من مجمع نيقية يقول إن “الروح القدس ينبثق من الآب وهو خاص بالابن ويندفق منه”، ونصاً آخر من القديس كيرلس يؤكد أنه “ينساب جوهرياً من الواحد والآخر” وختم الوثيقة بتأكيد عودة الوحدة والشركة بين الكنيستين.
كان يمكن الاعتقاد أن أي مسيحي تقي لا يمكنه الاعتراض على البيان الذي يتضمن تعبيراً من مجمع نيقية وتفسيراً من القديس كيرلس الإسكندري. ولكن اللاتين طلبوا توضيح معنى ذلك التحديد: هل يقصدون به الحديث عن العلاقات الداخلية في الثالوث القدوس؟ أم عن إرسالية الروح القدس بين الناس؟
هنا بدا اللاتين متشددين، لكن بيان سخولاريوس كان غامضًا بالفعل. والمتروبوليت مرقس نفسه وصفه بأنه يشتمل على أنصاف معاني.
حاول الإمبراطور أن يقنع اللاتين بأن ألفاظ “يندفق من” أو “ينساب من” تنسب دور “العلة” للابن أيضاً. وإن نقص التوضيح يعود إلى مستوى الثقافة عند اليونانيين. كما كرّر ذلك على مسامع البابا قائلاً: “ما تقولونه قداستكم عادل، كان علينا أن نوضح بياننا، لكن الشرقيين جميعاً ليس لديهم نفس الرأي في هذه النقطة. والغالبية تتردد فيما تطلبونه سواء للجهل بالموضوعات المعالجة، وساء بعدم القدرة على ترك إيمانهم التقليدي فجأة، لأن آبائنا كانوا يعتقدون أن اللاتين يؤكدون وجود علتين للروح القدس قائمتين بذاتهما. ولهذا فهم لا يقبلون كلهم الاتحاد بسبب إضافة: (والابن)”[8].
بعد عدة أيام طلب البابا أن يوجّه بنفسه الحديث مباشرة إلى الوفد اليوناني وبحضور الوفد اللاتيني. فألقى البابا خطاباً مؤثراً وبليغاً عن أمله الكبير الذي عقده على هذا المجمع في إتمام الاتحاد وفق مشيئة السيد المسيح ولما رآه من حماس اليونانيين وتحملهم مشقات الحضور ثم خيبة أمله المتزايدة بسبب عدم حسمهم رغم قيام اللاتين بتلبية كل رغباتهم من تشكيل لجان واستشهاد بكتابات الآباء وتقديم بيان مكتوب للعقيدة في حين قدموا هم صياغة مبهمة ورفضوا إيضاحها. وختم البابا قائلاً: “ماذا أقول؟ إن الانقسام ماثل أمام أنظارنا وإنني لأتساءل: ماذا يفيدكم هذا… فإذا استمر الانقسام ماذا سيكون تفكير الأمراء الغربيين؟ وأنتم أنفسكم أي لوم وندم سوف تعانون؟ بأي حال ستعودون إلى بلادكم؟ […] إنني أحرضكم إذاً، أيها الإخوة، حسب وصية سيدنا يسوع المسيح: أن لا يكون انقسام فيما بعد في كنيسة الله، بل فلنكن متيقظين ساهرين، ولنعط المجد لله تعالى كلنا معاً. إن اتحادنا سيجلب خلاصنا للنفوس، وإنقاذاً للأجساد، وخزياً للأعداء المنظورين وغير المنظورين، والفرح بين القديسين والملائكة، والابتهاج في السماء وعلى الأرض..”
كان لابد أن يتأثر اليونانيون كثيراً. فبدأت نقطة الانطلاق لمجموعة أحداث انتهت بالاتحاد… وهذا ما سنقرأه في العدد القادم بمشيئة الله.
——————————————
[1] لوكاس حلمي سورسن (الأخ)، تحقيق في مخطوط عن مجمع فلورنسا بحسب رؤية الكنيسة اليونانية، كلية العلوم الإنسانية واللاهوتية- القاهرة 1993 ص38.
[2] J. Gill, sj, Constance et Bale-Florence, ed. de l’Orante, Paris, p.230. CFR. C-J.Hefele, Histoire des Conciles, T.VII,2, Paris, 1916, pp986-87.
J. Gill, op. cit. p.231; C.J. Hefele, op. cit. p.987. Cfr. C.J. Hefele, [3] Idem.
[4] لوكاس حلمي سورسن (الأخ)، المخطوط المذكور، ص39.
[5] J. Gill, op. cit. pp. 232-240; C.J. Hefele, op. cit. pp. 988-995.
[6] لوكاس حلمي سورسن (الأخ)، المخطوط المذكور، ص42.
[7] J. Gill, op. cit. pp. 241-244; Cfr. C.J. Hefele, op. cit. pp. 1000-1003.
[8] J. Gill, op. cit. pp. 244-246; Cfr. C.J. Hefele, op. cit. pp. 1004-1006.