التعليم المسيحي: بين اللاهوت، القداسة، والأبوة الروحية-بقلم روبير شعيب
مقاربة تاريخية، لاهوتية، روحية وتطبيقية
“يجب على معلم الإيمان المسيحي أن يعرف كيف يلمس كل إنسان في عمق دعوته ووضعه الشخصي، لكي يتمكن كل إنسان أن ينمي معرفته للإيمان بشكل مسؤول وأن يطابق حياته مع إيمانه (“تجديد التعليم المسيحي، عدد 41).
إن اعتبار التعليم المسيحي كمسألة وجودية، مسألة عيش مع الله وفي الله، وليس فقط كمسألة نقل معلومات حول الله، هو ضرورة ترتبط بها فعالية نقل خبرة الإيمان المسيحي، نقل “وديعة الإيمان” التي يتحدث عنها القديس بولس. ولذا نود أن نكرس فسحة للتفكير في المفهوم العميق للتعليم المسيحي عبر ربط أبعاد ثلاثة ضرورية تشكل فسحة وجود وتنفس هذه الخبرة: اللاهوت، القداسة والأبوة الروحية.
يقول الفيلسوف الدانماركي سورين كيركغارد (Kierkegaard): “أستاذ اللاهوت [أو أي معلم للدين المسيحي] هو شخص يعلّم لأن آخر صُلِب”.
كلنا يعرف أن كيركغارد كان من دعاة “قفزة الإيمان” ما وراء حدود العقل، ومن دعاة “الإيمان الفردي”، ولكن مقولته لا تخلو من المعنى؛ تقدم لنا هذه العبارة اللاذعة فكرة عن تفاهة تعليم الدين المسيحي كمجرد واقع موضوعي، تاريخي، حدث في الماضي ولا يمت إلى حاضري بأية صلة. وتعبر عن كآبة موقف من يتحدث بكل ارتياح ووسط تصفيق الجماهير عن إله صلب وتألم وتعرض للرفض. الثرثرة بشأن الله أمر تافه إذا لم يكن ذلك يعني في نفس الوقت عيش عميق ووجودي للخبرة المسيحية، دخول في توق الله المتيّم الذي عبّر عنه على الصليب.
معلم الإيمان المسيحي الحق هو شخص، لا يتكلم عن الله، بقدر ما يترك لله المجال أن يسرد فيه ومن خلاله قصته، “الدراما الإلهية” (كما أسماها اللاهوتي الكبير هانس أورس فون بالتازار في القسم الثاني من ثلاثيته اللاهوتية الكبرى).
أولاً: الانفصال المأساوي بين اللاهوت والقداسة
إن “الطلاق” بين اللاهوت والقداسة الذي عاشته الكنيسة على مدى عصور طويلة هو واقع “مأساوي” لأنه فصل أدى إلى انحطاط إن من ناحية فهم الإيمان وإن من ناحية عيشه. ولكن قبل أن نلقي نظرة إلى أسباب الانفصال التاريخي بين اللاهوت والقداسة، لا بد أن نقدم بعض المعاني التي توضح محتوى هذين الواقعين.
اللاهوت يتعلق بمحتوى الإيمان (Fides quae creditur)، بفكر الإيمان (intellectus fidei)، بالقبول العقلي والعقلاني والوجداني للإيمان، بالاعتراف الإيماني القويم (ortho-doxa)…
القداسة تتعلق بفعل الإيمان (Fides qua creditur)، باعتراف الإيمان (confession fidei)، بالقبول الإرادي والوجودي لعيش الإيمان، بالعيش الإيماني القويم(ortho-praxi).
إذا ما نظرنا إلى هذه الصفات لوجدنا أن عيش إيمان ناضج وسليم يتطلب كلتي الصفتين. فعيش الإيمان دون فهمه لا يطابق طبيعتنا البشرية العقلانية، وفهم عقلانية الإيمان دون الدخول في وجدان العيش المسيحي لا ينفع شيئًا، بل يضحي نوعًا من فلسفة برجوازية لا تجدي نفعًا. صدق كاتب “الاقتداء بالمسيح” عندما قال: “لا ينفعك شيئًا فهم الثالوث الأقدس إذا خلوت من التواضع الذي يجعلك مرضيًا لدى الثالوث”.
1. نظرة تاريخية
1.1. العصر الوسيط
يتحدث اللاهوتي السويسري فون بالتازار في مقالته “اللاهوت والقداسة” عن “حجر عثرة” يتمثل بالانفصال بين اللاهوت والقداسة. ويصرح بالتازار أن اللاهوت والقداسة كانا يسيران يدًا بيد حتى العصر الوسيط، بحيث كانت شخصية اللاهوتي تلازم دومًا شخصية القديس، والعكس. فكل آباء الكنيسة العظام، مثل إيروناوس، وأغسطينوس، وغريغوريوس النزينزي، وباسيليوس الكبير، وغريغوريوس النيصصي، ويوحنا فم الذهب، كانوا لاهوتيين عظام وقديسين عظام في آن. “آباء الكنيسة” بالواقع هم أولئك الأشخاص الذين تحلوا بهذه الصفات الأربع: القدم، الإيمان القويم، القداسة، وقبول السلطة الكنسية.
ويسعى بالتازار إلى إيجاد أصل هذا الانفصال، فيعتبر أنه يعود إلى اعتناق المسيحيين في العصر الوسيط بعض مفاهيم الفلسفة اليونانية للتعبير عن الحقائق المسيحية، دون أن يقوموا بتعديل هذه المفاهيم بشكل يوافق واقع الإيمان المسيحي.
من بين هذه المفاهيم، هناك مفهوم الحقيقة (aletheia)، التي بدأ لاهتيو العصر الوسيط بوصفها متأثرين بأرسطو بهذا الشكل: “مطابقة العقل للواقع”، “ adaequatio intellectus ad rem “: أي لكي أعي حقيقة أمر ما، لا بد أن أجعل عقلي يطابق واقع هذا الأمر، فيدرك على ماهيته، أي على حقيقته. هذا الوصف للحقيقة المجردة هو صحيح ودقيق جدًا، ولكن لا يمكننا أن نطبقه كما هو على الحقائق الشخصانية، وبشكل خاص على حقيقة الإيمان. ففي العلاقة الشخصانية لا تنحصر “المعرفة” على “الحقيقة” (verum) بل تنفتح بشكل ضروري على “الصلاح” (الخير bonum). ويعتبر بالتازار أن لاهوتيو العصور الوسطى أقروا بتواجد الصلاح والحقيقة، إلا أنهم لم يبينوا تداخل الواحد بالأخرى، وعدم إمكانية انفصالهما. ويشرح بأن هذا الفصل “الفلسفي” ينعكس على أرض الواقع فصلاً بين معرفة الإيمان وقداسة الحياة. فالفكر الفلسفي الوسيط يعترف – وكيف له أن ينكره – بمعرفة الإيمان وبقداسة الحياة، إلا أنه لا يرى بوضوح تداخل الواحد في الآخر، وضرورة تواجد الاثنين سوية.
إن نتائج هذا الانفصال عديدة، يسمي بالتازار بعضًا منها مثل “فقدان الترابط الحميم” بين شخصية اللاهوتي والقديس. وبهذا الشكل قدم لنا العصر الوسيط والعصور اللاحقة – طبعًا مع بعض الاستثناءات حيث جمع لاهوتيون عظام مثل أنسلموس، ألبرتوس الكبير، توما الأكويني، بونافنتورا… بين القداسة واللاهوت– لاهوتيين لم ينتشر أريج قداستهم، ولم تعترف الكنيسة ببطولة فضائلهم رغم اعترافها واستخدامها لثمار فكرهم اللاهوتية والفلسفية. وفي الوقت عينه نجد قديسون عظام، إلا أنهم، خلافًا لآباء الكنيسة، لم يبرعوا في تعليم الإيمان وتعميقه لاهوتيًا.
والنتيجة الأخرى لهذا الفصل هي فقدان صورة ما يسميه بالتازاربـ “اللاهوتي الكلي”، أي اللاهوتي الذي لا يعبر فقط بفمه، بل بكلية كيانه عن جوهر الإيمان. بدأت حقبة صار فيها اللاهوت عقليًا بحت[نود أن نلفت الانتباه على التمايز بين العقلاني (rational) والعقلي(rationalist). فالأول يستعين بالعقل ليسمو به إلى ما هو أسمى، بينما الثاني يخضع للعقل ولا يتخطاه البتة]. يقول بالتازار أنه مع مجيء اللاهوت العقلي، لم يعد اللاهوت لاهوت ركوع (وصلاة) بل لاهوت مكتبة وطاولة أبحاث.
طبعًا لا بد أن يجلس الإنسان إلى الطاولة ليكتب، ولا بد أن يستعين بالكتب والأبحاث، ولكن لا يجب أن يكون هذا على حساب العلاقة الشخصية والمباشرة مع موضوع اللاهوت الذي ليس موضوعًا بالمعنى الحصري للكلمة، بل هو شخص، ومحاور حي.
يقال أن القديس بونافنتورا زار يومًا القديس توما الأكويني، فلم يجد في قلايته سوى قلة من الكتب. وتعجب من هذا الأمر فسأل صديقه: “قل لي، من أي معين غرفت كل هذا العلم اللاهوتي الزاخر؟”، فكان جواب توما: من الرب في القربان المقدس.
وهناك نتيجة أخرى هي نشوء إزدواجية بين اللاهوت العقائدي واللاهوت النسكي أو التقشفي. بالواقع، بينما ركز اللاهوتيون جهودهم على سبر وقائع عقلية مجردة، غير معاشة. نذكر بأن لاهوت الآباء لم يولد في قاعات الجامعات بل خلال الوعظ، وخلال الرد على الهراطقة، وخلال جهد الرعاة لنقل وديعة الإيمان إلى رعيتهم. وبالتالي كان لاهوتًا لا يستطيع أن يغوص في غمر الفكر المجرد، بل كان يتوجه دومًا إلى الواقع الإيماني والحياتي المعاش، وكان يهدف دومًا إلى الحياة الرعوية.
ولكن لما تم الفصل بين اللاهوت والإيمان، بات اللاهوتيون يرفعون عاليًا قصور أفكارهم، وأبقوا المؤمنين مع مكنون إيمان لا يعرفون كيف يشرحوه أو يفهموه. وبهذا الشكل ولد ما عرف لاحقًا بالتقوى الحديثة “ devotio moderna “، مع كثير من الكتب الروحية التي تفتقر إلى مكنون لاهوتي متين.
1 . 2. العصر الحديث
يعتبر اللاهوتي الإيطالي المعاصر بيار أنجلو سيكويري (P.-A. Sequeri) أن العصر الحديث ساهم عبر إطارين باستمرار الانفصال الذي بدأ في العصر الوسيط.
الإطار الأول ينشأ مع الإصلاح البروتستانتي وهو ردة فعل على التطرف العقلي لبعض تيارات السكولائية (الفلسفة المدرسية). كردة فعل على الفصل الذي حملته السكولائية، قامت البروتستانتية بتسليط الضوء على العلاقة الروحية الفردية مع الله معتبرة إياها “السبيل الأوحد للإيمان الأصيل”.
خطأ هذه النظرة يكمن في التشديد على الخبرة الفردية كالوسيلة “الوحيدة”: نحن بصدد ما يعرف بإيمان-الثقة الذي يتحدث عنه لوثر، وما من خطأ هنا؛ يبدأ الخطأ عندما يتم التغاضي عن التعمق اللاهوتي.
الإطار الثاني يعود إلى العدد الكبير من المتصوفين والرائين في القرن السادس عشر والسابع عشر. لقد باتت الخبرة الصوفية في ذلك الزمن تحتل مكانة كبيرة ونشأ جدل حاد حول التصوف. بسبب طابع الخبرة الصوفية الفائق الطبيعة والمائل إلى المغالاة، والذي يؤدي غالبًا إلى إبعادها عن خبرة الإيمان الجامعة، قامت الكنيسة، كردة فعل، بأخذ موقف احتراس صنّف الخبرة الصوفية “في إطار المواهب الفردية، الجديرة بالتقدير، ولكن غير الضرورية”. بهذا الشكل، بدل دمج الصوفية كعنصر في واقع الإيمان، وبدل تقديم وعي أوضح وأعمق للصوفية، تم عزلها وتصنيفها كخبرة فردية، غير ضرورية للإيمان الحق.
وقد أدى هذا الإنطواء على الخبرة الفردية من جهة، وعزل ونفي الخبرة الصوفية من جهة أخرى إلى تعمق الهوة بين القداسة واللاهوت. من هنا توصل المجمع الفاتيكاني الأول إلى تقديم تعريف لفعل الإيمان كـ “قبول عقلي بالأحكام الإلهية”، أي لمجموعة من العقائد.
فقط مع مجيء المجمع الفاتيكاني الثاني، أقله من ناحية الكنيسة الرسمية، توصلنا من جديد إلى وعي حيوي وشخصاني للوحي الإلهي، بحيث قدم المجمع الوحي كعلاقة وشركة بين الله والإنسان، وكهبة يقدم فيها الله، لا أحكامًا وعقائد، بل ذاته. يقول الدستور العقائدي ف الوحي الإلهي “Dei Verbum” في العدد 2:
“لقد حَسُنَ لدى الله، بجودته وحكمته، أن يكشف عن ذاتِهِ ويُعلِنَ سِرَّ إرادته (راجع أف 1، 9)، الذي به يتوصَّلُ البشر إلى الآب في الروح القدس، بالمسيحِ الكلمةِ المتجسِّد ويصيرون شركاءَ في الطبيعةِ الإلهيَّة (راجع أف 2، 18؛ 2 بط 1، 4). فإنَّ الله غير المنظور، (راجع كول 1، 15؛1 تيم 1، 17) بفَيضٍ من محبته للبشر، يُكالِمهم كأحباءَ (راجع خر 33، 11؛ يو 15، 14-15) ويتحدَّثُ إليهم (راجع با 3، 38) ليدعوهم إلى شركته ويقبلهم فيها. وتدبيرُ الوحي هذا يقومُ بالأعمال والأقوال التي ترتبط فيما بينها إرتباطاً وثيقاً، بحيثُ أنَّ الأعمال التي حقَّقَها الله في تاريخ الخلاص تُبرِزُ العقيدةَ والحقائقَ التي تُعَبِّرُ عنها الأقوالُ وتدعمُها، بينما الأقوالُ تعلنُ الأعمالَ وتوضح السرَّ الذي تَحويه. أمَّا الحقيقة الخالصة التي يُطلعنا عليها الوحي، سواءَ عن الله أم عن خلاصِ الإنسان، فإنَّها تسطعُ لنا في المسيح الذي هو وسيطُ الوحي بكامِلِه وملؤُهُ في آنٍ واحد”.
نود أن نلفت الانتباه في هذا النص إلى نقطتين هامتين: “Placuit Deo in sua bonitate et sapientia Seipsum revelare” (لقد حَسُنَ لدى الله، بجودته وحكمته، أن يكشف عن ذاتِهِ): جوهر الوحي المسيحي ليس كشف معلومات عن الله بل الله ذاته، وغاية اللاهوت هي التبحر في هذا السر الإلهي الذي يكشف عن ذاته للبشر حبًا.
وثانيًا، “Haec revelationis oeconomia fit gestis verbisque intrinsece inter se connexis” ، (وتدبيرُ الوحي هذا يقومُ بالأعمال والأقوال التي ترتبط فيما بينها إرتباطاً وثيقا). وبما أن الوحي يقوم على ترابط بين أعمال الرب وأقواله، لا بد من اللاهوت – كقول – ألا ينسى أعمال الإيمان، ولا بد لأعمال الإيمان ألا تنسى مرجعيتها في الكلمة التي تضفي على العمل معناه وطابعه الخاص الإنساني، والمسيحي.
البعد الوجودي للفصل بين اللاهوت والقداسة
سألت يومًا فتاةً ملتزمة في جماعة روحية، تعيش حياةً إيمانية وأسرارية دؤوبة: “لقد قرأتُ عن تظاهرة ضد المسيحيين جرت منذ عدة أعوام في ميلانو (شمال إيطاليا) رفعوا فيها رايات تندد بالمسيحية: ‘المسيحيون هن آكلو لحوم البشر وشاربو دماء. الموت للمسيحية ‘. كيف تجيبين أنتِ كمسيحية عن هذه الاعتراضات؟ كيف تشرحين لمن يتهجم على الإيمان المسيحي أن المسيحيين ليسوا كما تصفهم هذه اللافتات؟”. فكان جواب محاورتي: “نعم، نحن نأكل جسد الرب، ولكننا لسنا آكلي لحوم البشر؛ ولكن هذا الأمر لا يمكن تفسيره لأنه سر”.
إن جوابًا من هذا النوع، بالرغم من براءته، لا يكفي! فالطيبة والقناعة الشخصية لا تكفي في حياة الإيمان. لا يمكننا أن نعرض المحال على الآخرين متوقعين أن يقتنعوا ويؤمنوا. هناك عقلانية جوهرية في الإيمان المسيحي، ولا بد أن نجهد لإيصالها للآخرين، وإلا عبثًا نحاول التبشير!
الكنيسة ترفض الإيمانية التي كان يدعو إليها ترتليانوس بقوله “ Credo quia absurdum” (أؤمن لأنه محال)، وتدعو إلى إيمان عقلاني يتخطى حدود العقلية ولكنه لا يقع في أشراك السخافة. الإيمان المسيحي هو إيمان يطلب العقلانية والفهم الباطني “fides quaerens intellectum“.
يكتب القديس بولس الرسول في رسالته إلى أهل روما: “إِنِّي أُناشِدُكم إِذًا، أَيُّها الإِخوَة، بِحَنانِ اللّهِ أَن تُقَرِّبوا أَشْخاصَكم ذَبيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسةً مَرْضِيَّةً عِندَ الله. فهذِه هي عِبادَتُكمُ الرّوحِيَّة” (روم 12، 1). إن ترجمة النص إلى العربية ليست دقيقة جدًا. فالنص الأصلي اليوناني يقول (λογικην λατρειαν υμων). ومعناه أن عبادتنا يجب أن تكون بحسب اللوغوس. لكلمة لوغوس معانٍ كثيرة : العقل، المعنى، العقلانية. وبالتالي فالنص يشير إلى أنه يتوجب على العبادة الحقة أن تكون عقلانية. لا بد للإيمان الناضج وللعبادة الحقة أن تكون حاملة معنى وعقلانية.
بكل تأكيد لن يتمكن الفكر والعقل أبدًا من حصر الإيمان وحصر الله، ولكن لا يجب أبدًا أن يناقض فعل الإيمان العقل، وإلا لباتت وصية العهد القديم الأولى – أحبب الرب إلهك من كل قلبك، من كل قوتك ومن كل عقلك – أمرًا غير مفهوم وغير ممكن العيش.
بالعودة إلى السؤال الذي طرحته على الفتاة في مطلع هذا النص. الجواب المسيحي على هذا السؤال لا يقضي على السر ولكنه يسلط عليه ضوءًا يبين إمكانية قبوله. ليس هذا الموضع للإجابة عن ذلك السؤال، ولكن يمكننا أن نقدم إطارًا للفهم. في لغة الكتاب المقدس، ما من فصل ديكارتي بين النفس والجسد. الإنسان البيبلي بوجه عام هو إنسان مثلث الأبعاد – نفس وروح وجسد – ويشكل الجسد بعدًا غير منفصم عن باقي الشخص. وبهذا المعنى هبة الجسد تضحي هبة للأنا، هبة كاملة للذات، وهبة الدم تضحي هبة رمز الحياة. ولذا في تناولهم جسد المسيح ودمه، المسيحيون يشتركون في حياة المسيح وهبة ذاته. بالطبع، يبقى هذا الواقع مغمورًا بهالة من السر، ولكن هذا السر ليس في إطار السخافة بل في إطار الحب، الذي هو – إن في الحقل البشري، وإن في الحقل الإلهي – سر عظيم لا ينتهي الإنسان من فهمه.
نفهم مما استعرضناه أعلاه أن الفصل بين الإيمان والعقل هو أمر غير مقبول في المسيحية. بالطبع هناك أديان عالمية تقول بـ “التضحية بالعقل” كجزء أساسي في الإيمان، ولكن الأمر ليس كذلك في المسيحية (رغم أن هناك خبرات صوفية تقدم هذا الأمر إلا أنه لا يشكل الحركة الأولى في فعل الإيمان المسيحيي). ففي وجهة النظر المسيحية، هذه التضحية المطلقة بالعقل تجعل من فعل الإيمان فعلاً غير إنساني، لأن فعل الإيمان الحق يجب أن يتعلق بعقلي أنا، وبقبولي أنا.
سنستعرض الآن شكلان من أشكال الفصل الحياتي والوجودي بين الإيمان والعقل، بين القداسة واللاهوت.
1. الامتثال الحرفي
يتحدث الكاردينال واللاهوتي العظيم الراحل هنري دو لوباك (H. De Lubac) عن موقف يسميه “الامتثال الحرفي” (orthologie conformiste). هو موقف من يقبل حقيقة اللاهوت الحرفية، ويمتثل لها حرفيًا إلا أنه لا يترك لكلمة الحق هذه الفسحة المناسبة لتغيير حياته. هذا هو الخطر الأول في الفصل الوجودي بين اللاهوت والقداسة. وقد نبه اللاهوتي الألماني كارل رانر (Karl Rahner) من الخطر عينه مشيرًا إلى أن اللاهوتي الذي لا يعيش خبرة صلاة يُفقد كلمة تبشيره قوتها وكنهها ويضحي على الاكثر فيلسوفًا برجوازيًا يقدم فكرًا باهتًا.
2. الروحانية المفبركة
أما الخطر الثاني فهو الوقوع في الجهة المقابلة، في ابتكار روحانية فردية خاصة دون مرجعية من أي نوع كان، أو عبر انتقاء المرجعيات بحسب الأهواء. هذا النوع من الروحانية هو متفشٍ كثيرًا في أيامنا.
كثيرًا ما نلتقي في هذه الأيام بأشخاص يعتبرون ذواتهم روحيين، وتراهم يبنون فسيفساء عالمهم الروحي من حجارة يستمدونها مما هب ودب من مؤلفين “أوشو، دالاي لاما، الماهاتما غاندي، ثم يضيفون بعض الأفكار من المتصوفين المسيحيين، رويزبروك، وتاولير، وريكارد دي سان فيكتور، ثم يضيفون تعاليم التصوف اليهودي المعروف بالـ “قَبَالاه”… هذه الظاهرة اشتهرت بشكل خاص مع ما يعرق بالنيوآيج، ولكنها ظاهرة قديمة رافقت المسيحية منذ ظهورها عبر بدع مثل الغنوصية والمانية وغيرها.
ولكن قد يسأل البعض، ما الخطأ في ذلك؟ الخطأ هو أنه عبر عيش روحانية هيولية لا ركيزة لها في التاريخ، هناك خطر “خلق الله على صورتنا ومثالنا” بدل أن نكون نحن “على صورته فمثاله”. الخطر هو أن يتم استبدال “الروحانية” ببعض الطرق والممارسات النفسية. الخطر هو في أن يتم التخلي عن الركيزة التاريخية لإيماننا، يسوع المسيح، من أجل تصوير معالم مخلص جديد، يحمل بشكل عام معالم رغباتنا وأهوائنا. وهذا ما حذر منه بولس الرسول في الرسائل الرعوية.
وقد وعى القديسون محورية يسوع المسيح التاريخي في الإيمان المسيحي. وحتى أشخاص عُرفوا بـ “خدماتهم الاجتماعية” مثل الأم تريزا، إذا ما نظرنا مليًا إلى حياتهم فهمنا أن المحور هو يسوع المسيح التاريخي. فكانت الأم تريزا تحض أخواتها على وعي محور حياتهم المكرسة: نحن لسنا مسعفات اجتماعيات بل عرائس المسيح. وكانت تقضي يوميًا وقتًا طويلاً في الصلاة أمام القربان المقدس ولدى مفارقتها الكنيسة كانت تقول ليسوع: أتركك هنا لألتقي بك في الفقراء.
وإذا ما قرأنا رسائل بولس الرسول لوجدنا المحورية الكريستولوجية عينها. فالروحانية التي يتحدث عنها بولس ليست روحانية “لرفاهيتنا” بل للدخول في علاقة مع المسيح، للعيش “مع” المسيح و “في” المسيح، ولكي “لا أحيا من بعد بل يحيا المسيح فيّ” (راجع غلا 2، 20). والإنجيل عينه لا يدعو إلى فضائل عامة بل إلى عيش الفضائل مثل المسيح: “اقتدوا بي فإني وديع ومتواضع القلب” (راجع مت 11).
وصية المسيح الجديدة ليست المحبة وحسب بل: “أحبوا بعضكم بعضًا كما انا أحببتكم”…
وبولس يدعو المسيحيين لكي تكون فيهم المشاعر عينها التي كانت في المسيح يسوع.
وبالتالي فإن الروحانية المسيحية ليست روحانية مرتجلة أو مفبركة بحسب الذوق الشخصي، بل انطلاقًا من محورية المسيح، ومن معرفة المسيح. وهذا هو وجوديًا موقع المعرفة، أي العقل واللاهوت في حياة الإيمان.
ثانيًا: الحلقة التفسيرية القائمة بين اللاهوت والقداسة
إنه لأمر مصيري العمل على إعادة بناء التواصل والحلقة التفسيرية بين اللاهوت والقداسة.
غالبًا ما نتلفظ بكلمة ونتوقع ونعتقد أن يفهمها الآخر بحسب النية التي كانت وراء قولنا. وقد يعبر لنا الآخر عن أنه فهم قصدنا، ولكننا نتفاجئ أحيانًا بأن ما يظنه الآخر أنه مقصدنا هو عكس ما أردنا أن نقوله. لذا لا بد أن نتوقف على شرح معنى بعض الكلمات لكي نخفف من إمكانيات سوء الفهم.
لذا، من المستحسن أن نعيد النظر بالمعنى المقصود لبعض الكلمات التي بتنا نستعملها كل يوم، إن في الحياة الروحية، أو في الوعظ، أو في المناقشات الرعوية. تحتاج هذه الكلمات إلى تنقيح جديد لكي يكون هناك نقطة التقاء في كلمة المتكلم والكاتب وفي فهم السامع والقارئ. أقترح النظر مليًا إلى المعنى المسيحي لثلاثة من هذه الكلمات والتعابير والمفاهيم: الحقيقة، السر، والقلب.
أ. مفهوم الحقيقة
أنطلق من مقولة لفون بالتازار: “إن المفهوم الكامل للحقيقة الذي يقدمه الإنجيل يتألف من التجسيد الحي للنظرية في العمل، وللمعرفة في التطبيق”، تجسيد الحقيقة هو الحب المعاش، هو اللاهوت الذي يشع في قداسة العيش. “بحسب مفهوم الوحي الإلهي، ليس هنالك حقيقة أصيلة، إلا ويجب أن تتجسد في فعل، في طريقة تصرف، لدرجة أن تجسد المسيح يضحي مقياس كل حقيقة فعلية”.
عندما يتحدث بالتازار عن “اللاهوتي المتكامل” – كما سبق ورأينا– يتحدث عن هذا الأمر بالضبط. فكما في الحب، يقارب المرء حقيقة المحبوب من خلال محبته، ويتعمق في محبته من خلال معرفة حقيقته. يساعدنا في إيضاح الفكرة الفيلسوف اللبناني رني حبشي (René Habachi) الذي يقوم بالتمييز بين “الحقيقة-الإسمنتية” و “الحقيقة-الدعوة”.
“الحقيقة الإسمنتية” هي حقيقة الـ 2 + 2 = 4. إنها حقيقة تشبه النور الساطع الذي يبهر العيون بوضوحه فلا يستطيع المرء أن ينكرها. إنها حقيقة إسمنتية، “مصبوبة صبًا”، لا يمكنني أن أرفضها ولكن في الوقت عينه لا يمكنني أن أدخل في علاقة شخصية معها؛ إنها حقيقة لا يجتاحها الصدأ، هي كاملة وثابته، ولكنها مقفلة لا يمكن الدخول في علاقة وجدانية معها. ما من أحد يضحي بحياته لأجل حقيقة حسابية من هذا النوع.
أما “الحقيقة الدعوة” فهي حقيقة شخصانية، إنها حقيقة تهبني الحياة، وتجعلني مستعدًا أن أهب حياتي بدوري. يمكننا أن نقدم مثالاً عن هذه الحقيقة أمرًا قد يجعلنا نظن أن المسيحيون لا يجيدون علم الحساب 1 + 1 + 1 = 1! أشير بتبسيط حسابي إلى ما يقوله المسيحيون في الثالوث الأقدس: ثلاثة أقانيم (آب وابن وروح قدس)، طبيعة إلهية واحدة. هذه الحقيقة لا تفرض نفسها بشكل حسابي حتمي وجبري، ومع ذلك، فإن هذه الحقيقة كانت وما تزال واقع حبٍ يفهمه مِن بَعيد من يفتح قلبه للحب الذي يوحد ويحفظ التمايز، وهذا الفهم يحمل البعض على الهيام حبًا وصولاً إلى قبول الاستشهاد لأجل الإيمان بإله الحب.
لكي ندرك المفهوم المسيحي للحب، أود أن أستعين بإيجاز بأبحاث أحد كبار دارسي مفهوم الحقيقة في إنجيل يوحنا، الأب اليسوعي إينياس دو لا بوتري (Ignace de la Poterie) الذي يوضح بأن كلمة حقيقة في العهد القديم “إِمِت” ترتبك بجذر “أَمَن” الذي يعني “آمن، ثابت، وثيق”؛ وبالتالي فإن “إمت” تعني الصلابة الجوهرية والمتانة، أي ما يجعل أمرًا موثوقًا وقابلاً للإيمان والتصديق.
أما كلمة “أليثيا” (altetheia) فتعني بالأساس عدم التخفي، الكشف. وبالتالي إنطلاقًا من المفهوم الأثيمولوجي اليوناني، الحقيقة هي أمر يجب اكتشافه، أمر يجب أن يبحث المرء عنه وأن يقوم بالارتقاء نحوه.
أما إنجيل يوحنا فهو لا يقدم شيئًا يمكن أن يوحي بأن الحقيقة أمر يجب أن يبحث المرء عنه. ولا يتحدث أيضًا عن “ارتقاء” نحو الحقيقة. مفهوم الحقيقة اليوحنوي يقلب المقاييس: ليس الإنسان هو من يبحث عن حقيقة الله، بل حقيقة الله تأتي إلى الإنسان. الحقيقة هي نعمة وهبة: هي وحي يقدمه الله في يسوع المسيح (راجع يو 1، 17). ليست المسيرة نحو الحقيقة تصاعدية، بل هناك قلب للمقاييس، والحقيقة تنزل، تنحدر، تفرغ ذاتها، وتأتي نحو الإنسان. ويسوع يكشف للبشر الحقيقة التي تلقاها من الآب (راجع يو 8، 40).
والحقيقة ليست كشفًا عن أسرار عامة، ليست عبارة عن حفنة من العقائد البالية؛ هي وحي وكشف شخص يسوع، المسيح، ابن الآب الوحيد. وإنجيل يوحنا يزخر بالتعابير التي توضح هذا الأمر: “أنا الطريق والحق والحياة” (يو 14، 6).
نرى في يوحنا أيضًا ربطًا بين الإقامة مع يسوع، ومعرفة الحقيقة. وربطًا بين عيش كلمة يسوع ومعرفة الحقيقة: “إذا حفظتم كلمتي، عرفتم الحق” (يو 8، 31). معرفة الحقيقة في المسيحية ليست أولاً ثمر مزاولة المكتبات والكتب، بل نتيجة الأمانة لكلمة يسوع.
تقول الرسالة الأولى المنسوبة إلى يوحنا: “من يقول ‘إني أعرفه‘ ولا يحفظ كلمته، كان كاذبًا ولم تكن الحقيقة فيه”. هذا ما يكشف لنا الترابط الجوهري بين حفظ الكلمة (عيش القداسة) وفهم حقيقة الله.
تقول الرسالة أيضًا: “من أحب عرف الله، لأن الله محبة” (1 يو 4، 8). حقيقة الله (أنا هو الحق) لا تنفصل البتة عن جوهر الله “الله محبة” (1 يو 4، 16). وبالتالي فالولوج في معرفة الله يعني الدخول في دينامية المحبة. بالواقع، إذا ما فكرنا في أثيمولوجية كلمة “فلسفة” (filosofia)، والتي “محبة الحكمة”، لوجدنا أنها قبل أن تكون “صوفيا” (حكمة)، هي “فيلو”، هي محبة، محبة الحكمة.
أما ديكارت فقد وصف الإنسان بـ “ Res cogitans ” “كائن مفكر”. وأدى هذا التعريف بعده إلى عزل واقع الحب من جوهر الفلسفة. بات الحب أمرًا يتعلق بـ “مقالة الأهواء”، ولا يتعلق بواقع الفكر. ولكن “في البدء” لم يكن كذلك، فالحب، “الإيروس”، الزخم المتيم نحو الحقيقة، كان جزءًا جوهريًا في الفلسفة، في حب الحكمة.
إن الموقف المسيحي الصحيح أمام حقيقة الله ليس في المقام الأول، رغبة عقلية للقبض على الحقيقة، بل هو قفزة النفس نحو التطلع (contemplatio) إلى الله، إنه موقف جهوزية لتقبل الحقيقة، لـ “معرفة الحق” (يو 8، 32؛ 2 يو 1) لـ “الإقامة” في الحق بالإيمان. الله هو القائم بالخطوة الأولى، هو “الذي أحبنا أولاً” (1 يو 4، 19). أما المسيحي فيتوق لكي “يكون في الحق” يو 18، 37؛ 1 يو 3، 19) الذي يأتي وينصب خيمته بين البشر (راجع يو 1، 14).
خلاصة القول، عندما نقول أن المسيحية تعلن عن الحقيقة، لا نقصد أن المسيحية أتت لتعلم الطبيب مهنته، وعالم الفلك حركة الكواكب، والفيزيائي سرعة الضوء. حقيقة المسيحية واحدة: هي السر الكامن منذ الأزل، سر الحب الذي يربط الآب بالابن بقبلة الروح القدس. وهذا السر الذي أراد أن يشرك البشر بطوباوية المحبة هو حقيقة المسيحية. حقيقة المسيحية هي العلاقة الحقة القائمة في الثالوث والتي تريد أن تدخل البشرية في تيار إشعاعها الطوباوي.
من هنا أهمية إيضاح معنى مفهوم “السر”، لكي لا يفهم به البعض “الغموض” أو “الإيزوتيرية”.
ب. مفهوم السر
غالبًا ما يراود ذهننا، عندما نسمع كلمة سر، مفهوم الغموض الذي لا يمكن إيضاحه، أو اللغز الذي لا يمكن فهمه، أو الأحجية التي لا يمكن حلها. يبدو “السر” مرادفًا لـ “لن تفهم أبدًا، لذا لا تفكر”.
إلا أن هذا لا يطابق مفهوم السر بحسب الإيمان المسيحي. السر المسيحي يختلف بالكلية عن اللغز. عندما يتحدث القديس بولس عن “السر” في رسائله، يستعين بكلمة “ mysterion“. وإذا ما نظرنا مليًا إلى المعنى الذي يستعمل فيه هذه الكلمة لوجدنا أنه لا يشير إلى واقع غامض، بل إلى المشروع الخلاصي الذي كان مستترًا في الله منذ خلق العالم، وقد ظهر في الأزمنة الأخيرة في يسوع المسيح. ولذا فالسر، في وجهة النظر المسيحية، هو رفيق الحقيقة.
فحقيقة المسيحية هي أن الله أحب العالم حتى إنه بذل ابنه الوحيد لكي لا يموت كل من يؤمن به بل تكون له الحياة (راجع يو 3، 16)، وهذا بالضبط هو السر (Mysterion).
يتوقف دستور المجمع الفاتيكاني الثاني “نور الأمم” على هذا السر فيتحدث في العدد الثاني عن “تدبير الآب الأزلي الخفي” الذي شاء أن “يرفع الناس إلى مستوى الشّركة في حياته الإلهية، ولمّا زلّوا في آدم لم يهملهم، بل ظلّ على الدوام حادباً عليهم بأيده الخلاصيّ، من أجل المسيح الفادي “الذي هو صورة الله الغير المنظور، والمولود قبل كل خليقة” (كول 1، 15). ثم إن جميع المختارين الذين سبق الآب فعرفهم منذ قبل الدهور، قد “ميزّهم وحدّد أن يكونوا مشابهين لصورة ابنه فيكون بكراً لأخوة كثيرين” (روم 8، 29)، وإنّ جميع الذين يؤمنون بالمسيح قرّر أن يدعوهم في الكنيسة المقدّسة، التي، بعد إذ بشر بها بالرموز منذ بدء العالم وهيّئت بوجه عجيب بتاريخ شعب اسرائيل والعهد القديم، أُنشِئَت في الأزمنة الأخيرة، وأُعْلِنَت بحلول الروح القدس، وستتم في المجد في اليوم الآخر، وإذ ذاك، كما ورد في الآباء القدّيسين، يجتمع عند الآب، في الكنيسة الجامعة، جميع الصدّيقين منذ آدم، “من هابيل البارّ إلى آخر مختار” (نور الأمم، 2).
ويتابع النص فيتحدث عن دور الابن في السر الخلاصي: “أتى الابن، وقد أرسله الآب الذي اصطفانا فيه من قبل إنشاء العالم،وقضى بأن نكون ابناءً بالتبنّي، لأنه شاء أن يجمع فيه كلّ شيء (أف 1، 5- 10 و 14). وعملاً بمشيئة الآب أنشأ المسيح على الأرض ملكوت الله، وكشف لنا عن سرّه، وحقّق بطاعته فداءنا. وبدأت الكنيسة، أيّ ملكوت المسيح الحاضر حضوراً سريّاً، تنمو بقدرة الله في العالم، نمواً ظاهراً” (المرجع نفسه، 3).
ثم يتحدث عن عمل ورسالة الروح القدس فيقول: “ولمّا أنجز العمل الذي كلّف الآب ابنه تحقيقه على الأرض (يو 17، 4)، أرسل الروح القدس، في يوم العنصرة، لكي يقدّس الكنيسة في استمرار، فيكفل للمؤمنين الدّخول إلى الآب بالمسيح في وحدة الروح (أف 2، 8).فإنه هو روح الحياة، والنبع المتدفّق ماءً للحياة الأبدّية (يو 4: 14،7: 38-39). وبه يعطي الآب الحياة للذين أماتتهما الخطيئة، إلى يوم يبعث في المسيح أجسادهم المائتة (روم 8، 1 – 1).والروح يسكن في الكنيسة وفي قلوب المؤمنين كما في هيكل (1كور 3، 16، 6، 19)، وفيهم يدعو،ولهم يشهد بأنهم أبناء الله بالتبنّي (غلا 4، 6، رو 8، 15 -16 و26). وهذه الكنيسة التي يرشدها إلى الحقيقة كلّها (يو 16، 13) ويكفل لها وحدة الشركة والخدمة الرّوحية، يجهزّها ويقودها بمختلف المواهب، مواهب السّلطة ومواهب المنّة، ويزيّنها بثماره (أف 4، 11- 12،1كور 12، 4،غلا 5، 22)، ثمّ إنه بقوّة الإنجيل يحفظ للكنيسة شبابها، ويجدّدوا في استمرار، سائراً بها إلى تمام الاتحاد بعريسها: ذلك بأنّ الروح والعروس يقولان للرّب يسوع: “هلّم” (رؤ 22، 17). وهكذا تظهر الكنيسة الجامعة “شعباً يستمدّ وحدته من وحدة الآب والابن والروح القدس” (المرجع نفسه، 4).
كل هذا، هو السر الكائن في قلب الله الآب وقد كشف في الزمن في المسيح وفي تدبير الروح القدس اللذين هما “يدا الآب”، بحسب قول القديس إيرناوس المعبر.
يوضح بولس في رسالته إلى أهل أفسس أن سر مشيئة الله هو “ذلك التدبير الذي ارتضى أن يعده في نفسه منذ القدم ليسير بالأزمنة إلى تمامها فيجمع تحت رأس واحد هو المسيح كل شيء ما في السموات وما في الأرض” (1، 9 – 10). وبالتالي فالسر هو حقيقة خلاصية، هو إرادة فداء.
ويشرح القديس أغسطينوس أن السر ليس ما لا يمكن فهمه، بل ما لا يمكن الانتهاء من فهمه. لتوضيح قول أغسطينوس نستعين بالحب البشري الذي هو الواقع الأقل بعدًا عن حقيقة الله، والذي يؤهلنا أن نفهم شيئًا عن الله بالرغم من الاختلاف الشاسع القائم بين حقيقة الخالق وحقيقة المخلوق. إذا ما سألنا شخصًا متيمًا ما هو سبب عشقه لأجاب بأنه يحب محبوبه لهذا السبب أو لذلك، ولكن، إذا ما نظر مليًا إلى سبب حبه، لما تمكن أن يحدد بالضبط الدافع العميق وراءه، هناك بعد سري في الآخر يفهمه مع نموه في الحب ولكنه لا يستطيع أن يصرح إطلاقًا أنه سبر غور ذلك الآخر، أو أنه فهمه “وحفظه غيبًا”. الشخص المتيم حقًا هو شخص يغرم لأجل سبب يفوق كل الأسباب التي يستطيع تعدادها.
الحب يعرف ولكنه معرفته لا تستهلك سر الآخر بل تبقى منفتحة على تجدد سره. لا بل الحب الحق يؤمن أن في الآخر عمق يفوق قدرة المحب على إدراكه بالكلية. ولهذا السبب، لا يتوانى القديس أغسطينوس عن التصريح في شرحه لإنجيل يوحنا: “أعطوني شخصًا يحب وسيفهم ما أقوله”.
لكي نفهم السر لا بد أن نكون متيمين، مغرمين. فمن يعاني من انغلاق داخلي على الحب لن يستطيع أن ينفتح بسلاسة وسهولة على ما هو غير ملموس على السر الذي يتطلب مجازفة – لا بمبلغ من المال، أو ببعض الممتلكات – بل بالوجود بأسره وبالحياة برمتها. وحده الإنسان الذي يستطيع أن ينفتح على وثبة الحب، على الإيروس الإلهي، الذي جعل الله يأتي من سماواته لكي يجتذب إليه كل بشر، وحده هذا الإنسان يستطيع أن يقبل مجازفة الانفتاح على “السر”.
يقدم الكاردينال هنري دو لوباك صورة معبرة جدًا نستطيع بفضلها أن نفهم بشكل أفضل ما معنى السر، سر الله، في المسيحية. يقول الكاردينال اليسوعي: “إن الإنسان الذي يجهد للتعرف على الله لا يشبه الحكيم الذي يكدس المعارف… ولا يشبه الفنان الذي يكمل تأليف مقطوعة موسيقية. بل إن الروح الذي يسعى إلى معرفة الله يشبه البحار الذي يتقدم في المحيط تحمله الأمواج، شرط أن يترك خلفه بشكل متواصل الأمواج. نتقدم في سر الله محمولين على أيدي الصور والمفاهيم والأفكار، ولكن إذا ما أردنا أن تحملنا هذه الأمواج، لا بد أن نتخلى عنها دومًا، وأن نقول في كل لحظة: هذا ليس الله، الله هو ما وراء هذه”.
ما يقوله دو لوباك هو سهل جدًا، وهو يردد إلى حد ما صدى العبارة الأغسطينية الشهيرة: “إذا فهمته، فهو ليس الله” (si comprehendis, non est Deus). فإذا ما أراد الإنسان أن يعرف الله، لا بد له أن يذهب إلى لقائه ما وراء المفاهيم والأفكار، وذلك لأن الله، بطبيعة الحال، هو أكبر من الفلسفات والأفكار والتعابير البشرية. المفهوم هو مثل الموجة، تساعدني على التقدم إلى الأمام، أما إذا توقفت لديها، غرقت في غياهب الأوثان.
سبق وقلنا أن يسوع هو “الحق”، ولكنه في الوقت عينه “الطريق”، لأن معرفة حقيقة الله تتطلب مسيرة تدوم مدى الحياة الأرضية والأبدية. بهذا المعنى تقول الليتورجية المارونية في إحدى صلوات الصباح في زمن الصوم الكبير بأن حياتنا الأرضية هي مسيرة نحو الله وحياتنا الأبدية هي مسيرة فيه. لقاء المسيح الحق يعني “السير في طريق نوره” لأن سر حبه هو سر متجدد يفهمه الإنسان بقدر ما يبقى منفتحًا على فهم جدته وعمقه الذي يفوق الوصف.
وحده المحب يستطيع أن يعي سر الله لأنه يلج فيه بالحب، لهذا يصلي بولس قائلاً: “أجثو على ركبتي للآب […] وأسأله أن يهب لكم، على مقدار سعة مجده، أن تشتدوا بروحه، ليقوى فيكم الإنسان الباطن، وأن يقيم المسيح في قلوبكم بالإيمان، حتى إذا ما تأصلتم في المحبة وأسستم عليها، أمكنكم أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعلو والعمق، وتعرفوا محبة المسيح التي تفوق كل معرفة، فتمتلئوا بكل ما في الله من كمال” (راجع أف 3).
ج. مفهوم “القلب”
إذا ما نظرنا مليًا إلى التقوى الشعبية لوجدنا أهمية كبرى مولاة لـ “قلب” يسوع و لـ “قلب مريم البريء من الدنس”. كما ويكفي أن ننظر إلى بعض الأمثلة من الكتاب المقدس لنعي أهمية ومحورية مفهوم القلب فيه. “الوصية الأولى” في العهد القديم، بحسب ما لخص يسوع ملاقيًا قبول الكاتب هي: “أحبب الرب إلهك من كل قلبك…”، ويسوع يتحدث عن القلب كمحور نوايا الإنسان: “من القلب تصدر الأفكار الشريرة”، “حيث يكون كنزك فهناك يكون قلبك”…
ولذا من المهم أن نكرس وقفة تأملية بمعنى القلب الكتابي واللاهوتي. في تعليقه على سر فاطيما الثالث قام عميد مجلس عقيدة الإيمان حينها الكاردينال يوسف راتسنغر (Joseph Ratzinger) (البابا بندكتس السادس عشر الآن) بتقديم وصف موجز لمفهوم القلب: “القلب يعني في لغة الكتاب المقدس محور الوجود البشري، واندماج العقل والإرادة، والمزاج والإحساس”. “القلب هو ذلك الواقع الذي يجد فيه الكائن البشري وحدته وتوجهه الداخلي”.
القلب بحسب النظرة المسيحية هو محور الكيان البشري، ومركز وحدة القدرات، وإذا جاز التعبير، هو كرسي الأنا. القلب إذًا بحسب هذا المعنى الوجداني والروحي لا يوجد في أي من أعضاء الإنسان، هو ليس ذلك العضو النابض في الصدر بين الرئتين، بل هو ذلك الواقع الذي يشكل محور كامل الوجود الشخصي. إنه محور الوحدة حيث تتلاقى كل خيوط دائرة كيان الإنسان.
لقد وعى الفن البيزنطي لهذا الواقع، وأدخل هذا المفهوم الأنتروبولوجي العظيم في فن الأيقونة. فالأيقونة التي تمثل قديسًا ما، أو الرب نفسه، عادة تصور الوجه انطلاقًا من أربع دوائر متمحورة. الأولى هي دائرة خفية تتواجد محور وجه الشخص بين حاجبيه، وتشكل كرسي اللوغوس (أو النوس)، أي الفكر والكيان الروحي، هي الموضع الأكثر حميمية في الإنسان، موضع صورة الله فيه، المحور الروحي. ومن ثم دائرة تتضمن العينين والجبهة، للإشارة إلى الدماغ وقدرة الفهم والتحليل، هي المحور الفكري والنفسي. الدائرة الثالثة تتوسع لتشمل الشعر والفم واللحية، هي دائرة البعد الجسدي الهش للوجود البشري. أما الدائرة الرابعة وهي دائرة الهالة الذهبية، فهي تعبر عن دعوة الإنسان إلى الإنطلاق من صورة الله إلى مثاله، وتحقيق كنه صورة الله الروحية في الإنسان بهذا الشكل.
وعليه، بحسب هذا المفهوم القلب هو محور الوجود الإنساني الأعمق، هو الدائرة اللامرئية حيث تقوم صورة الله في الإنسان، وهي أعمق من الوجود النفسي واعمق من الوجود الروحي. والإنسان القديس هو الذي يقيم ترابطًا حيًا بين الدائرة الخفية في قلب كيانه وبين الهالة الروحية، دعوة العيش من قداسة الله.
وبالتالي فالقلب هو تلك القدرة البشرية التي تذهب أبعد وأعمق من القدرة الفكرية في الإنسان، وأبعد من تصور خيالنا. هو بعد ما يسميه توما الأكويني في الخلاصة اللاهوتية “غريزة إلهية”. وبعد توما الأكويني تميزت المدرسة الصوفية الرينانية، تحت تأثير ممثلها البارز “مايستر إيكارت”، بتعابير مثل “عمق النفس”، التي هي مرادف لمفهوم القلب.
القلب بالنسبة لأغسطينوس هو موضع الله الذي يقيم في أعمق أعماقي (intimior intimo meo). وإنطلاقًا من هذا التعبير نفهم أن معرفة الله تتطلب نوعًا من التحول والارتداد في الفكر. طالما أنا مرتكز على فكري كعضو التحليل والفهم الأوحد، أبقى بعيدًا عن الإدراك الحقيقي، عن الحدس العميق، وعن المعنى الجوهري والأثيمولوجي للـ “intellectus: intus / legere” أي القراءة الداخلية والجوهرية. ما دام الإنسان منغلقًا في إطار الفكر المنطقي الضيق، لن يتمكن من الدخول في المعرفة الشخصانية التي تتفوق على المعرفة الحسابية والفيزيائية.
هذا النوع من المعرفة هو ضرورة ليس فقط في الإطار اللاهوتي، بل في إطار الواقع الشخصاني: أنى للعقل وحده أن يعي معنى الحب، أو البغض، أو الصداقة، أو الندامة، أو المشاعر، أو الإرادة؟؟ مهما حاول العقل فهو لن يتمكن أن يحصر ويفصل فهم وشرح هذه الوقائع التي تتخطى بعده ومؤهلاته الطبيعية.
لذا أود أن أقترح تعبيرًا يوضح كنه معرفة القلب: المعرفة ما وراء المنطقية “meta-logical recognition”. هذا النوع من المعرفة لا يتجاهل المنطقي، هو ليس مرادفًا لـ “اللا منطقي”، بل هو مرادف لـ “أكثر من منطقي” و “ما يتجاوز المنطقي”.
لكي أوضح الفكرة، أود أن أستعين بشرح معنى المعمودية والأسرار الذي يقدمه اللاهوتي الأرثوذكسي الراحل أوليفيه كليمان (Olivier Clément): “يجب أن نصلب كل منطقية. فنعمة الميلاد قد تملكت غور القلب، عمق الكيان. عمق الكيان هذا هو أمر يسبق تمايز الملكات (التمايز بين الفكر والإرادة)، هو موضع سكنى الله. نعمة المعمودية هي تحول جذري لعمق النفس يعمل يهدف إلى طرد القوى التي تستر من الله. يطارد العماد هذه القوى التي تتحاشى الله فتلتجئ إلى سطح النفس، في كل الأبعاد الخارجية من ذواتنا، وهي تسعى إلى إبقاء حضور الله في اللاوعي الذي هو عمق الكائن”.
كليمان يدعو إلى “صَلْب” المنطقية، إلى تجاوزها. لأن المنطق هو فصل الفكر عن الإرادة وعن الإحساس، وكل فصل في الإنسان يفقده القدرة على إدراك أبعاد ما يحدسه. كما ويقدم كليمان وجهة لاهوتية ملفتة: الفصل في إدراك الحواس هو من نتائج الخطيئة، وهبة المعمودية تعيد للإنسان القدرة على الثقة بالحواس الروحية الباطنية، بالقلب، الذي يدرك ويحدس بشكل متجانس ومتكامل.
د. اللاهوت هو علم الحب (scientia amoris)
بعد أن نظرنا إلى مفاهيم الحقيقة، والسر والقلب في المسيحية، ننظر الآن إلى مفهوم اللاهوت بحد ذاته، وذلك لكي لا نقع في لغط عندما نتحدث عن الدائرة التفسيرية القائمة بين اللاهوت والقداسة. نجد في العصر الوسيط مدرسة لاهوتية كان رائدها الكبير القديس بونافنتورا معاصر وصديق القديس توما الأكويني، الذي جئنا على ذكره آنفًا.
في كتابه الشهير : “Itinerarium mentis in Deum” يتحدث بونافنتورا عن معرفة الله، وعن ارتقاء الفكر إلى معرفة الخالق إنطلاقًا من خبرة القديس فرنسيس الأسيزي، مؤسس رهبنة الإخوة الأصاغر (المعروفين باسم “الفرنسيسكان”) التي كان ينتمي إليها بونافنتورا.
بعد كل العرض الذي سبق وقمنا به، هناك سؤال يطرح نفسه: إذا كنت أحب يسوع، لماذا يجب أن أتعمق في الفكر اللاهوتي والإيماني؟ لماذا يجب على عاطفة إيماني الصافية أن تضحي فكرًا ذكيًا؟
ويأتي بونافنتورا ليقدم لنا جوابًا فيقول: يجب أن نفهم اللاهوت كـ “علم الحب” (scientia amoris). إذا أحببتُ، لأردت أن أعرف الآخر أكثر فأكثر. سأكون كاذبًا إذا أحببت شخصًا ما ولم أشتهي وأتلهف أن أعرفه أكثر فأكثر، أن أعرف فكره، وتاريخه، ورغباته، ومشاريعه، وتطلعاته، وبكلمة شخصه بكليته. وبالشكل عينه، إذا كنت أحب الله، لا بد أن أريد أن أعرفه أكثر لأنه الحب يتعطش إلى المعرفة ويتوق إليها.
وبالتالي إذا ما نظرنا إلى اللاهوت كـ “مسيرة حب” (via amoris)، نغير وجهة نظرنا وندرك أن ما من فصل بين الحب والمعرفة. من أحب يسوع أراد أن يعرفه أكثر إنطلاقًا من الدينامية الباطنية للحب.
بالنسبة لليوناردو دافنشي “المعرفة هي مبدأ الحب”، من يعرف يستطيع أن يحب (ونحن نقول في الشرق، ولو في إطار مختلف: “الإنسان عدو ما يجهل”؛ إلا أن الشرق المسيحي، شرق الآباء اليونان وشرق اللاهوتيين الأرثوذكسيين الذين أغنوا الفكر الغربي في القرن الماضي بكتّاب مثل بافل أفدوكيموف (Pavel Evdokimov)، وسرجي بولكاكوف (Sergej Bulgakov)، وبافل فلورنسكي (Pavel Florenskij)، وأوليفيه كليمان (Olivier Clément)، يقولون أن العكس هو صحيح، بل هو أصحّ: الحب هو مبدأ المعرفة.
ولا يمكننا إلا أن نوافقهم الرأي إذا ما نظرنا مليًا إلى واقع نشأة المعرفة وتعمقها في حياتنا اليومية. فلنأخذ على سبيل المثال الأم وابنها: من يعرف الابن أكثر من أمه؟ ولماذا؟ الجواب يتخطى البعد الغريزي (الذي لا ننكره)، فالأم تعرف ابنها أكثر من أي شخص آخر لأنها تحبه، وتستطيع غالبًا أن تشخص حاجات ابنها وحالاته النفسية والجسدية أكثر من أي طبيب وعالم نفس مختص. لماذا؟ لأنها تحب، والحب يضحي عامل ومبدأ معرفة. المحب يحوز مقدرة تؤهله أن يدرك الآخر في أعماقه، لأن الحب – بحسب اللاهوتي الأرثوذكس بافل فلورنسكي – هو قوة تغير محور الإنسان، هو انتقال من محورية الأنا إلى محورية الآخر، الـ “أنت”. وقد حدس القديس بولس هذا الأمر عندما قال: “لست أنا من أحيا بل المسيح حي فيّ” (راجع غلا 2، 20). مع يعش في واقع الحب، يضحي محوره الآخر. وتضحي معرفة هذا الآخر واقعًا حميمًا وطبيعيًا.
يصف الفيلسوف الظواهري المعاصر، جان-لوك ماريون (Jean-Luc Marion) ظاهرة الحب فيقول: “…في تلك اللحظة أشعر بأني سأضحي شخصًا آخر. سأضحي؟ لا بل سبق وأضحيت متيمًا به. في تلك اللحظة يضحي الآخر بالنسبة لي مسألة شخصية، مختلفًا عن كل الآخرين، هو لي وأنا له، يوجهني إليه وأضحي شخصًا من خلاله، يهبني لذاتي من خلال توجيهي إلى ذاته”.
نجد هذا التبادل أيضًا في واقع التجسد، وقد عبر القديس أثناسيوس الإسكندري، “لاهوتي التجسد” بشكل باهر: صار الله إنسانًا ليصير الإنسان إلهًا. وتعبر الليتورجية المارونية عن هذا الواقع في الصلاة الافخارستية: “وحدت يا رب لاهوتك بناسوتنا، وناسوتنا بلاهوتك؛ حياتك بموتنا، وموتنا بحياتك. أخذت ما لنا ووهبتنا ما لك…”.
ه. اللاهوت والصلاة
يقول إفاغريوس البنطي: “إذا صليت حقًا، فأنت لاهوتي حقًا. وإذا كنت لاهوتي حقًا، صليت حقًا”. يربط إفاغريوس بين اللاهوت والصلاة، بين “الحديث عن الله” و “الحديث إلى الله”. بالواقع، كما يوضح الراهب اليسوعي فرنسوا فاريون (François Varillon)، لا بد أن تُرفق كل كلمة نوجهها إلى الله (صلاة) بفكرة عن الله الذي نتوجه بالكلمة إليه (لاهوت). عندما أرفع صلاتي إلى الله، لا أتوجه إلى واقع مجرد غير شخصاني، بل إلى شخص أؤمن أنه حاضر، أنه يسمعني (وإلا لما وجهت صلاتي إليه!). يأخذ الرب الذي أرفع صلاتي إليه اسمًا ووجهًا. وهنا يلفت تكرار تعبير “الوجه” في الحديث عن الله في المزامير وفي كتب العهد القديم، كما ويلفت أيضًا أن التقليد اليهودي يعتبر “الإسم” (ها شِم) من بين أسماء الله الحسنة: اسم لا يحدد واقع الله ولكنه يشير إلى إشعاعه، تمامًا كما ضياء الشمس يشير إلى واقع الشمس دون أن يتمكن من تحديده.
الخبرة اليومية تبين لنا أن الصلاة الحقة (الكلام إلى الله) يتطلب اللاهوت (كلامًا عن الله) حتى ولو في أعمق أعماق كياني. وهذا الأمر هو جوهري لدرجة أنه حالمًا يغيب واقع الله في ضميري، لا تعود صلاتي صلاةً ونجوى بل تضحي نوعًا من التفكير الباطني الفرداني. في المقابل، من يعيش التعليم اللاهوتي كواقع وجداني حي، يشعر بأن كلمة اللاهوت التي يعلنها تفقد من قوتها ومن واقعيتها عندما لا يعيش اللاهوتي علاقة حية من الحوار الحي والمستمر مع الرب.
لهذا السبب يقول إفاغريوس: “علم المسيح لا يتطلب النفس التي تفكر، بل النفس التي ترى”. معرفتنا للمسيح هي ليست أولاً ثمرة معرفة علمية ووليدة أبحاث، بل هي في المقام الأول ثمرة خبرة معاشة مع كلمة الله في حياة الكنيسة.
أود أن أورد خبرة شخصية تفيد في إدراك الترابط القائم بين الصلاة والمعرفة اللاهوتية. خلال خبرة الدرس في جامعة الغريغوريانا الحبرية، التقيت بشخص ينتمي إلى ديانة أخرى، طرح علي السؤال حول إمكانية التوحيد المسيحي الذي يقول في الوقت عينه بثالوثية الأقانيم في الإله الواحد.
فانطلقت مما توفر لدي في تلك الآونة من الشروحات التعليمية واللاهوتية. شاركت محاوري بخبرة القديس باتريسيوس مبشر إيرلندا، الذي قدم مفاهيمَ عدة في محاولته لتبيان عقلانية الإيمان بالإله الواحد والثالوث، إلا أن سامعيه ما كانوا ليدركوا كيفية تواجد هذه المفارقة: الوحدانية والتعددية. إلى أن رأى القديس نبتة الشامروك الثلاثية الأوراق لافتًا إلى الطبيعة الواحدة التي تضم هذه الأوراق الثلاثة. كما وشرحت لهذا الشخص كيف أن فهمنا لسر الله هو دومًا واقع متناظر (analogical)، وبالتالي فكل كلمة نقولها تقدم تشابهًا يضاهيه عدم التشابه (بحسب تعليم المجمع اللاتراني الرابع: “بين الخالق والخليقة لا يكمن حدس تشابه، دون إدراك أن هناك عدم تشابه يفوقه”.
كما وانطلقت من لاهوت هانس أورس فون بالتازار الذي يتحدث عن هبة الذات التي يقوم بها الآب واهبًا ذاته بالكلية إلى الابن، مفرغًا بالتالي ذاته بالكلية. والابن جوابًا على حب الآب، يهب ذاته بالكلية إلى الآب. ليس هناك أحد يهب ذاته بالكلية إلى آخر ويبقى أحدًا، وبالتالي فالأحد يهب ذاته إلى الآخر، ولا يعود في ذاته بل في الآخر. والآخر يهب ذاته إليه بدوره ولا يبقى في ذاته بل في الأول… وهذه الهبة هي أقنومية لدرجة أن الهبة بالذات هي أقنوم، هي واقع شخصاني، هي الروح القدس.
وقد شرح القديس أغسطينوس هذا الواقع بشكل بسيط يسهل إدراكه: الله محبة. والمحبة تقوم عندما يكون هناك محبّ ومحبوب. الآب هو المحب، والابن هو المحبوب الذي يجب على محبة الآب بالحب عينه الذي يحبه به الآب، وهذا الحب هو الروح القدس.
الحديث عن “الله محبة” بالعمق، هو واقع ثوري في الفكر الكوني بشأن الله، ثورة قامت بها المسيحية – لا انطلاقًا من خلاصاتها – بل انطلاقًا من خبرتها مع يسوع المسيح الذي كشف له عن حب الله بكلامه وبأفعاله. وقد صدقت القديس كاترينا السيانية عندما قالت متحدثة عن جنب المسيح المطعون: “الجرح المرئي في جنب المسيح يبين عن جرح الحب اللامرئي في قلب الآب”.
تأثر محاوري في هذا الكلام عن الله كمحبة، ولكنه طرح علي سؤالاً صعبًا: “ولكن عندما تصلي؟ إلى من توجه الصلاة؟ إلى الثالوث؟ أو إلى أحد الأقانيم؟…”.
في الجواب على هذا السؤال، لم أذهب وراء النظريات اللاهوتية بل وراء الخبرة الشخصية الوجودية. وأجبت محاولاً أن أجعل محاوري يدرك كيف أن خبرة الصلاة المسيحية تحاكي خبرته، رغم أنه لا يعرف المسيحية.
أخبرت محاوري أننا أمام الصلاة نجدنا في واقع متناقض. فمن ناحية نشعر بعطش وبجوع إلى الله، إلى مصدر الحياة ولكن في الوقت عينه، عندما نحاول الصلاة نشعر برغبة في الهرب من الصمت ومن السكينة. التوق إلى الله يتعايش في قلوبنا مع التوق إلى الهرب من الله. وعندما نصلي، وعندما نثبت في الصلاة نشعر وكأن قوة تفوق قوتنا تساندنا وتساعدنا على الثبات في الصلاة. هذه القوة، يتحدث عنها القديس بولس في الرسالة إلى أهل روما، لا كواقع ينبع من داخلنا، بل كأقنوم، كشخص يصلي فينا. يقول بولس: ” إن الروح يأتي لنجدة ضعفنا لأننا لا نحسن الصلاة كما يجب, ولكن الروح نفسه يشفع لنا بأنات لا توصف. والذي يختبر القلوب يعلم ما هو نزوع الروح فإنه يشفع للقديسين بما يوافق مشيئة الله” (روم 8، 26 – 27).
وعليه فالصلاة تبدأ فينا بفعل الروح القدس. عندما أصلي، هو روح الرب الذي يرفعني إلى الصلاة، يقودني إلى اللقاء بالله، ويجعلني أشعر بعطشي إلى الله الحي.
ومن ثم، تابعت الحديث عن الفكرة التي يحملها كل منا في قلبه عن الله. وقلت لمحاوري: هناك من يتخيل الله كقاضٍ قاسٍ، هناك من يعتبره مدير أعمال، وهناك من يظن أن الله هو العفريت الذي يحقق لعلاء الدين كل رغباته… كل منا يبني تماثيله وأصنامه ويخلق الله على صورته ومثاله.
ولكن الواقع هو أننا نحن على صورة الله، لا الله على صورتنا ومثالنا، وبالتالي لا بد أن نصغي إلى كلمة الله في صلاتنا لكي ندرك حقيقة الله، والكتاب المقدس يحتوي كلمة الله ولكنه لا يحصرها. يسوع المسيح، اللوغوس الأزلي الذي تجسد في الزمن هو كلمة الله الأزلية وصورة بهائه. وبالتالي في صلاتنا لا بد أن نلتقي بيسوع أن نصغي إليه أن نسأله أن ينقي صورة الله في داخلنا لكي لا نسجد أمام صنم بل أمام الله الحي، إله يسوع المسيح. في نظري إلى يسوع المسيح أرى الآب. وعندما أرفع صلاتي باسم المسيح تكون مرضية ومقبولة لدى الآب.
وبالتالي، بالروح القدس وفي المسيح أرفع صلاتي إلى الآب الذي منه تأتي كل الخيرات. وبهذا الشكل تكون صلاتي ثالوثية في علاقة خاصة مع كل أقنوم من الأقانيم.
بالواقع، هذه هي الصلاة الليتورجية، فالصلوات الليتورجية تُرفع بالروح القدس، بواسطة المسيح إلى الآب.
لقد أردت في سرد هذه الخبرة أن أبين كيف أن الإدراك الإيماني للثالوث الأقدس يمر لا محالة بواسطة التفكير اللاهوتي وفي الوقت نفسه بواسطة الخبرة الإيمانية. فمن صلى حقًا كان لاهوتيًا حقًا، ومن كان لاهوتيًا حقًا صلى حقًا.
ثالثًا. التعليم المسيحي كتنشئة على الأسرار
كان آباء الكنيسة يستعملون عبارة ” mystagogy” للحديث عن التنشئة المسيحية التي كانوا يقدمونها للموعوظين. وتشير الكلمة إلى الإعداد والتنشئة (agōgos) على وعي وعيش الأسرار (mustēs). فالتعليم المسيحي (catechesis) هو بالواقع تربية وتثقيف وإعداد لقلب الإنسان لعيش حقيقة سر الإيمان. سنقوم الآن بالحديث بشكل عملي وتطبيقي عن هذه المفاهيم التي تحدثنا عنها في المرات السابقة.
كيف كان يتم الإعداد المسيحي على الأسرار في الماضي؟
كان يجري القيام به في صلب الجماعة، في إطار حياة الجماعة. ولذا يجب أن نعتبر بشكل مسبق أن الإعداد الرعوي المنفصل عن الحياة الكنسية والرعوية. فتدريس الإيمان للأطفال أو للراشدين وكأن الإيمان مجموعة من المعلومات الجديدة التي تضاف إلى سجلات المعرفة السابقة يشكل فهمًا خاطئًا لحقيقة الإيمان الموضوعية، ولطبيعة الأنثروبولوجيا التي لا تستطيع القيام بفعل التزام وجودي نحو حقيقة مجردة. فالإنسان يلتزم حياتيًا فقط في صدد الحقائق الحية “الحقائق الدعوة” التي سبق وتحدثنا عنها آنفًا.
دراسة الإيمان المسيحي بشكل مجرد يماثل دراسة علوم الأحياء (البيولوجيا) عبر تشريح أجساد الموتى. ولكن للأسف غالبًا ما تتبع هذه الطريقة في التنشئة المسيحية، بحيث نقدم للموعوظين، أطفالاً أو راشدين، سلسلة من المعلومات ومن العبارات التي يصعب ربط بعضها ببعض.
إنه لأمر مصيري أن يتم القيام بالتنشئة المسيحية في الكنيسة، في صلب الكنيسة، في صميم قلب الكنيسة النابض، في صميم الحياة الليتورجية والتقليد الكنسي، وحياة في خدمة الفقراء الماديين والروحيين، وحياة الصلاة الفردية والجماعية، والإنشاد والترنيم سوية، وزيارة المرضى، والتبشير… يتم التعليم عبر تطعيم الموعوظ في حياة الكنيسة، وليس عبر تقديم مفاهيم الإيمان في معلبات مع مواد حافظة!
يجب “إنجاب” المؤمنين على حياة الإيمان لا بواسطة البلاغة، بل بواسطة حياة الإيمان.
عنوان مقالتنا يتحدث عن “أبوة روحية” في التعليم المسيحي، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل هذا العمل هو من امتيازات الإكليروس فقط، أم هو أمر يرتبط بدعوة جميع المعمدين، بما في ذلك العلمانيين؟
إذا ما نظرنا إلى التاريخ الكنسي للاحظنا أن الآباء الروحيين العظام الأولين كانوا علمانيين فقراء، لا يتمتعون بتنشئة خاصة، بل كانوا أشخاصًا عاشوا خبرة اللاهوت كخبرة معرفة الله الحياتية. أشير بهذا إلى آباء الصحراء. هؤلاء المسيحيين كانوا يعرفون أيضًا باسم “أنبا”، (ومن هنا كلمة أباتي التي ما نزال نستخدمها في الحديث عن رؤساء الأديار، الذين ليسوا رؤساء اقتصادين، بل آباء روحيين يسهرون ويحرصون على نمو أبنائهم الروحي).
أنطونيوس الكبير، على سبيل المثال، لم يكن كاهنًا، بل كان شابًا سمع كلمة الإنجيل وأراد أن يطبقها بحسب الفهم الذي منحه الرب له لدى سماعه قصة الشاب الغني: “إذهب، بع كل ما لك، أعطه للفقراء، وتعال فاتبعني”. ومع ذلك، فأنطونيوس صار “أبًا للرهبان” ليس كلقب جاه بل كاسم يعبر عن “الخصب الروحي” الذي أسبغه عليه الرب لأجل “عيشه لإرادة الآب”.
وما الغريب في ذلك؟ ألم يقل الرب عينه في الإنجيل: “من يعمل بإرادة أبي الذي في السماوات، هو أخي وأختي وأمي” (مت 12، 50؛ مر 3، 35)؟ من يصغي إلى كلمة الله ويعمل بها يستطيع أن “يلد الله”. يضحي نوعًا ما “ثيوتوكوس”. هذا التعبير ليس أمرًا مبالغًا به، فهو كلمة الرب في الإنجيل، وهناك ركائز في التقليد الكنسي والآبائي لهذا النوع من التفكير. يقول القديس غريغوريوس النيصصي: ” ما تم في مريم بحسب الجسد، يجب أن يتم في كل مسيحي بشكل روحي (بحسب اللوغوس)”. على كل مسيحي أن يضحي “أم المسيح” لا بمعنى أن المسيح يتجسد مجددًا بشكل لحمي. فالتجسد واقع تم مرة واحدة، ولكن، كما يشرح القديس غريغوريوس، في حياة المسيحي وفي أمانته لكلمة الله الحي، يضحي تلميذ يسوع أمًا له يلده في حياة الإخوة.
تقول القديسة كاترينا السيانية: “إذا صرت ما يجب أن تكون، أشعلت نارًا في العالم لن يستطيع أي شيء أن يطفئها”. إذا أضحى المسيحي ما يريد الله منه أن يصير، أصبح حقلاً خصبًا ينمو فيه غرس الله.
هذا الأمر أدركته بشكل رائع القديسة تريزا الطفل يسوع، وعلى خطاها، وعى الأمر نفسه الراهب المريمي الراقد في أريج القداسة، جناديوس موراني، حيث يتحدث موراني معلقًا على مقطعين كتابيين: الأول هو الخلق، عندما يتحدث كتاب التكوين حيث يقول الكتاب رمزيًا عن الخلق أن أتمّ الله عمل الخلق واستراح. والثاني هو مقطع صلب المسيح في إنجيل يوحنا حيث يقول النص أن يسوع صرخ: “قد تمّ” وأسلم الروح. ويعلق موراني على هذين النصين فيلاحظ أن الخلق هو عمل لم ينته بعد، فهناك استمرار في الخلق والتكوين إذا جاز التعبير، وكذلك الفداء، هو عمل لم ينته بعد، فالمسيح قام بدوره ولكن يبقى دور المسيحيين لكي يتحدوا بالرب ويحققوا هذا الفداء في ذواتهم وفي النفوس. وبالتالي، مرتكزًا على تعليم القديس تريز الطفل يسوع، يشدد موراني على أهمية دور الإنسان في “تمام” الخلق والفداء. العروس قد وهب ذاته ولكنه ينتظر “عرائس” يهبن ذواتهم لإنجاب النفوس إلى الحياة الأبدية.
الأبوة الروحية في تعليم بولس
يعي القديس بولس أن التنشئة المسيحية وتسليم “الوديعة” ليس مسألة نقل معلومات وعقائد وحسب، بل هو أولاً وأساساً إنجاب إلى الحياة في المسيح. ويعبر رسول الأمم عن هذا الأمر في مواضع عديدة.
في رسالته إلى أهل غلاطية، يقول: “يا بني، أنتم الذين أتمخض بهم مرة أخرى حتى يصور فيهم المسيح” (غلا 4، 19).
نرى في هذه الآية كيف أن بولس يشبه تبشير الغلاطيين بمخاض المرأة الحبلى التي تلد. إن غيرة بولس لولادة الغلاطيين، والمسيحيين إجمالاً، إلى الحياة في المسيح تشبه مخاض المرأة التي تلد البنين إلى الحياة الأرضية.
وفي كلامه إلى الكورنثيين يقول: “أريد أن أنصحكم نصيحتي لأبنائي الأحباء. فقد يكون لكم ألوف الحراس في المسيح، ولكن ليس لكم عدة آباء، لأني أنا الذي ولدكم بالبشارة، في المسيح يسوع، فأحثكم إذا أن تقتدوا بي” 1 كور 4، 14 – 16).
ويقول في الرسالة عينها متحدثًا عن تلميذه الحبيب تيموثاوس: “تيموثاوس إبني الحبيب والأمين في الرب” (1 كور 4، 17).
وبما أنه يعامل الكورنثيين كأبنائه، فإنه يعتبر أنه من حقه أن يعاملوه كما يعامل الأب، فيقول في رسالته الثانية إليهم: “عاملونا بمثل ما نعاملكم. إني أكلمكم كلامي لأبنائي، فافتحوا قلوبكم أنتم أيضا” (2 كور 6، 13).
كما ويتوجه بتعابير لطيفة وأبوية إلى تيموثاوس فيقول: “من بولس رسول المسيح يسوع بأمر الله مخلصنا والمسيح يسوع رجائنا، إلى طيموتاوس ابني المخلص في الإيمان” (1 تيم 1، 1 – 2).
وبالشكل عينه يفتتح الرسالة الثانية: “من بولس رسول المسيح يسوع بمشيئة الله، وفقا للوعد بالحياة التي هي في المسيح يسوع، إلى طيموتاوس ابني الحبيب. عليك النعمة والرحمة والسلام من لدن الله الآب والمسيح يسوع ربنا” (2 تيم 1، 1 – 2). ولا ينفك يتوجه إليه بتعبير “يا بني” (راجع 1 تيم 1، 18؛ 2 تيم 2، 1). وبالشكل عينه يتوجه إلى تيطس (راجع 1، 4).
وفي الرسالة القصيرة إلى فيلمون، التي يطلب فيها من المسيحي فيلمون أن يرأف بعبده أونيسمس الذي كان قد هرب في ما مضى، فيقول بولس: “…آثرت أن أسألك باسم المحبة سؤال بولس الشيخ الكبير الذي هو الآن مع ذلك سجين يسوع المسيح. أسألك في أمر ابني الذي ولدته في القيود، أونيسمس الذي كان بالأمس غير نافع لك، وأما الآن فلي ولك صار نافعا. أرده إليك، وهو قلبي” (فيل 9 – 12).
أود أن ألفت النظر إلى الكلمات المؤثرة التي يستعملها بولس في وصف أونيسمس: “ابني الذي ولدته في القيود”، و “هو قلبي”. يتحدث بولس عن أونيسمس الذي ارتد إلى الإيمان على يده بتعابير الولادة والمخاض التي رأيناها سابقًا، ويعتبره كما يعتبر المرء عادة أبناءه، فلذة أكباده، وقلبه.
وعليه، فبالنظر مليًا إلى فهم بولس للتبشير يظهر كيف أن رسول الأمم يكثر من تعابير الأبوة والأمومة في حديثه الأمر الذي يبين كيف أنه لا يعتبر البشارة والتنشئة المسيحية دعاية تهدف إلى جمع المناصرين، بل عملية إنجاب يلد فيها الرسول المؤمنين إلى حياة الإيمان.
هذه الولادة لا تحتل مكان أبوة الله بل هي ثمرة الإيمان، بحيث يضحي من يلد أبًا في الآب. يقول بولس في هذا الصدد: “أجثو على ركبتي للآب الذي منه تستمد كل أبوة اسمها في السماء والأرض” (أف 3، 15). الرسول ليس أبًا بفضل ذاته، بل بفضل أبوة الله الآب التي منه تستمد أبوته في المسيح اسمها وجوهرها وديناميتها.
إنطلاقًا من محورية الأبوة الروحية في تعليم بولس يمكننا أن نفهم قول اللاهوتي والفنان ماركو إيفان روبنيك (Marko Ivan Rupnik): “من دون أمومة وأبوة روحية، لن يصل التبشير الجديد [الذي تحدث عنه ودعا إليه يوحنا بولس الثاني] إلى الأعماق الضرورية لتحقيق رسالته في القارة الأوروبية التي فقدت طابعها المسيحي”.
إنطلاقًا من فهم الرسول للأبوة الروحية، نستطيع أن نقول أننا مدعوون إلى عيش الأبوة الروحية في توتر يجمع في الوقت عينه بين بادرة لا تعتمد علينا – فالله هو الذي يلد النفوس إلى الحياة الأبدية – ويعتمد علينا في الوقت عينه – فالله شاء أن يلد النفوس بواسطة أحشائنا.
في تعليمنا المسيحي، لا يجب أن ننقل سلسلة من الأحكام، بل يجب أن نعيش الحركة عينها التي يعيشها الله في حميميته، أي حركة الولادة. وما من مسيحي يستطيع أن يعتبر نفسه مستثنىً من هذه المهمة المقدسة.
ولنذكر أيضًا أن كلمة “روحي” في المسيحية ليست تعبيرًا عن خبرة إيزوتيرية، بل عن حياة وخبرة في الروح القدس. وعليه فالأبوة الروحية هي أبوة تنبع من الآب في المسيح بفعل الروح القدس، هي خبرة ثالوثية.
ج. صفات الأب الروحي
تحدثنا في القسمين السابقين عن التنشئة المسيحية كأبوة روحية، وعرضنا أيضًا الأبوة الروحية في تعليم القديس بولس. نتوقف في هذا القسم الأخير من مقالتنا على بعض الخصائص التي يجب على الأب الروحي – بحسب التقليد الكنسي – أن يتمتع بها.
يقدم الكاردينال توماش شبيدليك، الخبير في اللاهوت الروحي الشرقي، بعض خصائص الأب الروحي.
أولها وأهمها: (pneumatikos) أن يكون “روحانيًا” أي مملوءًا من الروح القدس: أي أن يكون ممتلئًا من حياة الشركة مع الله.
ثانيًا: (theologia) أن يكون ممتلئًا بمعرفة الله، متسربلاً بالله (theophoros). وهنا ندرك أهمية “اللاهوت” المفهوم لا كمادة علمية بل كواقع وجودي وروحي. اللاهوت، كما سبق وأوضحنا هو معرفة الله. هذه المعرفة التي ترافقها بشكل محتم معرفة الذات. بحيث يرفق القديس أعسطينوس صلاته من أجل معرفة الله بالصلاة من أجل معرفة الذات: “ noverim me noverim te “.
ثالثًا: التطلع (theoria)، والذي يحتاج بدوره إلى الانتباه (prosoché) وإلى الصلاة (proseuché). فالصلاة والانتباه الروحي يتماشيان سوية، وهما واقعان هامان يجعلنا من اللاهوت واقعًا خصبًا يغذي القداسة والولادة إلى الحياة في الروح القدس.
رابعًا: معرفة القلوب والضمائر (Cardiognosia): الآباء الروحيون هم أشخاص يعرفون القلوب والضمائر. بحسب آباء الصحراء، هذه القدرة ليست أمرًا فائق الطبيعة بل قدرة طبيعية تتحلى بها النفس البشرية. معرفة القلوب تتطلب قلبًا نقيًا، ويشرح الكاردينال شبيدليك: “لقد خلقنا الله لكي يفهم أحدنا الآخر. لقد أدت الخطيئة إلى إقامة أسوار فصلت قلوبنا بعضها عن بعض. أما تطهير القلب فيساعدنا إلى تحطيم هذه الحواجز”.
يربط الفيلسوف الروسي نيكولاي بردياييف (Nicolai Berdjaev) بين الحب والمعرفة فيساعدنا على فهم أكبر لصفة “معرفة القلوب”. يقول: “أن نحب شخصًا ما يعني أن ندرك وحدته في تغيره المستمر وفي تحوله، الحب هو حدس لعظمته ولفقره. الحب هو ولوج في عالمه الموضوعي وتبحر في وجوده الباطني حيث تضمحل الموضوعية لتفسح المجال للأنا”. عندما أحب شخصًا ما لا يعود ذلك الشخص موضوع معرفة، بل يضحي “هو” “أنا” في حضرة “أناي”، وعندما أنظر إليه أراني منظورًا إلي (je me vois vu). وعليه فالحب هو “حدس الشخص الآخر”.
يقول جان فانييه، مؤسس جماعة “الفلك” التي تعنى بالمعوقين: “أن نحب شخصًا ما يعني أن نساعده لكي يكتشف جماله”. مساعدة الآخر على اكتشاف جماله تتطلب مني أن أكتشف الجمال المقيم فيّ، وأن أكتشف ذاتي كشخص. وهذا ليس أنانية. فالأنانية إنطواء على الذات، أما اكتشاف الذات كشخص منفتح جوهريًا على الحضور لآخر، فهو عكس الأنانية، وهو تحقيق الجمال. يتابع بردياييف: “إحقاق الشخص مرتبط صميميًا بالتضحية والتخلي، بالانتصار على الأنانية، ولكن لا باللامبالاة بالذات”. وعليه معرفة القلوب، تنبع من معرفة الإنسان لقلبه ولسبره في حضرة الله وبفضل روح الله الذي يسبر روح الإنسان (راجع مز 139).
خامسًا: التمييز (Diakrisis): من يعيش في الله ينمي في فردوس قلبه شجرة معرفة الخير والشر الحقة، يحوز في قلبه عين الله. يقول الرب لإرميا النبي في هذا الصدد: “إن رجعت إلى قبلتك فتقف بين يدي وإن ميزت النفيس من الخسيس صرت كفمي” (راجع إر 15). من يقف في حضرة الله، من يتوب إلى الله يبدأ بتمييز الخير من الشر، ويضحي كفم الله، وكـ “سفير الله” وكأن الله ينطق بفمه (راجع 2 كور 5).
سادسًا: الأمانة إلى التقليد (traditio): فالأب الروحي يأخذ أبوته في صلب أبوة الله الآب وفي حضن الكنيسة الأم. وهو أب حقًا بقدر ما يكون ابن حقًا لله الآب في الكنيسة.
سابعًا: الشفاعة (intercessio). الأب الروحي يقوم بدور إبراهيم الذي يشفع بأهل سدوم وعمورة، وموسى الذي يشفع بإسرائيل في حضرة الله، والأنبياء، ويسوع المسيح الذي صلى لأجل خاصته دومًا، وبشكل خاص في الصلاة الكهنوتية التي يقدمها الإنجيلي يوحنا لا ليجعل منها الصلاة الوحيدة التي يرفعها يسوع ككاهن وجودي، بل كتعبير عن ما تردد دومًا في قلب يسوع المصلي والشفيع.
فلنختتم هذه الدراسة بصلاة للقديس بولس، تشكل تطبيقًا عمليًا وروحيًا للترابط بين القداسة واللاهوت والأبوة الروحية:
“لهذا أجثو على ركبتي للآب، فمنه تستمد كل أبوة اسمها في السماء والأرض، وأسأله أن يهب لكم، على مقدار سعة مجده، أن تشتدوا بروحه، ليقوى فيكم الإنسان الباطن، وأن يقيم المسيح في قلوبكم بالإيمان، حتى إذا ما تأصلتم في المحبة وأسستم عليها، أمكنكم أنتدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعلو والعمق، وتعرفوا محبة المسيح التي تفوق كل معرفة، فتمتلئوا بكل ما في الله من كمال. ذاك الذي يستطيع، بقوته العاملة فينا، أن يبلغ ما يفوق كثيرا كل ما نسأله أو نتصوره، له المجد في الكنيسة وفي المسيح يسوع على مدى جميع الأجيال والدهور. آمين” (أف 3، 14 – 21).
—————
روبير شعيب يعلم “الكريستولوجيا” و “مدخل إلى الفكر اللاهوتي الآبائي” في مدرسة الرسالة في فلورنسا إيطاليا، ويقوم حاليًا بكتابة أطروحة دكتورا في اللاهوت الأساسي في جامعة الغريغوريانا الحبرية في روما حول موضوع “معاني وحواس الإيمان. نظرة إلى الأبعاد ما قبل وما بعد العقلية في فعل الإيمان”، كما ويعمل كصحفي لوكالة زينيت العالمية.
منقول عن وكالة زينيت العالمية.