جزء من كتاب “أحزان القديسة مريم العذراء”- للشماس نبيل حليم يعقوب
جزء من كتاب “أحزان القديسة مريم العذراء”- للشماس نبيل حليم يعقوب
كنيسة السيدة العذراء للأقباط الكاثوليك
لوس انجلوس- كاليفورنيا
تــقــديــــم
تسر كنيستنا أن تقدم هذا الكتيب الجديد عن “أحزان القديسة مريم العذراء” للشماس نبيل حليم يعقوب،والذى يحوى بعض مما تحملته أمنا مريم العذراء من آلام وأحزان طوال رحلتها على الأرض وكيف أن إيمانها وصبرها وتسليمها لمشيئة الله جعلها مثالاً للكنيسة وفى حياة المؤمنين.
نطلب من الرب أن يكون هذا الكتيب سبب بركة روحيـة للجميع وأن يساعد أبناء الكنيسة الكاثوليكيـة لينموا فى الإيـمان ببركة الرب وشفاعة أمنا مريم العذراء.
القمص فرنسيس مراد فهيم
راعي الكنيسة
لوس انجلوس فى مايو2011
الفهرس
1. مقدمـة………………………………. 4
2. أحزان مريم العذراء……………………… 8
3. أحزان الطفولـة ………………………… 10
4. مريم و القديس يوسف……………………. 13
5. مريم وبشرى ملائكية غير عادية………………… 16
6. فى بيت زكريا الكاهن ………………………. 20
7. الحيـاة فى ناصرة الجليل……………………… 23
8. رحيل مفاجئ الى بيت لحم…………………… 27
9. مريم وخضوعها للشريعة……………………….. 30
10. لقاء سمعان الشيخ…………………………… 34
11. صراخ أطفال بيت لحم …………….. ….. 36
12. الهروب الى مصر………………………… 37
13. فقدان الطفل السماوي……………………. 39
14. موت الشريك……………………………. 41
15. مريم وبدء رسالة يسوع …………………… 42
16. صراخ فى البستان………………………….. 46
17. فى طريق الجلجثـة …………………………. 52
18. دموع فرح القيامة ………………………… 60
19. انتقال مريم للسماء………………………………..61
20. حزن الأم ما بعد الإنتقال……………………….. 62
————————-
تقديم
هناك كمية ضخمة من الألم يعاني منها الجميع في العالم. هذا الألم قد يمتدّ من ألام شخصيّة عميقة لأفراد أوقد تكون من خلال مجتمعات شاملة، وحتّى إلى أبعاد كونيّة. ومن الثابت ان الكمّيّة الكبيرة من ألم الإنسانيّة يقع في قلوب الأمهات. وفي هذا السياق، هناك تقليد متوارث من الأجيال الأولى فى المسيحية بأن مريم قد تمثّلت فيها صور ألام البشرية ولهذا أُطلق عليها لقب “أم الأحزان”. ولقد تم تأليف العديد من الترانيم والأشعار التى تحمل معاناة أم يسوع (Stabat Mater[1]).
ولقد خصصت الكنيسة عيد تذكاري ويقع فى يوم 15 سبتمبر من كل عام وأطلقت عليه “عيد مريم سيّدة الأحزان”[2]. أن الإحتفال وتكريم آلام مريم العذراء وخاصة عند الصليب يرجع فى حقيقة الأمر الى القرن الرابع والخامس الميلادي،فالقديس افرام السرياني (373م) كتب “مراثي مريم” والذى لخّص فيها ما عانته مريم، وكذلك القديس رومانوس (مات 500م)، والقديس أمبروز والقديس أنسلم والقديس برنارد والذين تأملوا فى ألام الصليب وعلاقة مريم بتلك الآلام.
ولقد بدأ فـى الإحتفال بـعيد “سيدة الأحزان” من بدايـة القرن الثانـى عشر ثـم بدأ فـى الإنتشار بين مكرمـي العذراء فـى كل العالـم وتمت إضافتـه إلـى قائـمة الأعياد الـمريـمية بمعرفـة البابا بندكيت الثامن فى عام 1482وأيضاً البابا بيوس السابع فى عام 1814 الذى أعلن إمتداد هذا العيـد لكل الكنيسة فـى العالـم أجـمع.
ويسمى هذا العيد أيضاً بعيد أحزان مريم السبعة، وفى هذا اليوم يتم التركيـز على التأمـل فـى آلام وأحزان مريم العذراء من خلال سر الخلاص وخاصة وقت نزاع يسوع وموتـه على الصليب (يوحنا25:19)، وهناك رياضات وتساعيات وصلوات بالمسبحة عديدة للتأمل فى أوقات الحزن التى مرّت فى حياة القديسة مريم[3] (“Rosary of the Seven Sorrows;” the “Little Rosary of the Seven Dolors of Mary;” “Rosary of Our Lady’s Tears;” “Rosary of the Tears of Blood.”).
وفى طقس الكنيسة الكاثوليكية الغربيـة يتم قراءة نصوص من الكتاب المقدس تتناول آلام السيد الـمسيح (عبرانيين7:5-9) ونبؤة سمعان الشيخ (لوقا33:2-35) فى عيد سيدة الأحزان.
وبالتأمـل فـى أحزان مـريـم أمنـا يـمكننـا أن نتأمـل فـيـما
إقترفنـاه من خطايـا نحو الله ومـا سببـته من آلام للرب يسوع وأمـه
القديسة مريـم فنندم عليهـا ونتوب.
وأحزان القديسة مريم كما جاءت فى أحداث ذُكرت فى الكتاب الـمقدس تشمل: – نبؤة سمعان الشيخ لوقا33:2-35)
– ولادتهـا ليسوع فى مغارة (لوقا7:2)
– الهروب لأرض مصر (متى13:2-21)
– قتل أطفال بيت لحم (متى16:2-18)
-فقد يسوع لـمدة ثلاثة ايام فـى الهيكل(لوقا41:2-50)
– الطريق الى جبل الجلجثـة (يوحنا17:19)
– الصلب وموت يسوع(يوحنا18:19-30)
– إنزال يسوع من على الصليب (يوحنا39:19-40)
– ووضع يسوع فى القبـر(يوحنا40:19-42).
ولكن هناك أحزان أخرى نستطيع أن نجدها فى أحداث حياة القديسة مريم الأرضية وحتى بعد إنتقالها للسماء.
وتأملنـا فـى كل تلك الأحزان جميعها يجعلنـا نفهـم أن العذراء مريـم قد إجتازت كل تلك الأحزان الأرضيـة بثقـة وإيـمان ورجـاء صادق فـى وعد الله بالحيـاة الأبـديـة،وهذا بالتالـى يدفع فينـا الثقـة فـى التشبـه بهـا فـى كل ما قد نتعرض لـه على الأرض من آلام وأحزان فلا يهتـز إيـماننـا،وأيضاً يبث فينـا الرجـاء والثقـة انـه مهـما طلبنـا منهـا فهـى تعرف من هـم الأبنـاء بكل مـا يتعرضون لـه من أحزان وضيق على الأرض فتصلّي معنا وتتشفع من أجلنـا كما صنعت فى عُرس قانا الجليل.
———————
أحــزان القديسة مريــم العذراء
انّ عذابات مريم كانت عظيمة, وذلك لأنّها
كانت تُحبّ يسوع محبّة طبيعيّة كإبن لها،
ومحبّة فائقة الطبيعة كإله. فهاتان المحبتان
إتحدتا في قلب مريم،حتى تركتا قلبها كآتون
نار بالمحبّة، فأحبّت الله على قدر ما يُسمح
لخليقة أن تحبّه. ومن هنا،نعلم أنّه لم يوجد وجع
يوازي وجع مريم. إنّ مريم شاهدت آلام يسوع بعينيها. نحن المؤمنون لا نتمالك من ضبط دموعنا عند نظرنا صورة آلام المسيح،فكم كانت هذه الصورة الحيّة الحسّية، التي وقعت تحت أنظار مريم، جديرة بأن تثير في قلبها الأحزان على من تحبّه أكثر من نفسها!
هذه الآلام كانت مطبوعة في ذاكرتها،حتى كان يمكنها أن تقول: “إنّ وجعي
أمامي في كلّ حين”،ولكن هذه الآلام ازدادت شدّة، عندما إلتقت بإبنها على طريق الجلجلة.
إنّ أحزان مريم استمرّت لفترة أطول من أحزان يسوع، لأنّها كانت تتوجّع عليه وهو طفل، وبقي صوت سمعان الشيخ يذكّرها بالرمح الذي سيجوز في قلبها كلّ أيام حياتها. ولمّا فارق يسوع الحياة، ولم يعُد يتألّم، بقيت هي واقفة تحت الصليب تتألّم عنه. وقد أوحت العذراء المجيدة إلى القدّيسة بريجيتا، قائلة: “عندما خرجت الحربة من قلب ابني، شاهدتها مصبوغة بالدّم! وإذ شاهدت
قلب ابني مُنشقّاً، شعرت كأنّ قلبي قد تشقّق”!
هذه هي الآلام العظيمة التي احتملتها مريم، فكانت سبباً لإزدياد آلام يسوع, وسبب كل ذلك هو الخطيئة التي يجب على كلّ مسيحي أن يبغضها بُغضاً مُميتاً.
ولكن هناك الكثير من الآلام والأحزان التى عاشتها أمنا مريم العذراء قبل وأثناء وبعد حياة إبنها على الأرض، منها نتذكر:مرحلة طفولتها، خطبتها للقديس يوسف، حياتها الفقيرة، البشرى العجيبة، الرحيل الى بيت لحم، ولادة إبنها فى مزود، صراخ أطفال بيت لحم، وخضوعها للشريعة،وختان يسوع،ونبؤة سمعان الشيخ،والهروب الى مصر والحياة فى غربـة،عودة وحياة فى بلدة مغمورة،فقدان للطفل السماوي فى الهيكل،موت الشريك،رسالة الإبن،عرس قانا الجليل، رفض الشعب لإبنها وإهانة وتشكيك،دخول أورشليم الإنتصاري، خيانة تلميذ وصراخ فى البستان،محاكمة ظالمة وبيلاطس يحكم على ابنها بالموت، حمل الصليب، وبدأت المسيرة الى الجلجثة، تعرّيه الجنود لإبنها من ثيابه ويسقوه خلاًّ ومرارة، صوت المطرقة وهى تسمِّرُ ابنها على الصليب، وإبنها يفارق الحياة ويموت على الصليب، يسوع ينزل عن الصليب ويوضع في حضن أمه مريم،يسوع يوضع في القبر، قيامة مجيدة، رسالة أم ومسؤولية مستمرة،موت وإنتقال،ودور الأم مع الكنيسة وحزنها على خطـايا البشر وظهوراتها الـمستمرة لإنذار البشرية جتى مجيئ إبنها الثاني.
فلنتأمل معاً كل تلك الأحداث والتى تضع أمامنـا كيف أن أم يسوع وأمنا قد شاركتنا نفس الآلام والأوجاع وتحملتها بشجاعة وإيمان وصبر وإستسلام لمشيئة الله جعلتها مثالاً يُحتذى به.
—————–
أحزان الطفولــة
جـاء فـى تقاليد الكنيسة (مثل كتاب
“السنكسار”[4]وهو عن سير القديسين
والـمستخدم فـى الكنيسة القبطية
قد جاء ببعض الأخبار عن عائلـة مريـم
ولقد جاء ايضاً ذكراً عن والداي مريـم
فى كتابات بعض الأبـاء الأوليـن أمثال
القديس افرام السرياني (+373)و القديس يوحنا الدمشقي (+746) والقديس غريغوريوس النارغي (+950) وغيرهـم. وتذكر لنـا تقاليد الكنيسة أن والدا مريم هما يواقيم وحنّـة وكانـا متقدمـان فـى السن ولـم يرزقـا بولد،وعدم الإنجـاب كان يعتبـر عاراً عند اليهود. وكان القديسان يواقيم وحِنـّة يعيشان فـى خوف الله وممارسة الفضيلة. وبحسب بعض الكتابات القديمة أن ملاكاً قد جاء مبشراً يواقيم وحِنـّة بـميلاد مريم العذراء ولقد قيل أيضاً أنـه كان الـملاك جبرائييـل وهو الذى بشرهـما بـميلاد إبنـة يدعونهـا مريـم ومنهـا يكون خلاص آدم ونسلـه. وعندما سمعت حنـة بتلك البشارة نذرت أن تكرّس الـمولود لله.
وطبقاً للناموس اليهودي فإن “كل بِكر كل فاتح رَحم من بني إسرائيل” فهو
مُقدس للرب (خروج2:13) ويجب تقديـمه لهيكل الرب. ولقد قررا والدا
القديسة مريـم الوفاء بنذرهـما بتقديم طفلتهـما للرب فقدمـا إبنتهـما مريـم للهيكل عندمـا كان عمرهـا ثلاث سنوات (وفى بعض الأقوال عندما كان عمرهـا سنتان وسبعة شهور وسبعة أيام). وتقدمـة مريم للهيكل[5] لم يكن أمراً مفروضاً فى الشريعة،فالشريعة ما كانت تلزم إلاّ بتقدمـة الصبي بكر عائلتـه ولكن والدا مريم قدماها للرب وكرساها لخدمة الهيكل منذ ميلادهـا. والرأى العام عند مؤرخي حياة العذراء مريم هو انها مكثت سني صباها حتى سن الرابعة عشرعاما حيث سكنت مع رفيقاتها الـمكرّسات مثلها احدى الأبنية الـمتصلة بهيكل سليمان،وهى مثل دار للفتيات يربين فيه وفيها يعشن فى نظام مشترك مشابه لنظام الرهبنات الحالي.
ولقد توفى القديس يواقيم والد مريم العذراء وجد المسيح وكانت مريم العذراء فى السادسة من عمرها، وتوفت القديسة حنة أم مريم العذراء وجدة المسيح وكانت مريم العذراء فى الثامنة من عمرها.
وهنا قد نتسأل لماذا شاء الله أن مريم العذراء تعاني هذه الطفولة المعذبة؟ إنها لم تستمر في كنف والديها إلا ثلاث سنين، وبعد ذلك ذهبت الى الهيكل وبعد ذلك مات أبوها وماتت أمها وظلت يتيمة حتي سن12سنة؟. لا شك أن هذا كان فيه ألم كثير وعذاب، طفلة تحرم من الأب والأم، وكلنا نعلم مركز الأب والأم بالنسبة للطفل، هذه الإنسانة التي من المفروض إنها سيكون عن طريقها خلاص العالم، لماذا لم يبق والداها؟ ما هي الحكمة؟ لابد أن الله له حكمة أن مريم تعاني هذا العذاب، عذاب الحرمان من الأب والأم وتظل تعيش هذه الطفولة اليتيمة حتي كبرت، ولا يكون لها أحد تعتمد عليه أو تستند إليه. قد يرى البعض فى هذا حزن وألم وضيقة وتجربـة، ولكن القديسة مريم قد استسلمت لإرادة الله فكرّست ذاتهـا بكليتهـا للـه وأدركت تماماً دعوة الله لهـا متذكرة قول المرّنم:”قومي يـا خليلتي يا جميلتي وهلّمي”(نشيد الأناشيد13:2)، فلهذا نسيت كل شيئ و عاشت فى حضرة الله كقول المرّنم:”انسي شعبكِ وبيت أبيكِ فيصبو الـملك إلـى حُسنكِ” (مزمور11:44).
——————
مريم والقديس يوسف
جاء فى التقليد الكنسي أن مريم العذراء قد
أقامت فى الهيكل مع العذارى اثنتي عشرة سنة،
إلى إن جاء الوقت الذي يأتي فيه الرب إلى
العالم، ويتجسد من هذه التي إختارها، حينئذ
تشاور الكهنة إن يودعوها عند من يحفظها،
لأنها نذر للرب منذ ولادتها، إذ لا يجوز لهم
أن يبقوها في الهيكل بعد هذه السن فقرروا إن
تخطب رسميا لواحد يحل له إن يرعاها ويهتم بشئونها.وظهر ملاك الرب لزكريا الكاهن وأعلمة أن يجمع من سبط يهوذا اثني عشر رجلا أتقياء ويأخذ عصا كل واحد منهم ويدخلها إلى الهيكل، وبالفعل قام زكريا الكاهن بعمل ما أمرة به ملاك الرب، وأمام حشد كبير من المصلّين والحاضرين إذ بحمامة تاتى وتستقر على عصا القديس يوسف النجار وتفرخ براعم مزهرة. كيف أن العصا بعد أن جفت تخرج هذه البراعم؟ إنها معجزة لتكون علامة من السماء علي أن يوسف الذي اسمه مكتوب علي هذه العصا هو الرجل الذي اختارته السماء وعلموا إن هذا الأمر من الرب، ليكون هو الشخص الذي يأخذ مريم في كنفه ورعايته. لقد عزمت مريم على نذر البتولية،فالبتولية كانت منتشرة أيام الـمسيح وتُعد من علامات التقارب مع الله. فبتولية مريم أعطتها صفة التكريس وإمكانية حياة التأمل وحياة الخدمة. ولم تكن تعلم ان يوسف أيضا قد نذر نفسه للبتولية إذ يذكر عنه الكتاب المقدس “كان باراً” على الرغم من انه قد أطاع حكم الشريعة وقبِل أن يكون من عِداد من يتقدمون لخطبة مريم لأنـه كان من بيت داود ورضخ لإرادة الله بعد أن شاهد علامـة إلهيـة كما ذكر التقليد فأتمم مراسيم الخُطبـة، وهو على يقين تام أنـه سيطلب من خطيبتـه الحياة معـا فى نذر وتكريس كامل لله ولم يكن على عِلم بما نذرته خطيبته أن تكرّس ذاتها لله.
أما مريم ففى فترة الخطبة وقبل حادثة البشارة كانت فى صراع خفي ما بين نذرها للبتولية وتكريسها لله وما بين خضوعها للشريعة وطاعتها للكهنة وقبولها أن تُخطب لرجل من بيت يعقوب أُختير من السماء وليس بإختيارها الإرادي.
وبعد حادثة البشارة وعندما أخبر الـملاك يوسف فى حلم عن من هـى مريم العذراء وابنهـا عـمانوئيل فرح وأطاع أمـر السماء و”أخذ امرأتـه ولـم يعرفهـا”(متى25:1). وأيضاً كم كانت سعادة مريم بعدها عندما وجدت خطيبها بتولا مثلها، ولهذا كانت إجابتها للملاك جبرائيل:”كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً”(لوقا34:1) فلو كانت على علم إن يوسف رجلهـا رجلاً ليس ناذراً للبتوليـة ما كانت تجيب ملاك الله فى حادثة البشارة بأنهـا لا تعرف رجلاً. فعاشت مريم ويوسف فى حياة مشتركة مع الله قبل ان يعيشا معا تحت سقف واحد وحتى بعد ان أخذها إلى بيته كما أمره الملاك عندما ظهر له فى حلم. ولما عرف بأمر الحبل الالهي لم يجرؤ بعد كل هذا أن يلمس أم الـمسيّا هيكل الله،فعاشا معاً حياة كلها تكريس وخدمة ومحبـة.
—————-
مريم وبشرى ملائكية غير عادية
ذُكرت حادثـة البشارة العجيبة فى إنجيل القديس لوقـا (لوقا26:1-38)، وجاء فى نص البشارة انها قد أتت من السماء”إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف واسم العذراء مريم” (لوقا27:1)، وهنـا تحديد لإسم العذراء وعلاقـتهـا بيوسف،وانـه من بيت داود تحقيقـا لنبؤات العهد القديم أن الـمسيّا هو من بيت داود ومولوداً من عذراء.
ثم قد أتت بتحية عجيبة:”السلام لكِ أيتهـا الـممتلئة نعـمة،الرب معكِ،مباركة أنتِ فى النساء” (لوقا28:1)، مع لقبـاً جديداً، فلم يناديها يا “مريم” بل أعطاها لقبا جديدا وهو “الـممتلئة نعـمة”. فلم تكن هذه بالتحية العادية لكن الكلمة هنا كانت تعنى كمال معنى الفرح.
+” فلما رأتـه اضطربت من كلامه وفكّرت ما عسى ان تكون هذه التحيـة”(لوقا29:1). اضطربت مريم فمنظر الملاك غير مألوف فى تلك الأيام،ومثل هذه التحيـة غير عاديـة أيضاً، ومثل هذا الخبر فوق الطبيعة.
+ فقال لها الملاك لا تخافي يا مريم،لأنك قد وجدتِ نعمة عند اللـه وها أنتِ ستحبلين وتلدين إبناً وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العلي يُدعى ويعطيه الرب الإلـه كرسي داود أبيـه ويملك على بيت يعقوب إلـى الأبد ولا يكون لـملكه إنقضاء”(لوقا30:1-33).
هنـا يؤكد ملاك اللـه انه لا داعي للخوف أوالقلق أو الإضطراب فهذا الأمر هو من الله، ويؤكد لهـا بسبب انهـا قد وجدت نعمة عند الله فلا يوجد اي مكان للخوف أو الإستغراب،ومن ان ما كُتب عنـه فى التوراة والأنبياء وما جاء من رموز وشخصيات وأحداث من قبل عن الـمخلّص الآتـي “ابن العلي” و “العظيم” و”إبن داود” و “الـملك” و “الـملك الذى لا إنقضاء لـملكه”، ها هو سيأتـى الآن عن طريق مريـم.
وهنا كان التساؤل:”فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنـا لستُ أعرف رجلاً”(لوقا34:1)، فالـمنطق البشري يقول كيف يحدث هذا؟ وهذا ما أعلنته مريم “كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً”. فمريم قد تقول فى نفسها (انا ناذرة البتولية..أنا كنت أخطط حاجة أخرى لحياتي..أنا كنت أريد ..وانا كنت أخطط….) انها كلهـا تخطيطات بشرية. انـه ليس تساؤل فيه شك وإرتياب. انـه ليس تساؤل يطلب علامـة كما فعل زكريـا. انـه سؤال للإستنـارة “كيف يكون هذا”.
وهنا جاءت إجابة السماء على التساؤل المحيّر:”فأجاب الـملاك وقال لها الروح القدس يحلّ عليكِ وقوة العلي تُظللكِ فلذلك أيضاً القدوس الـمولود منكِ يُدعى إبن الله”(لوقا34:1-35). أجاب الـملاك على تساؤل مريم “الروح القدس يحلّ عليكِ” و عرفت مريم ان هذه هي مشيئة الرب، وتذكرت إيـمـان ابراهيم وكيف ترك أرضه وعشيرته وعندما قدّم ابنه ذبيحة حسب إختبار الله لـه. وتذكرت ايضا إيـمـان موسى وقبوله قيادة شعب الله من أرض العبودية الى أرض الـمـوعد. وتذكرت معنى حلول الروح القدس ومجد الرب يحل فى مكان ما.فتذكرت خيمة الإجتماع “غطت السحابة خيمة الإجتماع وملأ بهاء الرب الـمـسكن فلم يقدر موسى أن يدخل خيمة الإجتماع” (خروج 35:40)..
أن قوة العلي ستظللهـا (لوقا35:1)، إذن “انه ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله” (يوحنا 23:2).انه أمر سماوي، وإرادة سماويـة. ثم أعطتها السماء علامة: “وهوذا اليصابات نسيبتك هى أيضاً حُبلى بإبن فى شيخوختها وهذا هو الشهر السادس لتلك الـمدعوة عاقراً لأنـه ليس شيئ غير ممكن لدى الله”(لوقـا 36:1-37). لـم تطلب مريم علامة لتؤمن ولكن أعطاها الـمـلاك العلامة،ان نسيبتها أليصابات العاقر حبلى فى شيخوختها. وهنا كان الإستسلام لمشيئة الله: “فقالت مريـم هوذا أنـا أمـةُ الرب ليكن لي كقولك. فمضى من عندهـا الـملاك”(لوقـا 38:1) – هنا جاءت اللحظة الحاسمة التى تنتظرهـا البشريـة. ماذا ستقول مريـم؟. ان اللـه يحترم تمامـا إرادة الإنسان،و قبول هذا الأمر ليس بالهيّن، لهذا لم يتركها الـملاك حتى يسمع قبولهـا أو رفضهـا للدعوة والخدمـة والخضوع لـمشيئة الله ومن أنهـا ستقبل طائعـة وبكامل إرادتهـا أن تصبح أمـا لقدوس اللـه والـمسيّا التى تنتظره هـى أولاً وباقـى البشر. وقبلت مريـم أن تكون خاضعـة للـه كعبدة بكل كيانها وقلبها وجسدها وفكرها.
فى بيت زكريا الكاهن
بعد ان مضى الملاك جبرائيل بعد سماعه قبول
مريم العذراء، جلست مريم تتأمـل وحدها
فى هذا السر العظيم. تُرى ما هذا الذى قاله
الـملاك؟
أحقـاً ستُصبحت مريم أمـاً للـمسيّا،
لـمتمنى كل الشعوب؟
أحقـا سيأتـى الخلاص للبشريـة؟
انهـا لحظـة هامـة فى حياة مريم،إنتظرتها
هـى وإنتظرهـا الشعب العبرانـي كلـه.
الـمخلّص،الوديع،الـملك،القدوس،شيلون،ورئيس السلام-هـا هو يأتـى وعن طريق من؟عـن طريق مـريـم. أي مشاعر إجتاحت تلك الإبنـة الـمختارة فى هذه اللحظات؟
ولـماذا يا تُرى ذكر لهـا الـملاك أعجوبـة حبل نسيبتهـا اليصابات؟. أهـو لتقويـة إيـمان مريـم فحسب؟، أم إشارة لهـا بضرورة الذهاب الى بيت زكريـا لتقدم نِعـمْ الخلاص؟
إمتلأت مريـم بالفرح، فهـا هو مجيئ ملء الزمان،وهـا هى العاقر ستلد، فيلزم الذهاب سريعـاً وتقديـم العون ومشاركتهـا فى الفرح.كانت هذه اولا عادة شرقيـة،وثانيـا واجب تلزمـه أمومتهـا للـمخلّص العجيب،وثالثـا دفعهـا الروح القدس لأن تذهب حتى يتقدس إبن زكريـا بسلامهـا وهو فى بطن أمـه كما تنبأ الـملاك “ومن بطن أمـه يمتلئ من الروح القدس”(لوقا15:1).
لقد أجمع علماء الكتاب الـمقدس أن الحبل الإلهـي قد تم فور إعلان مريم قبولهـا “ها آنذا أمـة الرب”، وعليـه فمريـم تحمل الـمسيح فى ذهابهـا الى بيت زكريـا،فكأنهـا أول مبشّرة تنشر بشرى الخلاص وتحمل الـمسيح الى العالـم.
“فى تلك الأيام قامت مريم وذهبت مسرعـة إلـى الجبل الى مدينـة يهوذا” (لوقا39:1)،”ودخلت بيت زكريا وسلّمت على اليصابات”(لوقا40:1) ،”فلما سمعت اليصابات سلام مريم ارتكض الجنين فى بطنها وإمتلأت اليصابات من الروح القدس وصرخت بصوت عظيم وقالت مباركة أنتِ فى النساء ومباركة هى ثمرة بطنكِ فمن أين لي هذا ان تأتي أمُّ ربّي إلـيّ فهوذا حين صار صوت سلامك فى أذنيّ ارتكض الجنين بإبتهاج فى بطني فطوبى للتى آمنت ان يتم ما قيل لها من قِبلِ الرب”(لوقا41:1-45). هنا كانت القديسة اليصابات تحت تأثير الروح القدس الذى كان يتكلم بفمها. يوحنا ابتهج بقدوم مريم الحاملة للرب يسوع فإرتكض فى بطن امـه،تماما مثلما رقص داود بكل قوة امام تابوت الله حين دخوله اورشليم. مريم تنشر البشرى،تنشر السلام والفرح وتحمل المسيح للآخريـن.
سمعت مريم مديح اليصابات، أي العلامـة السماويـة الجديدة لتؤكد أمومتهـا العجيبة،فها هو سرهـا قد أعلنـه الروح القدس على لسان اليصابات، فماذا يكون جوابهـا؟
ملاك يبشر “يا ممتلئـة نعـمة”،وها هو لسان يهتف “مباركة أنتِ فى النساء”، وها هو جنيـن يركض فى إبتهاج،فـما كان من مريـم أن نطقت بكلمات وتسابيح وأناشيد روحيـة عـميقـة.
+ “تعظّم نفسي الرب،وتبتهج روحي بالله مخلّصي،لأنـه نظر إلـى إتضاع أمتِـه. فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطّوبني،لأن القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس،ورحمته الى جيل الأجيال للذين يتقونـه. صنع قوة بذراعـه. شتت الـمستكبرين بفكر قلوبهم. أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع الـمتواضعين. أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين. عضّد اسرائيل فتاه ليذكر رحمة،كما كلّم اباءنـا لإبراهيم ونسله إلـى الأبد”(لوقا46:1-55).
الحياة فى ناصرة الجليل
يذكر القديس لوقا فـى إنجيلـه “مكثت مريم عندهـا نحو ثلاثـة أشهر ثم رجعت الى بيتهـا”(لوقا56:1)،وهذا يعنى أن القديسة مريـم مكثت فى بيت زكريـا الكاهن حتى حضرت ميلاد يوحنا الـمعمدان،ثم رجعت الى بيتهـا فى الناصرة.
وبدأت تظهر علامات الحبل الإلهـي،وبدأ معهـا حيرتهـا. ان خطيئة الزنـا فى الشريعة اليهوديـة عقوبتها الرجم بالحجارة وعلى مشهد من الناس”يخرجون الفتاة ويرجمها رجال مدينتهـا بالحجارة حتى تموت لأنهـا عملت قباحـة فى اسرائيل بزناهـا فتنزع الشر من وسطك”(تثنية الإشتراع20:22-21).
ماذا تفعل مريـم؟. أتبوح بهذا السر الإلهـي؟. انهـا لا تملك فهو سر عَلَوي ولـم يُكشف إلاّ لأليصابات ومن الروح القدس فقط. ولكن مريـم ترى يوسف فـى حيرتـه. ويوسف الذى يقول عنـه الكتاب “البار” ماذا يمكن أن يقول؟. أيشك فى هذه العذراء التى نشأت فى هيكل اورشليم وتغذّت بالترانيم والشعائر وعاشت حياتهـا فى بتوليـة وطهارة؟
وقد يتسآل يوسف أيـمكن أن يحدث هذا؟،ومـريـم لـِمـا لا تنطق
وتبوح بسر هذا الحبل؟
ولكن مريـم العذراء كانت صامتـة، متأملـة، ومتفكرة فـى قلبهـا،وتواظب الصلاة.
لقد أكدّ أكثـر علـماء الكتاب الـمقدس أن القديس يوسف لـم يشك لحظة فى طهارة العذراء،فهو يؤمن تماما بفضيلتهـا ولم يفترض أي إفتراض وإمتنع أن يوجـه أي سؤال لهـا، فربـما سؤالـه قد يسبب أي ألـم. ويؤكد هذا الـموقف صدق برارتـه “فهّم أن يخليهـا سراً”(متى19:1)، فهو من حقـه أن يُشهر أمر مريـم وأن يشكوهـا الى شيوخ الـمدينة، ولكنه تنازل عن حقـه حتى لا يقضي عليهـا أدبـياً وجسديـاً.
وكان قرار السيدة العذراء هو ايضا الصلاة وترك الأمور للعناية الالهية.
ولم يخب أمل مريم ولا يوسف ففى اللحظة التى أوشك فيها يوسف ان ينفذ قراره كقول الكتاب الـمقدس:”هـّم”،”وفيما هو متفكر فى ذلك” ظهر له ملاك الرب فى حلم قائلاً:”يايوسف ابن داود لا تخف ان تأخذ امرأتك مريم فإن المولود فيها انما هو من الروح القدس وستلد إبناً فتسميه يسوع لأنه هو الذى يخلص شعبه من خطاياهم”(متى 20:1-21).
ها هو ملاك الله يحمل البشرى ليوسف، يحمل الحل والخلاص.
ان بشارة الملاك هذه تشابه فى عناصرها كل ما سبق وان ذُكر فى الكتاب
المقدس عند ظهور ملاك الله ليحمل بشرى بميلاد شخص أوتكليف بمهمة
إلهية. ومن تلك العناصر ان يُدعى بالإسم واللقب والدور المطلوب.
جاءت أولى الكلمات ليوسف :”يايوسف ابن داود”(متى 20:1) بنفس الأسلوب الذى جاء به ملاك الرب الى جدعون قائلاً:”الرب معك أيها الجبـّار”(قضاة12:6) ليشير الى الدور الذى سيقوم به جدعون فى خطة الله.
ثم قال له ملاك الرب: “لاتخف” وهو نفس التعبير الذى جاء كثيرا فى العهد الجديد فمثلا عند البشارة بميلاد يوحنا المعمدان لزكريا الكاهن “فقال له الـملاك لا تخف يا زكريا”(لوقا13:1)،وعند البشارة بميلاد يسوع للعذراء مريم”فقال لها الملاك لا تخافى يامريم”(لوقا30:1).
فقول الـملاك ليوسف “لا تخف” لا يعني تخفيف الخوف والقلق والشك، ولكن كان للتأكيد والشرح ليوسف ان هذا الإرتباط بمريم العذراء هو إختيار سماوي كما شرح الملاك روفائيل لطوبيا الإبن عن زواجه من سارة ابنة رعوئيل التى كان قد عقد لها على سبعة ازواج فماتوا(طوبيا15:6-17).
وعندما يعلن له الـملاك انه”ابن داود” اي انه من سلالة الـملوك،تلك السلالة الطاهرة التى جاء عنها فى النبؤات انه سيأتى منها شيلو المخلص كما جاء على لسان يعقوب قبل موته:”لايزول صولجان من يهوذا ومشترع من صلبه حتى يأتى شيلو وتطيعه الشعوب”(تكوين10:49)، وها هو قد آتى ملء الزمان. لقد أعطى الله ليوسف كرامة أخرى فلقد أعطاه أن يشترك مع مريم فى التسمية فلقد أمر الـملاك مريم قائلاً:”وتسمينـه يسوع” (لوقا31:1)، وأمر يوسف قائلاً:”فسمّيه يسوع”(متى21:1)، فلا مريم ولا يوسف قد إختارا هذا الإسم بل أعلنتـه السـماء لهـما.وبالفعل بعد ولادة الطفل وبلغ يومه الثامن “دعي اسمه يسوع كما سماه الملاك قبل الحبل به فى بطن امـه”(لوقا31:2) وفى انجيل متى جاء”فسمّاه يسوع”(متى 25:1). فعندما أزال شكه قال له “يايوسف ابن داود لاتخف ان تاخذ امراتك لان الذى حبل بـه فيها هو من الروح القدس فلمّا إستيقظ يوسف من النوم فعل كما أمره ملاك الرب وأخذ امرأته”(متى20:1و24) منفذاً أحكام الله.
__________________
رحيل مفاجئ الى بيت لحم
” فى تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس
قيصر بأن يُكتتب كل الـمسكونـة وهذا
الإكتتاب الأول جرى إذ كانكيرينيوس والي
سوريـة. فذهب الجميع ليكتتبوا كل واحد الى
قريتـه وصعديوسف أيضاً من الجليل من مدينة
الناصرة الى اليهوديـة الى مدينة داود التى
تدعى بيت لحم لكونـه من بيت داود
وعشيرتـه يكتتب مع مريم إمرأتـه الـمخطوبـة وهى حُبلى وبينما هما هناك تـمتّ أيامهـا لتلد فولدت إبنهـا البِكر وقـمّطته وأضجعتـه فى الـمذود إذ لـم يكن لهـما موضع فى الـمنزل”(لوقا1:2-20).
لقد أصدر الإمبراطور الروماني الأمر بالإكتتاب ليكون عاماً ويشمل كل الأراضي التى تحت سلطان الإمبراطوريـة وذلك من أجل ترتيب إدارتهـا وتقنين الضرائب. وبهذا تضافرت القوة الرومانيـة واليهوديـة على تتميم الـمقاصد الإلهيـة،فلقد صدر الأمر من السلطة الرومانية وتم الإكتتاب على الطريقة اليهوديـة،وبهذا انتقل يوسف ومريم إلـى بيت لحم “لكونـه من بيت داود وعشيرتـه”(لوقا4:2).
ان العقد الرسمي بين يوسف ومريم قد سمح ليوسف بأن يأخذهـا الى بيتـه وأن تنطلق معـه الى حيث شاء فهى إمرأتـه رسميـا وهذا ما أعلنـه الـملاك “لا تخف أن تأخذ أمرأتك”(متى20:1). لقد أدرك يوسف بالروح ومن إعلان الـملاك لـه بأنـه قد أصبح مسئولاً أمام الله والتاريخ عن العذراء وإبنهـا الـمنتظر وهو الـمخلّص ورجاء كل اليهود والعالـم،وكلّفه رسمياً بأن يـمثل نفسه أباً للطفل عندما أمره أن يأخذ العذراء الحامل وهى مخطوبة إمرأة له رسمياً،ذلك بحسب الله،ليتصدى أمام العالـم بأنـه رجل مريم وهكذا تسّجل فى سجلات الدولـة رسميـاً وبأنـه أباً ليسوع أمام العالـم. لهذا أجمع بعض الـمفسريـن ان يوسف حرص أشد الحِرص على أن يولد الـمخلّص فى بيت لحم اليهوديـة حسب النبوات وحسب رجاء كل اليهود،الأمر الذى جعله يسرع لأخذ العذراء وهى حُبلى فى شهرهـا الأخير ليتم ميلاد الطفل فى بيت لحم مهما كلّفه هذا من جهد ومخاطر.
يقول التقليد الكنسي على لسان القديس الشهيد يوستين(150م)،إن القديس
يوسف ومعه العذراء مريم عندما بلغا بيت لحم لم يكن لهما فيها أحد،إذ كانا قد استوطنا الناصرة منذ زمن بعيد. فإتجها الى الخان (الـمنزل أو النزُل) وهو مكان يشبه اللوكاندة تستقبل الـمسافرين،فلما لم يجدا فى الـمنزل مكاناً إلتجأ الى المغارة الـملحقة والتى كانت مخصصة للدواب وباتا فيهـا وهناك ولدت إبنها البِكر وقـمّطته وأضجعته فى الـمزود.
وهنا علينا أن نتأمل فى مشاعر القديسة مريم فى ذلك الوقت وكيف تتضاربت ما بين الإعلان الإلهي بأن المولود منها هو “قدوس” وبين الحال انها تلد إبنها فى مغارة وفى أرض بعيدة عن عشيرتها فأين ترانيم الملائكة؟ وأين هم الكتبة والفريسين وكل من ينتظر المسيّا المنتظر؟.كانت مشاعر تتجاذب ما بين الفرح بميلاد قدوس الله وبأنها أم لمن أعلنت السماء من أنه “ابن العلي”، وبين مشاعر القلق والترقب. لقد أجمع علماء الكنيسة من أن القديسة مريم لم تشك لحظة فى مواعيد الله وأن إيمانها قد كان قوياً.
____________________
القديسة مريم وخضوعها للشريعة
تسمية يسوع والختان والتقدمـة فى الهيـكل
تسميـة يسوع:
“ولـمّا تـمّت ثـمانيـة أيام ليُختن الصبيّ سُـمّي يسوع كـما سـمّاه الـملاك قبل ان يُحبل بـه فـى البطن”(لوقا21:2). وإسم “يسوع” قد أعلنه الـملاك جبرائيل للعذراء عند البشارة:”ها أنتِ تحبلين وتلدين وتُسمينـه يسوع”(لوقا31:1)، وأيضاً أعطى هذا الإسم أيضاً للقديس يوسف فى حُلم:”وستلد إبنـا فتُسمّيـه يسوع”(متى21:1)،فكان تأكيداً أن لهذا الإسم السماوي معانِ عظيـمة، فلا مريم ولا يوسف قد إختارا هذا الإسم بل أعلنتـه السـماء لهـما.
الختـان:
“ولـمّا تـمّت ثـمانيـة أيام ليُختن الصبيّ”، والختان هوفى العهد القديم
كان بمثابـة أول علامـة خارجية لعهد شخصي بين الله وشعبه وأعلنـه الله لإبراهيم (تكوين9:17-14). وختان الـمسيح فى اليوم الثامن كان خضوعا للوصيـة فهو قد وُلد “تحت الناموس”(غلاطية4:4).وطقس الختان هذا كان بـمثابـة رمز للـمعموديـة التى سينالهـا كل من يؤمن بالسيد لـمسيح فينال الختـان الروحـي الذى هو قوة الروح القدس.
الصعود إلـى الهيكل:
بعد مرور أربعون يوما على ميلاد يسوع الـمسيح يذكر الكتاب الـمقدس: “ولـمّا تمّت أيام تطهيرهاحسب شريعة موسى صعدوا به الى أورشليم ليقدموه للرب كما هو مكتوب فى ناموس الرب من أن كل ذكر فاتح رحم يدعى قدوس للرب ولكي يقدموا ذبيحة كما قيل فى ناموس الرب زوج يمام أو فرخي حمام”(لوقا22:2-24).
القديسة مريم كإمرأة مؤمنـة لم ترد أن تتجنب أمور الناموس بل أرادت أن تلتزم بـه، كما قال القديس بولس:”أرسل الله إبنه مولودا من إمرأة مولودا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس”(غلاطية4:4-5). والتطهير فى حالة القديسة مريم كان مجرد إلتزام بالناموس وليس من أجل نجاسة لحقتهـا لأن الـمولود منها هو قدوس القديسين. انهـا تتطهر من منطق إحترامها لقداسة اللـه وفرائضـه.
الصعود الى الهيكل كان عملاً تقويـاً مستمراً عبر الأجيال، انه تقديم الإبن البِكر الى الله وتقديم ذبيحة عوضاً عنه حيث قال الناموس:”كل بِكر إنسان من أولادك تفديه ويكون متى سألك إبنك غداً قائلاً ما هذا؟، تقول له بيد قويتة أخرجنا الرب من مصر من بيت العبوديّة وكان لـمّا تقسّى فرعون عن إخراجنا ان الرب قتل كل بِكر فى أرض مصر”(خروج13:13-16). وكان البِكر بنوع خاص يعتبر مخصصاً للـه منذ ليلة نجاة أبكار إسرائيل ليلة خروجهم من أرض مصر، وسط اسرته بعد أن يقدم فديـة للكاهن بدلاً عنـه(عدد16:18).
أمـا التطهيـر فكان بـمثابة رتبة دينية فرضتها الشريعة الـموسوية على الأم بعد ولادتهـا بأربعين يوما إذا ولدت صبيـاً وبثمانين يوما إذا ما ولدت
إبنـة(لاويين6:12)، وفى هذه الـمدة كان يُحرّم عليها التقرّب من الهيكل ولـمّا تنتهى الأيام الـمحددة تصعد الى الهيكل لتقديم ذبيحة تكفير”ولـمّا تمت ايام تطهيرها حسب شريعة موسى”(لوقا22:2).
الإلتزام بكل فروض الشريعة من القديس يوسف والعذراء مريم درساً لنـا بألاّ نخالف الوصايـا أو نحتقرهـا. أحضرت القديسة مريم طفلها يسوع وقدمتـه الى الهيكل كأعمق ما تحمله فريضة تقديم الأبكار من معانـي.
القديس يوسف والقديسة مريم كانا فقراء ومساكين ولا يقدران سوى أن يقدما يمامتين بحسب الناموس كحد أدنى لتقدمة أفقر الناس (لاويين7:12)، المهم ليس الإحتفال بتقديم ذبيحة بقدر فرحهم بتقديم إبنهم كاملاً للرب. ان الاحتفال بتقديم الطفل يسوع الى الهيكل كان عمل له شقين:
– ليقدموه للرب (لوقا22:2)، ويقدموا ذبيحة (لوقا24:2).
والآن ألم يكن لهذه الأم أن تقول فى نفسها لماذا يلزم عليّ الإلتزام بالشريعة وأنا أحمل بين يدي رب الشريعة؟. مشاعر قد تتجاذب أي بشر فى مكانها، ومشاعر قد تختلط بالشك والثورة والحزن فأين هو مجد الـمكانة الجديدة؟!. انها تشبه أية إمرأة يهودية عادية جاءت تتلمس بركات الكهنة وتقدم الذبائح، فأين هى مكانتها كأم للمسيّا؟!
يا لكِ يا مريم من أم عجيبة مؤمنة قادرة لم تستسلمي للمشاعر والأحساسيس الأرضية الزائلة وكان خضوعكِ للـه أمراً محفوراً ومطبوعاً فى قلبك لأنك أحببتِ الرب من كل قلبكِ ومن كل نفسكِ ومن كل فكركِ”(متى 22: 37، 38).
———————-
لقاء سمعان الشيخ
فى الهيكل تقابلت القديسة مريم مع سمعان الشيخ الذى يذكر الكتاب الـمقدس عنـه:”الروح القدس كان عليه وكان قد أُعلم بوحي من الروح بأنـه لا يرى الـموت قبل أن يعاين الـمسيح الرب فأقبل بالروح الى الهيكل”(لوقا25:2-27).وإقترب سمعان الشيخ وحمل الطفل يسوع بين يديه وإهتز فرحـاً قائلاً:”الآن تطلق عبدك بسلام حسب قولك لأن عيني قد أبصرتـا خلاصك الذى أعددتـه أمام جميع الشعوب نوراً تجلّى للأمم ومجداً لشعبِك اسرائيل”(لوقا29:2-32)،وها هو يُعلن عن رسالة الـمسيّا للـمسكونة كلهـا كما تنبأ من قبل اشعيا النبي”فقد جعلتك نوراً للأمم
لتكون خلاص الى أقصى الأرض”(اشعيا6:49).
ولكن إلتفت سمعان الشيخ إلى مريم وتنبأ بالروح عـمّا سيكون فقال:”ها ان هذا قد وُضع لسقوط وقيام كثيرين فى اسرائيل ولعلامة تقاوم”(لوقا34:2) ،إنها نبؤة عن ان الـمسيّا سيتمم رسالته وسط مقاومة والآلام،فمع وجود الـمسيح ستنكشف كل أفكار القلوب.
وتنبـأ ايضاً عن مريـم قائلاً:”وأنتِ أيضاً يجوز فى نفسِكِ سيفُ. لتُعلن أفكار من قلوب كثيرة”(لوقا35:2). انـه سيف كبير حاد جداً فقد ذُكر بهذا الوصف فى سفر الرؤيا ستة مرّات (رؤيا8:6و17:1و12:2و19:16)
وهذا السيف يرمز الى كلمة الله التى تحكم وتكشف أعماق الإنسان.
ان هذا السيف سيظهر فى حياة مريم فيما بعد فى مواقف عديدة،فبعد لحظات ستهرب الى مصر وتعيش فى منفى ثم تعود منزويـة فى الناصرة وقبلها تسمع صراخ أطفال بيت لحم ويستمر هذا السيف العميق حتى عند الصليب.
كم كانت كبيرة صدمة قلب مريم ، لدى سماعها الكلمات المُحزنة التي تنبأ فيها سمعان الشيخ عن آلام ابنها الحبيب يسوع الموجعة وموته. يا مريم الحبيبة، استمدي لي أسفا حقيقيا على خطاياي…
————————