هؤلاء هم أجدادي الحقيقيون!-أشرف ناجح إبراهيم
هؤلاء هم أجدادي الحقيقيون!-أشرف ناجح إبراهيم
ذهبتُ في رحلة بحثٍ ممتعةٍ، أبحث فيها جاهداً عن أجدادي الحقيقيين؛ فتعبتُ في البحث والاستكشاف؛ ولكنني أخيراً وجدتهم وهم وجدوني، فهم أيضاً كانوا يبحثون عني بشوقٍ وتلهفٍ يفوقان شوقي وتلهفي بمراحل عديدة!
لقد دخلتُ الأهرامات والمعابد، وذهبت إلى أبي الهول ورفقاءه؛ وقد سفرتُ إلى بلاد عديدة حتي وصلتُ إلى ما يُسمَّى بـ”ناطحات السحاب”، وقد تعرفتُ على أشهر أبراج العالم علواً، ودخلت المسرح الروماني فخر الرومان وعظمتهم، الذي تمَّ بناء منذ حوال ألفيّ عام[1]! وقد رأيتُ أيضاً أعظم كاتدرائيات العالم والكنائس الفخمة، فبكل رهبة وخشوع حقيقين وضعت أقدامي في “بازيليكا القديس بطرس” بروما، حيث يُحفظ هناك تحت المذبح الرئيسي جسده الطاهر، وفي “بازيليكا القديس بولس” أيضاً بروما، حيث يُحفظ هناك جسده أيضاً، ودخلت بكل إجلالٍ إلى “كاتدرائية القديس بولس” في لندن، وذهبت إلى كاتدرائية “آجيا صوفيا” الغاية في الروعة والجمال، القابعة كمتحفٍ أثريّ في المدينة العريقة القسطنطينيّة؛ وزرت أيضاً الكثير مِن بلاد العالم، فرأيتُ هناك العديد مِن الكنائس والمتاحف وآلاثار الفخمة التي خلدها التاريخ الحافل بإنجازات الأجداد وأمجادهم!!
ومِن ناحية أخرى، قد تصفحت الموسوعات العالمية والكتب التاريخية والمجالات الدراسية التي تتحدث عن الحضارت المتنوعة والثقافات الثرية والفنون الجميلة الغنية بمعانيها، وهناك قرأت عن ماضي الأجداد الزاخر بروعتهم وعبقريتهم؛ لقد قرأت عن مؤسسي الديانات والحكماء والفلاسفة والشعراء والأدباء والعلماء والملوك والأباطرة، وقد أخذتني الدهشة أول ما أخذتني مِن كثرتهم وتنوعهم: فهاك الفراعنة العباقرة، وهاك اليونانين، وهاك الرومانيين والبابليين والأشورين والفارسين والصينين واليابانيين والهنود والأفارقة والأمريكان اللاتين وغيرهم، الذين تصارعوا مع الزمن والطبيعة والظروف القاسية وحاولوا أن يتكيفوا معها ليخلقوا عالماً أكثر أُلفة وأكثر إنسانية!
وأخذتني أيضاً الحيرة والذهول الشديدان عندما تأملتُ في إنجازات العلوم الحديثة، فهذه العلوم تعلن إعلاناً واضحاً قدرة الإنسان الجبارة والخارقة على الاكتشاف والابداع؛ وهذه القدرة والعبقرية إنْ دلتا على شيء فهما يدلان على أنه ثْمَّة خالقٌ عظيمٌ أعطى الإنسان هذه القدرة المبدعة وهذه العبقرية الفذة! لقد أذهلتني بشدةٍ العلوم الوضعية والعلوم النفسية والعلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية والعلوم التاريخية وشتى أنواع العلوم الأخرى!
وقد زاد مِن دهشتي وحيرتي أيضاً ما فعله الأجداد مِن عظائم وإنجازات على مرِّ التاريخ، لقد صانعوا لنا تاريخاً وماضياً عمرين بالعبقرية والقدرة الإبداعية، لقد قطعوا شوطاً طويلاً ومشوراً شاقاً منادين بالتعمير والبناء، وبالحرية والتحرير، وبالمساوة والعدالة، وبالتضامن والمشاركة، واضعين الحكمة والفضائل والأخلاق أساساً لمسيرتهم! ففي الواقع، «لقد حاول الإنسان دائماً، بعمله وعبقريّته، أن يزيد حياته إنماء، ونراه اليوم قد استطاع _لا سيّما بفضل العلوم والتكنولوجيا_ أن يبسط نفوذه، وهو ما زال يبسطه، على الطبيعة بأسرها. وقد بدأت البشريّة، بفضل تعدّد الوسائل لتبادل الخدمات المتنوّعة بين الشعوب، في التعرّف على نفسها، لتنتظم شيئاً فشيئاً كجماعة واحدة في هذا الكون [العولمة]، مما أدّي إلى أن أصبح الإنسان من الآن فصاعداً قادراً أن يحقّق بمهارته الذاتيّة الكثير من المنافع والمصالح التي لم يكن يُتوقّع فيما مضى الحصول عليها إلاَّ بقدرة خارقة»[2].
لقد بحثتُ حقاً في مجالات عديدة متنوعة، ولكن القاسم المشترك في البحث في كل هذه المجالات هو أنْ أجد إرتواء لظمائي الشديد في البحث عن “أجدادي الحقيقيين”! فطوال مسيرة البحث كان يراودني السؤال الذى طالما بحثتُ له عن إجابة: مَن هم حقاً أجدادي بين كل هؤلاء الذين سبقونا في التاريخ البشري؟ وعلى أي منهم يمكنني، بكل طمائنينة القلب وسلامة النفس، أعطي اللقب المكتظ بالمعاني “أجدادي”؟ فمن هم إذاً ياتُرى “أجدادي الحقيقيون”؟ هل هم مَن بنوا التُّحف المعمارية والقصور العظيمة وعمروا الأرض طولاً وعرضاً؟ أم هم مَن هدموا ممالك واحتلوا العالم بجنودهم وبقوتهم الاستراتيجية؟ أم هم مَن صعدوا إلى القمر ولا يزالوا يبحثون عن المزيد؟ أم هم مَن أذهلوا العالم بحكمتهم وفلسفتهم وعلمهم؟ أم هم مَن أنكروا وجود الله ليرفعوا مِن شأن الإنسان وحريته الملغية وقدرته العقلية الجبارة، حسب زعمهم؟ أم هم مَن تخلَّوا عن كل مبدأ أخلاقي مُلزم وراحوا يبشرون الآن بالثالوث المعاصر غير المُتحد، ثالوث الجسد والعاطفة والعقل، وكل واحد يختار مِن هذا الثالوث ما يُعجبه؟ أم هم أخيراً فئةٌ أخرى مِن الناس؟!
بعد برهة مِن التأمل والتفكير العميق، لاحظتُ أمراً غاية في الأهمية، وهو الذي قادني في مسيرة بحثي؛ فهذا الأمر كان هو الدافع وراء كل إنجازات الفراعنة القدماء، وكان هو أيضاً الأساس لكل بحث الفلاسفة اليونانيين، وكان هو أيضاً الموجه لكل روائع الرومان، ولا يزال هو بعينه المحرك لكل إنجازات الإنسان المعاصر في التكنولوجيا الحديثة، إنه باختصار “البُعد الديني”، الذي حرك ولا يزال يحرك الجميع سواء كانوا مدركين بوجوده وقوته، أو كانوا جاهلين بوجوده وحقيقته، أو حتى كانوا منكرين لوجوده وفعاليته! وعندما أقول “البُعد الديني” أقصد على الأقل أربعة أمور:
- ·تساؤل الإنسان عن المعنى الشامل للحياة: فتوجد بأعماق كيانه أسئلة عديدة جادة حول المعنى النهائي للحياة وحول ملء معنى الوجود؟ وهذه الأسئلة لا يمكن إقتلاعها مِن أعماق كيانه، لأنها بمثابة المادة التي يتكون منها؛ وهي تستنفذ كل طاقة البحث التي يملكها العقل. إنَّ التساؤل حول الأصل والمصير والبحث المستمر عن جواب بشأنهما هما بمثابة البنية الأساسيّة للإنسان؛ فيمكن القول حقاً أنَّ طبيعة الإنسان تكمن في التساؤل والبحث المستديم عن جواب!
- ·التطلع أوالطموح الذي بداخل الإنسان، وكل إنسان، إلى “العلو والسمو”: وهذا الطموح يتجلى بوضوح في رغبتين يتوق إليهما الإنسان متهفتاً، ألا وهما رغبتي الكمال والخلود! فبسب الأولى يطمح الإنسان في حياة كاملة لا ينقصها شيء، فعندما يلاحظ نقصاً ما، يسعى جاهداً حتى يسد هذا النقص والعوز؛ وبسب الثانية يطمح في أنْ يحفظ نفسه وما وصل إليه مِن كمال إلى أكثر وقت ممكناً!
- ·النزوع الكامن في قلب كل إنسان نحو السعادة: إنَّ التعاسة هي على النقيض مِن الطبيعة البشرية، فالإنسان ينزع باستمرار نحو السعادة الكاملة مِن خلال تحقيق ذاته على جميع مستويات الحياة!
- ·نافذة الإيمان: كل إنسان يعيش على وجه الأرض، أيَّان كان، يُعدُّ بمثابة مؤمن! ولا أقصد هنا الإيمان في “معناه الحصري”، أي “الإيمان بالله الواحد الثالوث، الخالق الفادي”؛ إنما أقصد الإيمان في “معناه الواسع”! فالإنسان يؤمن على الأقل بأنه قادر على الوصول إلى ما يطمح إليه حتى يحقق سعادته، ويؤمن أيضاً بالعلاقات الإنسانيّة النبيلة كالصداقة والزواج، ويؤمن أيضاً ببعض المبادىء الإنسانية السامية الراقية، ويؤمن أخيراً بأنَّ ثْمَّة مبدأ جدير بالثقة يعتبره بمثابة مرجع وغاية لحياته، حتى وإنْ رفض أنْ يسميه “الله”!
أجل، إنَّ “البُعد الديني” _ بدون أدنى مبالغة_ هو بعينه المحرك لجميع إنجازات البشر على مرِّ التاريخ! ولذلك فإنني أحني رأسي بكل خشوع وعرفان بالجميل أمام أجدادي الحقيقيين، الذين أشعلوا بداخلي هذا “البُعد الديني” بجوانبه الأربعة: التساؤل-البحث المستمر عن الجواب والطموح إلى السمو والسعادة والإيمان! إنَّ أجدادي الحقيقين هم مَن قادوني الى الإيمان بالله الواحد الأحد! إنهم وحدهم مستحقون أنْ يأخذوا بجدارة لقب “أجدادنا” كلُّ هؤلاء الأشخاص الذين بلغوا بنا إلى “الإيمان بالله المحبة”، الخالق والفادي للإنسان! إنهم حقاً “أجدادنا في الإيمان”، لأنهم هم مَن أعلنوا لنا بحياتهم وكلامهم أول ما أعلنوا حقيقة الإنسان وحقيقة وجوده على هذه الأرض: فقد أعلنوا أنَّ الإنسان يجد في الله أصله ومصيره؛ وأنه بدون الله هو كائن يُرثى على حاله، لأنه منحدر نحو الهلاك والدمار لا محال؛ وأنَّ العالم والوجود ذاته بدون الله يظهران بدون معنى[3]! ومِن ثَمَّة أعلنوا أيضاً سواء بكلامهم أو بصمتهم، أنَّ الإيمان بـ”سرِّ الله” هو حقيقة الحقائق على هذه الأرض وفي الأبدية! لقد أظهروا لنا بإنجازاتهم واخترعاتهم وكلِّ التقدم الذي حققوه في التاريخ أنَّ ثْمَّة “اللوجوس” (الكلمة و العقل) الذي به وفيه ولأجله خُلق كل شيء في المسكون بأسرها (قول 1/15-20)؛ وبذلك أكدوا لنا روعة “الإيمان بالله”، وأن الإيمان بالله يدعو باستمرار إلى بناء عالم أكثر إنسانية وألفة! ألم يكن هذا هو محتوى الرسالة التي أوكلها الله للإنسان الاول الذي جبله «تُراباً مِن الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة» (تك 2/7)، ووضعه في الفردوس ليفلحه (تك 1-2)؟!
إنَّ أجدادي الحقيقين، أخيراً، هم بالأحرى مَن أطعمونني الإيمان، وغذوا فيَّ “البُعد الديني” (التساؤل/البحث المستمر عن الجواب والطموح إلى السمو والسعادة والإيمان)، مَن ماتوا رافضين الإغرات وغير خائفين مِن التهديدات حتى يستمر الإيمان بالله خالق الإنسان وفاديه. إنهم بكلمات بسيطة كلُّ مؤمني الشعب الجديد، أعني كلَّ هؤلاء الأشخاص الذين «[…] تحمَّل بعضهم توتير الأعضاء وأبوا النجاة [مِن الموت] رغبةً في الأفضل، أي في القيامة، وبعضهم الآخر عانى السخرية والجلد، فضلاً عن القيود والسجن. ورجموا ونشروا وماتوا قتلاً بالسيف وهاموا على وجوهم، لِباسهم جلود الغنم وشعر المعز، محرومين مُضايقين مظلومين، لا يستحقهم العالم، وتاهوا في البراري والجبال والمغاور وكهوف الأرض» (عب 11/35-38)! إنَّ أجدادي الحقيقين في عبارة موجزة هم «آباءنا القديسين رؤساء الآباء والأنبياء والرسل والمبشرين والإنجليين والشهداء والمعترفين وكل أرواح الصديقين الذين كملوا في الإيمان»[4]، فهم الذين سُفكت دمائهم لينتشر الإيمان بالله وتزدهر المسيحية؛ «فالدم [دمّ الشهداء] هو بذرة المسيحيين»، كما قال العلاَّمة ترتليانوس[5]! أجل، هؤلاء بعينهم هم أجدادي الذين وإنْ كانوا قد ماتوا لا يزالوا يتكلمون حتى بعد مماتهم، لأنهم سيظلون دائماً أحياء في ملكوت السموات وأحياء في عيون أحفادهم المؤمنين: فإن أجدادي العظماء الذين يستحقون كل إكرام وتقدير لا يزالوا يعلنون أنه «بالإيمان نُدرك أن العالمين أنشئت بكلمة الله [اللوجوس]، حتى إن ما يُرى يأتي مما لا يرى […] وبغير الإيمان يستحيل نيل رضا الله، لأنه يجب على الذي يتقرب إلى الله أن يؤمن بأنه موجود وأنه يجازي الذين يبتغونه» (عب 11/3، 6)!
[1] المسرح الروماني: «إستولى تيتوس على القدس ودمرها عن آخرها، وشيد والده الامبراطور فسبازيانوس (Vespasien) مبنى الكوليزيوم الشهير [المسرح الرومانيّ] في سنة 72 [ بعد المسيح]». جورج حليم كيرلس، دليل الأماكن المقدسة في روما وإيطاليا، د.د، القاهرة، 1999، 10.
[2] وثائق المجمع الفاتيكانيّ الثانيّ المسكونيّ، دستور راعويّ “الكنيسة في العالم المعاصر”، مرجع سابق، بند 33، 74.
[3] «”العالم بدون الله يصبح خرافة يرويها غبيّ في تألق الغضب”، كما يقول شكسبير على لسان إحدى شخصياته. لم نجد تعريفاً أفضل مِن هذا لمجتمع ملحد. فالحياة وفقه هي “خرافة”، إذن حلم غريب، وخيال مُغال؛ “يرويها غبيّ”، وهي لذلك دون قدرة على الترابط، وشظايا مفرقة دون ترتيب، ودون إمكانية توقّع؛ “في تألق الغضب”، أي حيث منهجية العلاقة الوحيدة هي عنفٌ، أي وهم التملك». لويجي جوسَّاني، الحس الديني، ترجمة د. سناء مدحت فضيل وأخرون، أخوية “شركة وتحرَّر”، ميلانو- إيطاليا، 2006 ، 71.
[4] الخولاجي المقدس وخدمة الشماس، مرجع سابق، 169.
[5] G. Peters, I Padri della Chiesa, 366.