التأمل الخامس لزمن الصوم مع واعظ القصر الرسولي
12 أبريل 2019
ألقى واعظ القصر الرسولي الأب رانييرو كانتالاميسا صباح اليوم الجمعة تأمله الخامس لزمن الصوم في كابلة أم الفادي في القصر الرسولي بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس، تحت عنوان “ما كانَ في العالَمِ مِن حَماقة فذاكَ ما اختارَه اللهُ لِيُخزِيَ الحُكَماء”. استهل الأب كانتالاميسا تأمّله انطلاقً من رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل كورنتس وقال: “فلَمَّا كانَ العالَمُ بِحِكمَتِه لم يَعرِفِ اللّه في حِكمَةِ اللّه، حَسُنَ لَدى اللّه أَن يُخَلِّصَ ألمُؤمِنينَ بِحَماقةِ التَّبشير؟ ولَمَّا كانَ اليَهودُ يَطُلبونَ الآيات، واليونانِيُّونَ يَبحَثونَ عنِ الحِكمَة، فإِنَّنا نُبَشِّرُ بِمَسيحٍ مَصْلوب، عِثارٍ لِليَهود وحَماقةٍ لِلوَثنِيِّين، وأَمَّا لِلمَدعُوِّين، يَهودًا كانوا أَم يونانِيِّين، فهُو مسيح، قُدرَةُ اللّه وحِكمَةُ اللّه، لأَنَّ ألحَماقَةَ مِنَ اللّه أَكثَرُ حِكمَةً مِنَ النَّاس، والضُّعْفَ مِنَ اللّه أَوفَرُ قُوَّةً مِنَ النَّاس”. يتحدّث الرسول عن حداثة في تصرُّف الله كتغيير في الأسلوب نوعًا ما. فالعالم لم يتمكّن من التعرّف على الله في بهاء وحكمة الخليقة، ولذلك قرّر ان يظهر بشكل معاكس، من خلال الضعف وجهالة الصليب.
تابع واعظ القصر الرسولي يقول كيف يمكننا أن نفسِّر انقلاب القيم هذا؟ يتحدّث لوثر عن ظهور لله ” sub contraria specie” أي من خلال عكس ما نتوقّعه منه. ويُظهر بندكتس السادس عشر في رسالته العامة “الله محبّة” تبعات هذه النظرة المختلفة للحب ويكتب: “لا يُمْكن فصل الـ eros والـ agape – الحب الصاعد والحبِّ المتنازل – عن بعضهما البعض بشكل كامل… إنّ إيمانَ الكتاب المقدس لا يشكِّلُ عالَماً موازياً، أَو معارضاً لظاهرةِ الحب الإنسانية الفريدة، بل بالأحرى هي نظرة تتقَبَّل الإنسانَ بكاملِهِ؛ وتتدخَّلُ في بحثِه عن الحبِّ، كيما تنقّيه وتكشف أبعاداً جديدةً منه”.
أضاف الأب كانتالاميسا يقول على الصليب ظهر الله نعم بشكل معاكس، ولكن بشكل معاكس لما كان البشر يعتقدون وليس بشكل معاكس لما هو عليه فعلاً. فالله محبّة وعلى الصليب جرى أسمى ظهور لمحبّة الله للبشر ولذلك ينبغي علينا أن نقرأ نص رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل كورنتس حول معنى الصليب في ضوء نص آخر للقديس بولس من الرسالة إلى أهل روما: “لَمَّا كُنَّا لاَ نَزالُ ضُعَفاء، ماتَ المسيحُ في الوَقْتِ المُحدَّدِ مِن أَجْلِ قَوْمٍ كافِرين، ولا يَكادُ يَموتُ أَحَدٌ مِن أَجْلِ امرِئٍ بارّ، ورُبَّما جَرُؤَ أَحَدٌ أَن يَموتَ مِن أَجْلِ امرِئٍ صالِح. أَمَّا اللهُ فقَد دَلَّ على مَحبتِّهِ لَنا بِأَنَّ المسيحَ قد ماتَ مِن أَجْلِنا إِذ كُنَّا خاطِئين”.
تابع واعظ القصر الرسولي يقول في الخلق ملأنا الله بالعطايا، وفي الفداء تألم من أجلنا. إن العلاقة بين هذين الأمرين هو محبّة عطاء تصبح محبّة ألم. ولكن ما هو الأمر المهمّ الذي حصل في صليب المسيح ليجعل منه ذروة ظهور الله الحي في الكتاب المقّدس؟ يظهر الإنجيل أن القدرة الحقيقيّة هي عجز الجلجلة الشامل. نحن بحاجة للقليل من القوّة لكي نظهر أنفسنا ولكننا بحاجة لقوّة أكبر لكي نضع أنفسنا جانبًا وننمّحي، والإله المسيحي هو هذه القوّة اللامحدودة لإخفاء الذات! وبالتالي نجد المعنى الأعمق في العلاقة الوثيقة بين المحبة والتواضع: “وضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب”. لقد وضع نفسه وجعلها متعلّقة بغرض حبّه. إن الحب متواضع لأنّه بطبيعته يخلق تعلُّقًا. ونرى ذلك في ما يحصل بين شخصين مغرمَين.
أضاف الأب كانتالاميسا يقول يكتب هنري دو لوباك إنَّ ظهور الله كمحبّة يجبر العالم على إعادة النظر في جميع أفكاره حول الله. فإن كان يسوع قد تألّم بشكل وحشيٍّ على الصليب فهو لم يقم بذلك لكي يدفع ثمن دين البشر. لا! يسوع قد مات على الصليب لكي تتمكّن محبّة الله من أن تبلغ الإنسان في أبعد مكان أقحم فيه نفسه إذ ثار على الله، أي في الموت، وبالتالي أصبحت محبة الله ساكنة في الموت أيضًا. ولذلك يمكننا أن نحدد ثلاث مراحل في مسيرة إيمان الكنيسة الفصحي. في البدء نجد واقعين: “مات وقام”، ويصرخ بطرس للجموع يوم العنصرة قائلاً: “ذاكَ الرَّجُلَ الَّذي أُسلِمَ بِقضاءِ اللهِ وعِلمِه السَّابِق فقتَلتُموه إِذ علَّقتُموه على خَشَبةٍ بأَيدي الكافِرين، قد أَقامَه اللهُ وأَنقَذَه مِن أَهوالِ المَوت”. في المرحلة الثانية يُطرح السؤال: “لماذا مات ولماذا قام؟” والجواب: “الَّذي أُسلِمَ إِلى المَوتِ مِن أَجْلِ زَلاَّتِنا؛ أُقيمَ مِن أَجْلِ بِرِّنا”. ويبقى السؤال الأخير: “ولماذا مات من أجل خطايانا؟ ما هو الأمر الذي دفعه للقيام بذلك؟” والجواب: “لأنّه أحبّنا”، ويكتب القديس بولس: “أَحبَّني وجادَ بِنَفْسِه مِن أًجْلي” ويكتب القديس يوحنا: “وكانَ قد أَحَبَّ خاصَّتَه الَّذينَ في العالَم، فَبَلَغَ بِه الحُبُّ لَهم إِلى أَقْصى حُدودِه”.
تابع واعظ القصر الرسولي متسائلاً: ماذا سيكون جوابنا إذًا إزاء السرّ الذي تأمّلنا به والذي ستجعلنا الليتورجية نعيشه خلال أسبوع الآلام؟ الجواب الأول والأساسي هو الإيمان. يكتب بولس الرسول: “المسيحِ يسوعَ… صارَ لَنا حِكمَةً مِن لَدُنِ الله وبِرّاً وقَداسةً وفِداءً لِيَتمَّ ما وَرَدَ في الكِتاب: مَنِ افتَخَرَ فَلْيَفتَخِرْ بِالرَّبّ”. فلا نسمحنَّ إذًا بأن يمرَّ عيد الفصح بدون أن نجدّد شجاعة الحياة المسيحية. يحث القديس بولس المسيحيين ليخلعوا الانسان القديم ويلبسوا المسيح، وهذه عمليّة نقوم بها أولاً من خلال الإيمان. إذ يضع المرء نفسه أمام المصلوب وبواسطة فعل إيمان يسلّمه خطاياه وبؤسه الماضي والحاضر كمن يخلع الخرق القذرة ويرميها في النار ليلبس البرَّ الذي ناله لنا المسيح.
وختم الأب رانييرو كانتالاميسا تأمله الخامس لزمن الصوم بالقول إنّه هدف صعب ولكن يسوع لحسن الحظ لم يعطنا المثال لهذا النوع الجديد من الحب وحسب، بل منحنا أيضًا النعمة لنعيشه بدورنا بواسطة الإيمان والأسرار. ولذلك تنبعث من قلوبنا، خلال أسبوع الآلام صرخة الكنيسة: “نسجد لك أيها المسيح ونباركك لأنّك بصليبك المقدّس خلّصت العالم”.
نقلا عن الفاتيكان نيوز