أمّ يسوع في إنجيل يوحنّا. للمطران بطرس مراياتي رئيس حلب وتوابعها للأرمن الكاثوليك
من يقرأ إنجيل يوحنا لا يجد ذكرًا لاسم “مريم” التي وُلد منها المسيح. بل يُشار إليها بلقب “أمّ يسوع”. ويستخدم يوحنا لقب (أمه- أمّه- أمّك) تسع مرّات، وكأنّه ما من اسمٍ لهذه الأمّ. حتى يتبادر إليك السؤال: هل كان يوحنا يعرف أنّ أمّ يسوع تدعى “مريم”؟
وفي المقابل، لا نجد عند الإنجيليين الإزائيين لقب “أمّ يسوع”، بل يكتفي متى ومرقس ولوقا بالإشارة إليها صراحة باسم “مريم”.
صحيح أنّ يوحنا يستخدم اسم “مريم” 15 مرّة، ولكن، للدلالة على نساء أخريات يحملن هذا الاسم: مريم أخت مرتا، ومريم المجدلية، ومريم امرأة قلوبا.
كما أنّ يوحنا لا يذكر شيئًا عن أحداث الطفولة كما جاءت عند متى ولوقا (البشارة، المذود، المجوس، الناصرة..) ولكنّه، في المقابل، يورد حادثتين ليس لهما أيّ ذكر في سائر االأناجيل: حضور مريم في عرس قانا الجليل، وعند صليب الجلجلة.
هذا ويلتقي يوحنا مع الإنجيليين الإزائيين في شأن مريم، وفي شأن أسرة يسوع الحقيقية، عندما يذكرهم في مقاطع عابرة مشيرًا إلى “أمّه وإخوته” (2: 12 و3:7، 5) (راجع أيضًا 20: 17 و21: 23). ويذكر أنّ الجمع قال: “نحن نعرف أباه وأمّه” (6: 42)، وكان يوحنا مطّلعًا على التقليد الذي يجعل ولادة المسيح في بيت لحم “ألم يقل الكتاب إنّ المسيح هو من نسل داود وإنه يأتي من بيت لحم” (7: 42). ويورد أيضًا لمحةً إلى حياة يسوع في الناصرة على لسان فيلبّس: “الذي كتب في شأنه موسى في الشريعة وذكره الأنبياء، وجدناه، وهو يسوع أبن يوسف من الناصرة” (1: 45). والمسيح يلقّب بالناصريّ (18: 7 و19: 19)، أمّا الناس فيحسبونه أبن يوسف (6: 42).
نترك هذه المقاطع الثانوية جانبًا، ونصبّ اهتمامنا في دراسة موضوع “أمّ يسوع” كما جاء ذكرها في آية قانا الجليل وعند الصليب.
أولاً: حضور “أمّ يسوع” في عرس قانا الجليل وعند الصليب
ترتبط نظرة يوحنا الخاصة إلى أمّ يسوع بفقرتين رئيستين، وهما آية قانا (2: 1-12) ومشهد الجلجلة (9: 25-27). لن أغوص في تفسير الروايتين فقد كثرت الدراسات البيبلية فيهما كما يتّضح من قائمة المراجع باللغة العربية المرفقة، أمّا عن المراجع باللغات الأجنبية فحدّث ولا حرج.
لذا عمدت إلى وضع مقاربة بين النصيّن، استنادًا إلى ما جاء في بعض التفاسير اللاهوتية والدراسات البيبلية، لنكشف بعد ذلك التماسك والترابط في إنجيل يوحنا من بدايته حتى نهايته حيث تأتي شخصية “أمّ يسوع” عاملاً من عوامل هذه اللحمة بين أجزاء الإنجيل الواحد، وأنموذجًا لرؤية يوحنا في لاهوت التجسّد والخلاص المسيحاني.
عرس قانا الجليل (يو 2: 1، 12)
“وفي اليوم الثالث، كان في قانا الجليل عرسٌ وكانت أمّ يسوع هناك. فدعي يسوع أيضًا وتلاميذه إلى العرس ونفدت الخمر، فقالت ليسوع أمّه: “ليس عندهم خمر” فقال لها يسوع: “مالي وما لك أيّتها المرأة؟ لم تأت ساعتي بعد.” فقالت أمّه للخدم: “مهما قال لكم فافعلوه”. وكان هناك ستة أجران من حجر لما تقتضيه الطهارة عند اليهود، يسعُ كلّ واحد منها مقدار مكيالين أو ثلاثة. فقال يسوع للخدم: “إملأوا الأجران ماءً”.
فملأوها إلى أعلاها. فقال لهم: “اغرفوا الآن وناولوا وكيل المائدة”. فناولوه، فلمّا ذاق الماء الذي صار خمرًا، وكان لا يدري من أين أتت، في حين أنّ الخدم الذين غرفوا الماء كانوا يدرون دعا العريس وقال له: “كلّ امرىء يقدّم الخمرة الجيّدة أولاً، فإذا سكر الناس، قدّم ما كان دونها في الجودة. أمّا أنت فحفظت الخمرة الجيّدة إلى الآن”. هذا أولى آيات يسوع أتى بها في قانا الجليل، فأظهرمجده فآمن به تلاميذ، ونزل بعد ذلك إلى كفرناحوم هو وأمّه وإخوته وتلاميذه، فأقاموا فيها بضعة أيّام”. عند الصليب (يو 19: 25، 27)
“هناك عند صليب يسوع، وقفت أمّه، وأخت أمّه مريم امرأة قلوبا، ومريم المجدليّة، فرأى يسوع أمّه، وإلى جانبها التلميذ الحبيب إليه. فقال لأمّه: “أيتها المرأة، هذا أبنك”. ثمّ قال للتلميذ: “هذه أمّك”. ومنذ تلك الساعة استقبلها التلميذ في بيته”.
(يو 33:19، 35)
“أمّا يسوع فلمّا وصلوا إليه ورأوه قد مات، لم يكسروا ساقيه، لكنّ واحدًا من الجنود طعنه بحربةٍ في جنبه، فخرج لوقته دمٌ وماء. والذي رأى شهد وشهادته صحيحة، وذاك يعلم أنّه يقول الحقّ لتؤمنوا أنتم أيضًا”
لا شكّ في أن النصّين مختلفان من حيث المكان والزمان والحدث، ولكنّنا نستطيع أن نستنبط أوجه الشبه بينهما ما دام أنّ الدور الأساسي في النصيّن يتمحور حول يسوع في حضور أمّه.
من الثابت أنّ هاتين الروايتين مرتبطتان الواحدة بالأخرى ارتباطًا أدبيًا ولاهوتيًا وثيقًا. وسنرى أنّ هذين الحدثين وفي مراحل مختلفة، يجعلان مريم تدرك رسالتها الجديدة بالنسبة إلى دعوتها الأولى لأن تكون أمّ ابن الله بالجسد، وإلى دعوتها الثانية لأن تكون أمّ المؤمنين.
ثانيًا: مقاربة مريميّة بين عرس قانا ومشهد الصليب
نعرض في ما يلي أوجه الشبه بين النصيّن من حيث التعابير والرموز والأفكار اللاهوتية:
1- البداية والنهاية
تقع حادثة عرس قانا الجليل في بداية رسالة المسيح، وتأتي حادثة الصليب في نهاية حياته الرسولية. وفي كلتا الحادثتين نجد “أمّ يسوع” حاضرةً على نحوٍ مميّز ولا يُذكر لها حضورٌ آخرُ في إنجيل يوحنا.
وإذا قسمنا الإنجيل إلى قسمين كبيرين: كتاب الآيات (2-12) وكتاب الآلام والمجد (13- 21)، لبقي هذان القسمان في وحدة كاملة. ثمّة أيضًا “رباط لاهوتيٌّ” بين القسمين، بالإضافة إلى هذا الرباط التاريخي، إذ تكشف الآيات بطريقة جزئية ما ستكشف الآلام حقيقته التامّة: “متى رفعتم ابن الإنسان، عرفتم أنّي أنا هو” (28:8). إنّ مجد يسوع سيُكشف تمامًا في آية الصليب الكبرى:” وأنا إذا رُفعت من الأرض جذبتُ إليّ الناس أجمعين. وقال ذلك مشيرًا إلى الميتة التي سيموتها” (12: 32-33).
فالقول إنّ قانا هي أولى الآيات هو القول إنّ قصّةً قد بدأت، قصّة ستجد خاتمتها على الصليب الذي يفهمه يوحنا انتقالاً من هذا العالم إلى مجد الآب (1:13).
أليس من الأهمّية بمكان أن يذكر الإنجيلي يوحنا “أمّ يسوع”، في البداية وفي النهاية