الأسطورة والكتاب المقدس
الأب توما عدلي
القارئ العزيز، إن فهم طبيعة العلاقة بين الأسطورة والكتاب المقدس، لهو شيء أساسي في طريقة فهمنا لكتابنا المقدس. أعلم قارئي الكريم أنك تقصد بالأسطورة كل ما هو بعيد عن أن يكون قد حدث تاريخيا بالفعل. والسؤال الذي يفرض نفسه دائما هو: هل الأحداث المروية في بعض أجزاء الكتاب المقدس، والتي تأخذ طابعا أسطوريا، مثل قصة الخلق وقصة برج بابل الذي يسعى ليلمس برأسه السماء …، هل حدثت كل هذه الأشياء بالفعل، أم أنها مجرد أساطير؟
بداية لابد أن نتفق على مفهوم أساسي في ديانتنا المسيحية، ألا وهو مفهوم الوحي. فالوحي عندنا ليس نصا كتبه الله ثم أنزله إلى الكاتب المقدس كوحي. لكن بالنسبة لنا، الله الذي لم يخجل أن يتجسد ويأخذ طبيعتنا البشرية المحدودة، لا يخجل أيضا أن يستعمل الإمكانيات الروحية والمادية والمعرفية لكاتب الكتاب المقدس البشرية، والتي يمكن أن تكون إمكانيات كبيرة وعميقة أو محدودة ومتواضعة، حتى يكشف لنا عن نفسه. أي أن الله يستخدم أدوات الكاتب المحدودة بالزمان والمكان واللغة وظروف النشأة حتى يكشف عن نفسه، والله هو دائما الضامن لوحيه من خلال ضعف الكاتب.
نعود الآن للأسطورة في الكتاب المقدس. أريد أن آخذ من حرب أكتوبر 1973 مثلا حيا قد يكون البعض منا عاشه، أو على الأقل سمع عنه، وكلنا ثقة أن هذه الحرب قد وقعت بالفعل تاريخيا. وقد حاول أحد الفنانين أن يخلد ذكراها برسمه هذه اللوحة المرفقة
لنتأمل هذه اللوحة جيدا، فسنجد أن الفنان رسم عددا من الجنود يقومون بعبور قناة السويس في زوارق بحرية تحت نيران مدفعية العدو، والبعض الأخر من الجنود يقومون بفتح ثغرات في الساتر الترابي، وإلى الجانب الأيمن من الأعلى توجد خمس حمامات بيضاء ترمز إلى أرواح الشهداء الصاعدة إلى ربها.
والآن، قارئي الكريم، لنطرح بعض الأسئلة على هذه اللوحة التس تعبر عن حدث ندرك جميعنا حدوثه بالفعل.
1- هل نستطيع القول أن الجنود الذين تم رسمهم في هذه اللوحة هم كل الجنود الذين شاركوا في حرب أكتوبر فعليا؟ بالتأكيد لا.
2- هل تستطيع هذه اللوحة إمدادنا بتقرير مفصل عن هذه الحرب، مثلا عدد الطائرات التي اشتركت فيها، عدد الأسرى من الجانبين المصري والأسرائيلي، أسماء قادة الجيوش ورتبهم …….؟ بالطبع لا.
3- هل يستطيع أحد القول أنه شاهد بالفعل، أثناء الحرب، أرواح الشهداء صاعدة كالحمام الأبيض إلى السماء؟ بالطبع لا.
الآن وبعد كل هذه الأسئلة التي لم تستطع اللوحة الإجابة عنها، هل يحق لنا أن نقول إن هذه اللوحة كاذبة ولاتعبر عن أحداث تاريخية، وإن هذا الفنان يختلق هذه الأحداث الأسطورية من وحي خياله؟ بالتأكيد لايحق لنا هذا. فالفنان استخدم آداة معينه هي اللوحة لتخليد حقيقة الانتصار في هذه الحرب، ولا يريد أن يقدم لنا تقرير مفصل يحوي كافة المعلومات عن هذه الحرب.
هكذا، عزيزي القارئ، فإن كاتب الكتاب المقدس، استعار قالب الأسطورة الشعبية، سواء كانت من بيئته أو من البيئات المحيطة، ليستخدمه كلوحة يجسد من خلالها حقائق إيمانه، أن الله خلق الكون والإنسان، وأن الإنسان أخطأ وعصى الله… ولايستطيع أحد أن يستجوب هذه اللوحة عما إذا كانت الحيات في العصور القديمة تتكلم كالإنسان أو تمش على أرجل…..إلى آخر ذلك من الأسئلة، فالكاتب لا يريد تقديم تقرير يحوي كافة المعلومات البيولوجية والتاريخية الخاصة بالعصور الأولى.
هذه هي، ببساطة شديدة علاقة الكتاب المقدس بالأساطير، فالأسطورة الشعبية هي القالب الأدبي الذي استخدمه الكاتب ليوصل من خلاله إيمانه إلى الأجيال التي تليه، ولا يحق لنا محاسبة الكاتب مثلا على ضعف معلوماته الجغرافية أو البيولوجية، لأن كل مايهم الكاتب هو توصيل حقائق إيمانه. وبالطبع بالدراسة الجادة الواعية والمستمرة للكتاب المقدس نستطيع التمييز بين ما قد يكون تقريرا تاريخيا وبين ما قد يكون لوحة يريد الكاتب المقدس أن يخلد بها حقائق إيمانه.