الألم أبعاده ومعانيه / معالي القصّاص
الألم أبعاده ومعانيه / معالي القصّاص
ما هو الألم؟
الألم هو معضلة الإنسان الكبرى. إنّه السؤال الوجوديّ الّذي لم تُعطَ له حتّى الآن إجابةً شافية. كلّ ما قيل فيه يشبه التمتمات. طرحه الإنسان على نفسه منذ أن وعى كيانه البشريّ، وسيظلّ يطرحه على ما يبدو حتّى نهاية العالم. ومن خبرة الألم تأسّست الديانات؛ واحدة حاولة أن تفسّره وأخرى أن تخفّف من وطأته، وثالثة تقترح عبثاً طرائق لتفاديه. لكنّه لم يتحرّك قيد شعرة، على الرغم من جميع هذه المحاولات. وظلّ يجثم على صدر كلّ كائنٍ بجميع مكوّناته: الآلام النفسيّة والجسديّة، وفي ذروة هذه وتلك، الموت. الألم يفرض نفسه كحقيقةٍ أساسيّة وواقع لا مفرّ منه: “كلّ شيءٍ ألم”. هكذا افتتح سيذهارتا غوتاما (البوذا) خطابه حول الحقائق الأساسيّة الأربع للكون.
فما هو الألم؟ وما هو أثره؟
يميّز الفيلسوف ﭘول ريكور Paul Ricoeur بين الألم والوجع. فالوجع “له تأثير محدود في أماكن معيّنة من داخل عضوٍ من أعصاء الجسم. أو في الجسد كلّه … أمّا الألم، فله تأثير غير محدود في ردود الفعل والكلام والعلاقة مع الذات والعلاقة مع الآخرين والعلاقة مع الحواس والتساؤلات.” ومع ذلك، نخلط في لغتنا بين الألم والوجع. فلا نميّز في مصطلحاتنا بين ألم فقدان شخصٍ عزيز ووجعٍ ناجمٍ عن التهابٍ في أحد الأسنان.
عندما نلفظ كلمة ألم، تلمع في عقلنا لمعان البرق فكرة العجز وصعوبة التصرّف، أو سقوط الصورة الّتي كوّنّاها عن أنفسنا: تقهقر في القوى الجسديّة، الشعور بفقدان الكرامة … ويعيش كثير من المرضى ألمهم كانشقاقٍ عن مسار حياتهم. إنّهم يتيهون ويواجهون المجهول. تقول مريضة مصابة بمرض السرطان: “لقد انقلب كياني بكامله نحو المجهول، واختفت فجأةً كلّ حياتي الاجتماعيّة، ووجدتُ نفسي في عالمٍ غريبٍ خارج العالم. عالم المستشفى الّذي تنقلب فيه الأمور رأساً على عقب. الأسرة تتألّم، ورفاق العمل والأصدقاء ينقسمون إلى قسمين: قسم يحافظ على العلاقة معي، وقسم آخر يهرب منها خوفاً، لأنّ يخشى رؤية المرض من خلالي، فتوقظ فيه هذه الرؤية غمّاً دفيناً، وهو يحاول عبثاً تجاهله. إنّه غمّ أن يُصابَ ذات يومٍ بما أصابني. غمّ قدَرٍ لا حول له أمامه ولا قوّة.”
سلوك المتألّم
إنّ أوّل استراتيجيّات المتألّم هي الانطواء وقطع العلاقات وإيقاف المشاريع والابتعاد عمّا كان ينجذب إليه. فحين يظهر الألم، يظهر بكامله وكأنّه مطلق. ويشعر المتألّم بأنّه ما من شيءٍ يستطيع المساس بألمه، إذ ليس للألم باب ولا نافذة ولا مساحة تسمح للمتألّم بالهروب منه. بالألم يطير صواب الإنسان. فالألم الجسديّ يجعل الوعي في حالةٍ خاصّة لا يستطيع فيها أن يبني شيئاً، بل يباشر بالهدم من خلال الانسحاب. “لكلّ شخصٍ وعي إيجابيّ بجسده ووجهه ويديه … والألم هو لحظة انقطاع لهذا الوعي الإيجابيّ. إنّه عار في وعيٍ يبني نفسه” (عمّانوئيل ليڤيناس).
يشعر المتألّم بالاغتراب عن الذات. إنّه لا يفهم نفسه. فهو الآن غير ما كان عليه قبل أن يتألّم. وعندما يشتدّ الألم، خصوصاً في حالات الألم النفسيّ، يشعر وكأنّ آخر يستولي عليه. آخر غريب يزرع الشقاق في الذات البشريّة، فيجعل جزءاَ من هذه الذات يستسلم لجزءٍ آخر.
وينقلب لدى المتألّم مفهوم الزمن، فيكفّ عن النظر إلى المستقبل، ويجترّ الماضي، فينتخب منه كلّ ما لم يكن يتمنّاه. إنّه يسترجع ذكرى أخطاء ارتكبها، ومواقف كان عليه أن يسلك فيها سلوكاً مختلفاً. ويبدو له الحاضر بلا نهاية والغد بعيداً، ويتحوّل الأنا الوجوديّ إلى أنا متألّم. “أنا أتألّم، إذاً أنا موجود”.
ويتساءل المتألّم في عزلته ويأسه: مَن يستطيع أن يفهمني؟ إنّه يطرح على نفسه السؤال لأنّ كثيرين يحاولون التخفيف عنه فتبدو له كلماتهم خارجة عن الموضوع. لأنّ الألم يشبه الموت، وعلى المتألّم أن يعاني ألمه وحده، حتّى وإن أشفق الآخرون عليه.
وإذ يستحيل على المتألّم أن يفكّر بشخصٍ آخر غير ذاته، يميل إلى الانغلاق والعزلة. ومع ذلك، يشعر برغبةٍ في الاتّصال. فيصبح فريسة هاتين الرغبتين. وإذ يعجز عن التعبير عنهما، يلجأ إلى الإيماء، خصوصاً بوساطة الوجه. فصراخ المتألّم ودموعه انعكاس للشرخ بين الرغبة في التعبير والعجز عن التعبير. وفي هذا الشرخ يُصاغ التذمّر، وينطلق من عمق الذات، ويوجَّه إلى الآخر نداء استغاثة.
ويظهر لدى المتألّم نفسيّاً ميل إلى الطفوليّة. إنّه يرغب في أن يكون محوراً، يستقطب الحديث وانتباه الآخرين واهتمامهم. لذلك يبحث في ذاكرته عن أحداث قديمة، سارّة أو محزنة، فيرويها باستفاضةٍ وتكرار، ليجتذب اهتمام الآخرين أو إعجابهم أو شفقتهم.
حين يعاني شخصٌ ألماً، يُضطرّ في كثيرٍ من الأحيان إلى كبته. فحين يموت شخصٌ عزيز، يشعر الرجل بالعار إذا تمادى في ألمه، وكذلك المرأة. فنظرات الناس وتعليقاتهم تجبر المتألّم على كبت ألمه، وعلى العيش في ازدواجيّةٍ مزعجة. فما يشعر به يختلف عمّا يلاحظه الآخرون فيه.
ويتساءل المتألّم أيضاً: لمَ أنا؟ إنّه لا يطرح السؤال حبّاً في معرفة الإجابة، بل ليتّهم وليعلن أنّه مظلوم. إنّه يطرحه كمن يطالب بحقٍّ مغتصَب. فردّ فعل المتألّم عموماً هو ثورة على الله، على المستشفى، على الأطبّاء، على المؤسّسات، على الأصدقاء، على المجتمع … وهذه الثورة طبيعيّة. فهي تحرّك فيه أهمّ أبعاد حياته، ألا وهي العدوانيّة. إنّها انتفاضة لطعم الحياة فينا. إنّها تهدّئ الروع. فإذا أطلِقَت بدون لجام، تحوّلت إلى حقدٍ ومرارةٍ وسعيٍ إلى الانتقام والأذيّة. يقول أحد المنحرفين، ممّن عاشوا طفولةً بائسة دمّرت حياتهم: “في بعض الأحيان، خصوصاً في الليل، يشتدّ بي الشجن، فأخرج إلى الشارع. وإذا رأيتُ شخصاً يضحك، أهجم عليه وأضربه … لا يحقّ لأحدٍ أن يكون سعيداً وأنا بائس حزين.”
إنّ إدارة الثورة ليست سهلة، لكنّها في الآن نفسه استغاثة مقنّعة، وعلى القريبين من المتألّم أن يدركوها. ففي الألم، يختبر المتألّم الاستسلام والحاجة إلى فهم ما يعانيه. وكما يتساءل الفيلسوف پول ريكور: أليس أوّل معاني الألم هو التحمّل، أي ثبات الرغبة في الوجود، وبذل الجهد من أجل الوجود على الرغم من … الألم.
عن موقع جمعية التعليم المسيحي بحلب