الأم الحنون
الشماس جورج اسكندر
من تراب الأرض البكر، خلق الله الإنسان، وعندما شاء أن يتجسد، ليظهر ذاته، ويفتدي أحباءه كان لابدّ أن يختار أماً بكراً، وكما أنّه في البدء زين الأرض وجملها، وزودها بكلّ الروائع، لتكون مؤهلة لاستقبال الإنسان، فكذلك فعل بالنسبة لأمه.
لقد كانت العذراء، وقد حبل بها بلا دنس تلك الأرض الطاهرة المؤهّلـة، لاحتضان المسيح آدم الجديد.
ولكم يعسر على القلم، أن يصوّر ما حازت عليه مريم البتول من الصفات، فهي من الزنبق أطهر، ومن ثلوج القطب أنقى وأنصع، لقد سكب الله في قلبها من محبته وحنانه، ما جعلها تتفجّر ينابيع للمحبّة والحنان، وشع عليها من نوره، فغدت أمّاً للنور، ونختصر فنقول: أنّها الهيكل الحي للروح القدس الذي ظلّلها. على النقيض من حواء التي قالت نعم للشيطان. فقد قالت أمّنا الطاهرة:
نعم لله.. ونعم للخلاص.. ونعم للفداء
هكذا بدأ مخطط الله الخلاصي في عالمنا، فحملت عروس الروح القدس المسيح في أحشائها، ولمّا تمّت أيامها كانت تبحث في أزقة بيت لحم، عن مكان تضع فيه ابنها، وللأسف لم تجد مكاناً، أو فندقاً يستقبلها.
إنّها ما زالت حتّى اليوم، تبحث في أعماق كلّ إنسان، عن مكان تضع فيه المسيح، وهي تفضل القلوب المؤمنة بالخلاص عرشاً له، فهل أعددنا لملكنا وفادينا قلوبنا، ليستقر فيها..؟
الأم الحنون مع المسيح على درب الجلجلة
تابعت أمنا مشاركتها في سر الفداء بصمت. لقد جاز سيف الحزن قلبها، كما تنبأ بذلك سمعان الشيخ، فحفظت كلّ شيء في قلبها، وكانت تعلم أنّ الفداء يتطلّب منها، هذا القدر من العطاء، فسارت في درب الآلام، إلى أن وصلت إلى الجلجلة، تحت صليب ابنها، وهناك كان عليها أن تتسلّم مهمة جديدة، وعملاً عظيماً. فقبل أن يُتمّ الربّ عمل الفداء، وفي اللحظات الأخيرة فاه بهذه الكلمات الخالدة، فقال لأمه: “أيّتها المرأة، هذا ابنك….”
ثمّ قال للتلميذ الذي يحبّه: “هذه أمك….”
هكذا تسلّمت رسالتها الجديدة، فانطبعت كلّمات الربّ في قلبها الطاهر إلى الأبد، فغدت أماً للإنسانيّة كلّها، تعيش همومها وأحزانها، وتتألّم لآلامها.
الأم الحنون مع الكنيسة في العليّة
لبثت أمنا الحنون مع الرسل في العليّة، تجمع شملهم، وتزرع الرجاء والثقة في قلوبهم، كانت تشاركهم الصلاة بانتظار حلول الروح القدس، وعندما انتقلت إلى السماء لم تنته مهمتها، فقد كانت وما زالت الشفيعة الحنون التي ما برحت تصلي، وتضرع وتطلب من أجلنا جميعاً. وحين كانت تشعر بالخطر الماحق يتهددنا، كانت تهب لنجدتنا فتذكرنا بكلمات الربّ طالبة منا العودة إليه.
هذه هي أمنا الحنون، لقد حاولنا أن نرسم صورة لها، ونحدد بأسطر قليلة رسالتها السامية، التي لا يمكن لمئات الصفحات أن تفيَها حقها.
إنّ هدفنا من ذلك أن نذكّر الغافلين، بأنّ لنا أم نتوجّه إليها، وخاصة في لحظات الحزن والألم والمرض والتجربة. هذه الأم التي وسَع قلبها، فضم البشريّة بأسرها، هي من ينبوع المحبّة, المجرى المترقرق بالحنان والعطاء والحب.
إنّ يديها الطاهرتين تضماننا جميعاً إلى قلبها. فلماذا لا نتوجه إليها، ونضع همومنا تحت أقدامها..؟ فترفعها بصلاة أمٍ لابنها الحبيب.
دعاء القلب للأم الحنون
يا أمنا..! لا ندري كيف نبدأ دعاءنا، لقد صممنا آذاننا عن سماع دعواتك المتكررة، للتوبة والعودة إلى الربّ، وكانت النتيجة ما نراه اليوم من ضعف وانحطاط في أسس إيماننا، ومن إنهيار مريع لقيم الأخوّة، والمحبّة المسيحيّة.
لقد حوّلنا الأرض التي أرادها الرب، أرض سلام ومحبّة ووئام، إلى أرض مزروعة بالحروب، وملتهبة بنيران القذائف.
المياه النقيّة لوَّثناها بمياه المجارير والنفايات، والجو ملأناه بدخان القذائف والحرائق. أمّا القلوب فقد مزّقتها الأحقاد والأطماع، وأعماها الجشع.
هكذا باتت قوى الشرير تعمل بحريّة تامة، بعد أن كثر مُريد الشر وأتباعه.
يا أمنا..! نحن مرضى نشكو من عللنا الكثيرة. لقد استدعينا الأطباء، وجرّبنا كلّ أنواع العلاج، فلم يجدنا الطب والعلاج نفعاً.
إنّنا بحاجة إلى لمسة حنان من أم، تعيد إلينا الرجاء والصفاء والسلام.
إنّنا بحاجة إليك ياسلطانة السموات والأرض، لتعيدي لحمة الأرض بالسماء.
إنّنا بحاجة إليك ياعروس الروح القدس، لتدُكّي عرش الشرير، وتكبليه بالسلاسل، وتحشريه في الزاوية الضيّقة.
إنّنا بحاجة إليك يا سلطانة السلام، لتعيدي السَّلام إلى النفوس وتزرعي القلوب بالإيمإن والرجاء والمحبّة.
إنّنا بحاجة إليك يا أمنا، لتلُمّي شملنا، وتجمعينا في كنيسة واحدة، ضمّينا تحت جناح حنانك صفاً واحداً في استقبال فادينا مجتمعين.
وحّدي قلوبنا، وانزِعي الأحقاد منها، وازرعي فيها محبّة فادينا، ليكون ملكاً وراعياً يتسلّم دفّة حياتنا.
عرس قانا الجليل والعرس الحقيقي
في عرس قانا الجليل كنتِ حاضرة، فتحسس قلبك الحنون حاجة أهل العرس، فقلتِ لابنكِ الحبيب: “لم يبقَ عندهم خمر”.
وكان جواب فادينا له المجد: “مالي ولك أيتها المرأة..؟ لم تأتِ ساعتي بعد”.
لكنّ فادينا الحبيب لم يخيّب رجاءكِ، وقد رأى نظرة الحنان والاستعطاف على وجهكِ فأنتِ دائماً تقرّبين الساعات وتستعجلين الفرج والخلاص.
لقد كانت كلماتك القليلة للخدم، في عرس قانا الجليل، دليلاً لنا يدلنا على طريق الخلاص: “افعلوا ما يأمركم به” هكذا رسمتِ لنا بجملة قصيرة سبيل خلاصنا. نعم، لكي يحوّل الربّ الماء إلى خمر، علينا أن نسلك سلوك أبناء النور، فنسير على درب المسيح، وفي ضوء تعاليمه وأقواله. حينئذ فقط يمكن للعرس الحقيقي أن يبدأ ويستمر، ولكنّنا بدل أن نتبع وصايا الربّ، ونسلك كما يريد تبعنا سبيل الشرير، وهكذا تحوَّل العرس إلى مناحة، والزغاريد إلى ولاويل وعويل ونحيب. واليوم، بعدما وصلنا إلى ما وصلنا إليه، نعود إلى رشدنا، وبتوبة صادقة كالابن الضال، نعود إلى فادينا، فنجثو في كرسي الاعتراف، والندم يمزق أحشاءنا، طالبين الصفح والغفران، فنرجوك يا أمنا، أن تضمي صلواتك إلى صلواتنا، ليستجيب الربّ دعاءنا، ويقبل توبتنا، وبيديه الطاهرتين يحوّل الماء إلى خمر، فيقوم العرس من جديد، فتجف الدموع وتلتئم الكلوم، وينهزم الشر.
حينئذ تنتصر المحبة، ويعود السلام، فيحلّ ملكوت الربّ على أرضنا. هكذا تكون البداية للعرس الحقيقي، الذي سيتوّج بوليمة الربّ الكبرى في الحياة الأبديّة.
عن موقع جمعية التعليم المسيحي بحلب