الأنبا بطرس فهيم مطران ايبارشية المنيا (((( ما بين الوصايا … والوصية )))))
حين يكون الطفل صغيرا، فإنه يكون محط اهتمام أبيه وأمه، وكل الأسرة بطريقة خاصة. فهو في البداية محمول على الذراعين، ثم بعد ذلك يترك تدريجيا، على الأرض ليحبو ثم يتعلم المشي “تاتا … تاتا”، ثم بعد ذلك يتحرك بثقة أكبر. وحين يأتي أوان الخروج من البيت والذهاب إلى الحضانة أو إلى المدرسة، فإن أحد أفراد أسرته يرافقه في البداية حتى يتعود، ثم ما يلبت أن يترك وحده ليعتمد على ذاته. ولكن الوصايا الأسرية لا تفارقه أبدا، فقبل أن يغادر البيت يتلقى الوصايا “أعمل كذا، لا تعمل كذا، تجنب كذا، انتبه لكذا … الخ”. والطفل يتقبل كل ذلك أحيانا برضى، كعلامة اهتمام من الأهل به، وأحيانا بتذمر لأنه لا يريد كبت حريته، إذ يشعر أن هذه الوصايا تمثل قيودا على حريته في العمل والتحرك.
وحين ينضج الابن ويصير شابا يدخل الجامعة أو يتخرج منها ويلتحق بالعمل، فإن الوصايا التي كانت تقدم له، حين كان طفلا قبل كل خروج من المنزل، تبطل وتتوقف، ويكون هناك توجيها عاما أو مشورة عامة تمثل مبدأ أساسيا يبني عليه حياته واختياراته وقراراته التي تمثل شخصيته الفريدة المستقلة، وكثير من الشباب لا يقبل أي تدخل في حياته من أي جهة كانت، لأنه صار رجلا.
هذا التطور في العملية التربوية التي يمارسها الأهل مع أبنائهم، من اجل الوصول بهم إلى شخصية ناضجة مستقلة وناجحة. هو ما يمارسه الله مع شعبه، في علمية تربوية متطورة، ليصل به إلى تحقيق الغاية التي من أجلها خلقه وفداه، ألا وهي أن تكتمل في كل واحد منهم صورة المسيح الابن، وأن يشكلوا في مجموعهم شعب الله، الذي شرفه بالانتماء إليه حين قال لهم “تكونون لي شعبا وأكون لكم إلها”، الذي سيصير بدوره جسد المسيح الحي، أي الكنيسة.
فنجد أن الله خلق البشرية، وحين سقطت في شخص آدم وحواء، اعد لها خطة لتدبير خلاصها وفدائها، فاختار لذلك أشخاصا مثل: إبراهيم واسحق ويعقوب ويوسف وموسى ويشوع والقضاة والملوك والأنبياء. واختار أسرة هي أسرة إبراهيم المؤمن، ويعقوب أبو الأسباط. وولد شعب إسرائيل كجماعة وشعب في حدث خروجهم من مصر، وتحريرهم من العبودية، وعبورهم البحر الأحمر، ومسيرتهم في البرية، وامتلاكهم ارض الموعد. ثم بعد سبي بابل والعودة من السبي، وإعادة بناء الهيكل وتعمير الأرض. في هذه المسيرة رافق الله شعبه بطرق وأساليب عديدة، وأعطاهم الشريعة وخلاصتها في الوصايا العشر، التي منحها لهم كعطية وهبة ونعمة، لتنظم علاقاتهم مع الله نفسه، ومع بعضهم البعض، ومع الشعوب المجاورة. لم يعطهم الشريعة والوصايا كقيود تشل حركتهم، وتعيق نموهم وتطورهم، بل لتنظم حياتهم. وصارت علامة على تحضرهم وتميزهم عن بقية الشعوب.
كانت الشريعة التي أعطاها الله لبني إسرائيل، وخلاصتها في الوصايا العشر، تعتمد على أوامر ونواه، عما يجب أن يعمله بني إسرائيل، وما يجب أن يتجنبوا عمله. هي مرحلة البدايات، التي توازي مرحلة الطفولة في حياة الشخص البشري، والتي فيها يلجأ الوالدان لتوعية أبنائهم من خلال وصايا تتمثل في أعمل كذا ولا تعمل كذا، هي مرحلة طفولة الشعب وشبابه المبكر. حيث لم يكن الشعب وصل في علاقته مع الله إلى مرحلة نضج تسمح لله أن يعطيه وصية واحدة، فيها كل خلاصة الشريعة والأنبياء (متى 22 : 37 – 40). وبعد مرور العديد من القرون، ومن خلال تاريخ طويل كان الله يربي شعبه، وصل إلى المرحلة الحاسمة، وجاء ملء الزمان حيث أرسل الله ابنه الوحيد يسوع المسيح ليعطي شعبه الشريعة الكاملة والواحدة التي تتلخص في وصية المحبة.
وصية المحبة العظمى هي التي أراد أن يتركها السيد المسيح لشعبه ولكنيسته وللبشرية جماء، كخلاصة وملخص كل تعاليم ووصايا الشرائع القديمة والأنبياء. والتي تشير إلى مرحلة من نضج الشعب في مسيرته مع الله، فبعد أن تجسد يسوع وجاء إلى العالم، وكشف عن سر قلب الله، وعمق محبته للبشرية، لم يعد الشعب صغيرا يحتاج إلى وصايا تصاغ في أوامر ونواه، بل وصية واحدة تشير إلى عمق محبة الله للناس، وتشير إلى مستوى نضج من جانب البشر للرد على هذه المحبة بحب كبير، أكبر من كل تشريع ومن كل تعليم ومن كل أخلاقيات، لان الأمر صار على المستوى اللاهوتي وليس فقط على المستوى الأخلاقي.
الوصايا تعبر عن تطور أخلاقي، والتزام روحي أكبر بكثير مما كان معروفا في عصرها. ولكنها لا تعبر عن كل المستوى الذي أراده الله لشعبه، فليست هي نهاية المطاف. إنها توجيهات تلزم شعب العهد، وتنظم سلوكه، ولكنها لا تعطيه كل ما يليق بأبناء الله من حرية. ولا تنبع من أعماق الإنسان الباطنية، التي يسكنها روح الله ويحررها، بارتباط جذري روحي اختبره فقط مع يسوع المسيح في العهد الجديد.
أما الوصية العظمى في العهد الجديد، التي قدمها سيدنا يسوع المسيح للناس فهي: “أحبب الرب إلهك بكل قلبك، وبكل نفسك، وبكل عقلك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والوصية الثانية مثلها: أحبب قريبك مثلما تحب نفسك. على هاتين الوصيتين تقوم الشريعة كلها وتعاليم الأنبياء” (متى 22 : 37 – 40). هنا مراعيا نضج وحرية الإنسان الرب يسوع المسيح لا يقدم أوامرا ونواه، ولا يحد الإنسان في تصرفات فردية، ولا يشعره بأن العلاقة مع الله والناس أمرا مفروضا من فوق، من قوة عليا، بل هو إحساس باطني، وقناعة وجدانية تنبع من الداخل، من عمق القلب والفكر المقدس بالروح القدس، والممسوح بنعمة الله، والمغذى بكلمة الله، والمملوء من مشيئته. لذلك يكون الالتزام في المحبة لله وللناس متجسدا في موقف واحد لطول الحياة، وفي كل شيء، وفي كل علاقة، وفي كل تصرف، وليس مجموعة سلوكيات وتصرفات تأتي واحد بعد الآخر. فليس الإنسان وكرامته وحريته وكيانه مجموعة أفكار وتصرفات متراصة بعضها جنب بعض، أو متوالية بعضها وراء بعض. بل موقف كياني موحد، ومبدأ إيماني ثابت، لا يتغير مع الظروف والأشخاص، مهما كانت ومهما تبدلت.
هذه هي وصية المسيح، وشريعة الروح، وموقف أبناء الله، كما أرادها العهد الجديد، وكما عاشها وعلَّمها السيد المسيح لتلاميذه، ومنهم للبشرية كلها. إنها شريعة المحبة العظمى، التي يكتبها الله في قلب الإنسان لا على الواح من حجر، ولا على ورق بحبر، بل بروح الله في أعماق القلب والوجدان والضمير والروح. فتكون مبدأ حياة وموقف إيمان، لا شريعة سلوك مفروض من قوة خارجية مهما كانت. ولذلك تعاش وتنفذ في كل موقف وفي كل ظرف، بغض النظر عن وجود مراقب، أو قوة ردع خارجية. هذه هي قيم ومبادئ وطريقة عيش الأبناء الأحرار، وليس طريقة العبيد الأشرار. فوصية المسيح العظمى تحدد من نحن كأشخاص في كيانهم وكمالهم كأبناء الله، بينما وصايا العهد القديم، عشرة أو أكثر، تحدد للإنسان ماذا يفعل، وكم هو عظيم الفرق؟
++ جوزيف مكرم … المنسق الأعلامى لأيبارشية المنيا ++