الإيمان فى زمن الوباء ( 4 ) – الطقوس من المشاركة الفعلية إلى الممارسة الروحية
كتب : ناجح سمعان
إذا كان للصلاة الفردية دورها فى تعميق الحياة الروحية الشخصية نحو الاتحاد بالله ، وللصلاة العائلية موقعها الحيوى فى تربية الإيمان وغرس القيم الروحية والانسانية بين افراد الأسرة ، فإن للصلاة الجماعية التى يرفعها المؤمنون بالكنائس من خلال الاحتفال بالطقوس وممارسة الأسرار مكانتها الفريدة فى التعبير عن الإيمان الجمعي الذى يعزز روح الوحدة ، ويشعل فى قلوب المؤمنين الرجاء نحو الحياة الدائمة . أمام حالة الحرمان التى يعيشها أبناء الكنيسة من المشاركة فى الصلوات الطقسية كاجراء احترازى لمنع انتشار عدوى فيروس كورونا بين المصلين ، يضحى توثيق الحدث وتحليله أمر لأبد منه فى السعى نحو القراءة الإيمانية للظاهرة الروحية .
( 1) – الطقوس فى الكنيسة الجامعة :
يعكس التنوع الطقسى فى حياة الكنيسة الكاثوليكية قيمة الغنى الروحى الذى يعيشه ابناء الكنيسة الكاثوليكية شرقا وغربا ويعد المجمع الفاتيكانى الثانى بمثابة نقطة تحول جذرية فى تاريخ المسيرة الطقسية للكنيسة الجامعة فخلال اعمال المجمع ( 1962 – 1965 ) وقراراته اعلن الاب لاقدس خليفة القديس بطرس مع اباء المجمع أهمية ان تعبر الطقوس عن ثقافة الشعوب وتقاليدها فضلاً عن اقرار المجمع امكانية ممارسة الصلوات الطقسية باللغة المحلية لكل طائفة تنضوى تحت لواء الكنيسة الجامعة . عن موقع الطقس فى تربية الايمان لدى ابناء الكنيسة الكاثوليكية كافة كتب اباء المجمع الفاتيكانى الثانى فى دستور ” الطقوس المقدسة ” ما يلى : ” ان الطقوس وهى القمة التى يتجه نحوها عمل الكنيسة ، هى فى الوقت نفسه الينبوع الذى تتدفق منه كل قوتها . إذ ان الاعمال الرسولية تهدف إلى ان يجتمع الكل فى واحد بعد ان يصبحوا ابناء الله بالايمان والمعمودية ، وان يسبحوا الله فى وسط الكنيسة ، ويشتركوا فى الذبيحة ويتناولوا عشاء الرب . والطقوس نفسها تحث بدورها المؤمنين ان يتناولوا الاسرار الفصحية ، على ان يكون لهم قلب واحد فى التقوى . ثم ان تجديد العهد بين الله والبشر فى القربان المقدس يجذب المؤمنين إلى محبة المسيح الملحة ويشعلها فيهم . فمن الطقوس إذن وبخاصة طقس القربان المقدس تفيض النعمة فينا فيضها من نبعها . وبالطقوس يتحقق وبأقصى فاعلية تقديس البشر فى المسيح وتمجيد الله وهذا ما تستهدفه الكنيسة من جميع أعمالها ” .
( 2) – الطقوس فى الكنيسة القبطية :
كان لكنيسة الاسكندرية دورها التاريخى فى الكرازة بالانجيل ونشر التعليم الدينى من خلال مدرسة الاسكندرية اللاهوتية والرهبنة القبطية فضلاً عن اهتمام المصريين بالعلوم والثقافة من خلال تراكم الرقائق الحضارية للعصور الفرعونية واليونانية والرومانية وهو ما تأصل فى الخلفية الفكرية للثقافة المسيحية المصرية وعبرت عنها الكنيسة فى تقليدها العريق وطقسها الثري . عن موقع الطقوس فى الكنيسة القبطية الكاثوليكية يقول نيافة الانبا كيرلس وليم مطران اسيوط للاقباط الكاثوليك ورئيس اللجنة الطقسية بالكنيسة القبطية الكاثوليكية : ” علقت الكنيسة القبطية أهمية بالغة على الطقوس فهى مدرسة الإيمان والاخلاق . من خلالها تعمل على تنمية إيمان ابنائها وتهذيب اخلاقهم ، فاحتلت الطقوس فيها مكانة خاصة ، لا بل جعلت منها كل شئ تقريباً . استخدمت الكنيسة القبطية النصوص الطقسية لاعلان العقائد الاساسية فى مواجهة البدع وبنيت الكثير من المبادئ على الممارسات الطقسية والنسكية . فطقوس الكنيسة القبطية اساساً طقوس رهبانية طويلة تدعو إلى التأمل والصلاة اكثر منه إلى الاستعراض والاداء ، وتساعد على التحليق فى اجواء روحية سمائية “. وأضاف سيادة المطران : ” كما تميزت الطقوس القبطية بأنها طقوس شعبية انطلقت من الحياة اليومية للإنسان العادي فرتبت صلوات لفصول السنة الزراعية نظراً لأن السواد الاعظم من الشعب فى ذلك الوقت كانوا من الفلاحين الكادحين وكانت الطقوس دائماً تقام باللغة القبطية السائدة بلهجاتها المختلفة فى صعيد مصر وباللغة اليونانية فى المدن الكبرى ثم ترجمت تلقائياً إلى اللغة العربية حيث كانت الكنيسة القبطية سباقة فى استخدام اللغة المحلية فى طقوسها ” .
( 3) – روحانية اسبوع الالام فى الطقس القبطى :
تدعو الازمنة الطقسية فى حياة الكنيسة القبطية المؤمنين إلى معايشة الإيمان من خلال التأمل فى احداث حياة الرب يسوع وتعاليمه المقدسة . ويعتبر اسبوع الالام اكثر الازمنة الطقسية زخما حيث تتسم صلواته بالكثرة والعمق معاً . عن روحانية وترتيب صلوات اسبوع الالام يقول الاب انجيلوس شحاته مدرس الطقس بكلية العلوم الانسانية واللاهوتية بالمعادى ومدير مركز التعليم المسيحى بايبارشية اسيوط : ” منذ البداية تعمل الكنيسة من خلال إيمانها على تأوين الخلاص هنا والآن في المكان الذي تجتمع فيه. ولذلك فهذه الصلوات الليتورجية الكنسية منذ القرون الأولى للمسيحية هي تذكارا واحتفالاً بالأحداث الهامة في نهاية حياة السيد المسيح على الأرض مثل دخول المسيح الانتصاري إلى اورشليم كملك وتأسيس سر الافخارستيا والمحاكمة والصلب علاوة على دفن المسيح وقيامته ممجداً. فكل هذه الأحداث التاريخية العظيمة كان لابد للكنيسة ان تجعلها منارة تنير كل طقوسها وعباداتها. ولكن ذلك لا يعني أن الكنيسة منذ القرون الأولى حتى الآن تعيش فقط أحداثا تاريخية وذكريات مضت وتنظر إليها بعين الإعجاب والرضا عما فعله الرب من أجلها ولكنها مدعوة لأن تدخل في السر الفصحي، فما حدث في هذا الأسبوع هو من أجلها ومن أجل خلاصها ودخولها في موت وقيامة الرب. ولذلك تحتفل الكنيسة وتمارس أحداث هذه الأيام المقدسة وهي تتأمل تحقق خلاصها وهويتها ” .
واضاف الاب انجيلوس قائلاً : ” في هذا الأسبوع العظيم وهو أسبوع الآلام أو أسبوع البصخة تعيش الكنيسة إذن من خلال القراءات والطقوس تتبع خطوات السيد المسيح خطوة خطوة وحادثة حادثة في حياته خلال أسبوعه الأخير على الأرض. لا تقرأ الكنيسة فقط بل تعيش مع المسيح ربها ومخلصها ومعلمها ورأسها السري الأحداث وتدخل بحياتها في هذه الأحداث بعمل الرموز والإشارات للاحتفال مثل أحد الشعانين حيث تفرح الكنيسة مع ربها وسيدها وتحزن معه وتتألم معه وتصنع ما صنعه وتموت معه وتقوم معه. وهكذا تمارس الكنيسة مع أبنائها المؤمنين وتعيش وتحتفل في كل يوم من أيام هذا الأسبوع بالأحداث التي تدور حولها كل قراءات اليوم كذلك يزخر الطقس بالالحان الشجية المعبرة عن معايشة الكنيسة لالام الرب وايضا نغمات الفرح التى تعبر عن ابتهاج الكنيسة بقيامة الرب من بين الأموات “.
( 4) – الصلوات الطقسية فى زمن الكورونا :
كان الاحتفال بعيد الصليب فى 19 مارس 2020 هو اخر الاحتفالات الطقسية التى شارك المصلون فيها بالكنائس القبطية الكاثوليكية حيث صدر صباح يوم الجمعة 20 مارس 2020 بيان السينودس البطريركى بايقاف القداسات بكل الكنائس حتى اشعار أخر كاجراء وقائى فى مجابهة انتشار فيروس كورونا . وتبعه الأباء بقرار أخر يوم 3 ابريل 2020 يعلن استمرار ايقاف صلوات القداسات بحضور المؤمنين بكل الكنائس على ان يقوم الاباء الكهنة بالاحتفال به يومياً مع احد الخدام متحدين مع كل المؤمنين فى طلب معونة الله، كذلك أوصى اباء السينودس بأن يقوم الاباء الكهنة بطقوس اسبوع الالآم واعياد القيامة كل فى كنيسته ويكون الاحتفال قاصراً عل رعاة كل كنيسة مع اثنان أو ثلاثة من الشمامسة والمرتلين بدون حضور المؤمنين . أمام هذا المشهد النادر الحدوث فى تاريخ الكنيسة يقول نيافة الانبا كيرلس وليم مطران اسيوط ورئيس اللجنة الطقسية بالكنيسة القبطية الكاثوليكية : ” يحل علينا هذا العام اسبوع الالآم المحيية اقدس ايام السنة الطقسية فى وسط ظروف قاسية ، يعانى منها العالم بأسره ، تدعونا إلى تحمل التضحيات إذ نشعر بمرارة شديدة لعدم تمكن المؤمنين من المشاركة فرحة ونعمة هذه الأيام المليئة بالتعزيات ” . وأضاف سيادة المطران : ” كم هو شديد وقع تلك المحنة على المؤمنين وعلى الرعاة ايضاً عندما لا يرون ابنائهم يملأون الكنائس ويرددون الألحان ويتقدمون لقبول الأسرار المقدسة ، ولكن هذا شأن جميع كنائس العالم شرقاً وغرباً . سوف تبث الاحتفالات الطقسية عبر العديد من وسائل الاتصال الاجتماعية ، ويمكن لأبناء الكنيسة متابعتها من بيوتهم ومن ثم المشاركة عبر الاتحاد فى الصلاة وفعل المناولة الروحية .اننا نقبل من الرب القيام بهذه التضحية ونتبع توجيهات أمنا الكنيسة والسلطات المدنية حفاظاً على ارواحنا وارواح جميع ابنائنا إلى أن نعبر هذه المحنة بسلام فنتمم فى اجسادنا ما ينقص من الآم المسيح .
واختتم الأب المطران بقوله : ” إن الصليب الذى حمله يسوع المسيح عنا أجمعين كان أثقل بكثير ، وبقوة صليبه انتصر على الخطيئة والموت وهذا سبيلنا نحن ايضاً متى حملنا صليبنا بصبر وقبول فسوف ننتصر على جميع الالآم والمشقات والصعاب بما فيها هذه المحنة ، ونفرح معه ومع بولس الرسول نردد ، نشاركه فى الآمه لنشاركه ايضاً فى مجده واثقين ان الآمنا فى هذه الدنيا لا توازى المجد الذى سيظهر فينا ( رو 8 / 17 – 18 )” .