stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

كتابية

الابنين، والكرامون القتلة-د.الأب /كميل وليم

921views

download (5)

إن مثل الابنين هو أول ثلاثة أمثال متتالية تحاول شرح مسألة رفض الإنجيل من جهة من كان عليهم قبوله قبل غيرهم. كيف يجب شرح هذا الأمر؟ تقوم الأمثال على خلفية الدهشة البالغة لرفض مزدوج: رفض اليهود الممارسون المتدينون وممثلو وعلماء الشريعة يسوع، بينما قبله الشعب؛ ورفض اليهود بشارة الإنجيل بينما قبلها الوثنيون. وتتداخل، في هذه الأمثال، فترتان زمنيتان مختلفتان: فترة ترجع إلى زمن يسوع المسيح، والفترة الأخرى تعود إلى زمن الكنيسة الأولى. وجدير بالذكر أن هذا الأمر يتكرر في معظم الأمثال. إنه تداخل في محله حيث أن المنطق الذي يسود الفترتين هو ذاته.

يمتاز كلام يسوع (مت28:21-32) بالحبكة الروائية: يروي المثل ويدفع السامعين دفعاً إلى إصدار حكم ثم يطبق هذا الحكم على من أصدروه. يتكوَّن المثل من لوحتين متناقضتين تماماً: رفض يتحوّل إلى قبول، وقبول يتحوّل إلى رفض. يخاطب يسوع في هذا المثل، كبار الكهنة والشيوخ »ودخل الهيكل، فدنا إليه عظماء الكهنة وشيوخ الشعب« (مت 23:21) الذين كانوا يسألونه عن السلطان الذي به يعمل ويعلِّم. إنه سؤال استفزازي وربما يكون مصطنعاً، لأن هؤلاء كوّنوا رأيهم الثابت فيه.

هذا هو الموقف الذي يصر عليه إنجيل القديس متى: حكم الكهنة والشيوخ المسبّق على يسوع. ولكن ما هو سبب ودافع هذا السؤال؟ هل أراد الإنجيلي أن يخبر مستمعيه وقرائه بما حدث ليسوع أم أنه أراد أن يحثهم إلى التحقق من إيمانهم؟ إن الدافع ليس هو مجرد إعطاء الخبر: تتصف الأناجيل بقيمة تاريخية عالية ولكنها لا تهدف إلى مجرد الإخبار عن الماضي بل بالأكثر إلى تغذية الإيمان. كما أن الإنجيلي يدأب على إظهار المقاومة ليسوع ورسالته، سواء أكانت هذه من الفريسيين أو من السلطات أو من غيرها.

يتكرّر المشهد مع اختلاف أبطاله والمضمون هو: المؤمن “الشكّاك” إن ما حدث في زمن يسوع قد يحدث الآن، في أيامنا، هذه هي رسالة الإنجيل وبالتالي قد يتحوّل رفضنا إلى قبول أو قبولنا إلى رفض لذات الأسباب. للمثل إذاً وجهان. على أيهما يجب التركيز؟ إذا توجّه المثل إلى الصدِّيقين الأبرار فإنه ينبههم أن قبولهم قد يتحوّل في أيّة لحظة إلى رفض، أما إذا توجّه إلى الخطأة فإنه يطمئنهم أن فرصهم مازالت قائمة: يمكن يتحوّل رفضهم إلى قبول.

يبدو أننا أمام مثل حلزوني! يصدق هذا في حالة واحدة وهي قراءة المثل وحده، دون وضعه في سياقه. أمّا إذا قرأنا المثل وفسّرناه في السياق الذي أراده له الإنجيلي لأصبحت توجهاته (المثل) متعددة: يتوجّه المثل إلى الصدِّيقين لكي يحدثهم عن الخطأة ويقول لهم إنهم أفضل منكم! ويتضح ذلك من عبارة: »ولكنه ندم بعد ذلك فذهب« (مت29:21).

يعني الفعل اليوناني المستعمل ميتامولوماني للإحساس بالندم إعادة التفكير. ويمكن استنتاج تعليم أولي من فارق تصرّف الأخوين: لا قيمة للأقوال بل للأعمال. وليس هذا الأمر بجديد على إنجيل القديس متى. لقد تناوله بتوسّع في ختام حديث يسوع على الجبل وبالتحديد في (21:7-27). ولكن تقليص المثل على هذا التعليم هو شيء غير كامل لأن يسوع يختم المثل قائلاً: »الحق أقول لكم إن العشارين والبغايا يتقدمونكم إلى ملكوت الله« (مت 31:21ب).

إنها كلمات قاطعة وشديدة ترجع إلى يسوع المسيح نفسه. إن هذه الكلمات لا تعني أن كل الخطأة سيدخلون ملكوت السموات ولا تعني أنه لن يدخله أي فريسيّ. لا تعبّر هذه الكلمات عن مبدأ ثابت أو حقيقة عامة بل تصوّر واقعاً محدداً عاشه يوحنا المعمدان ويسوع المسيح. كانت خبرة فريدة ولكنها غير مقصورة على مكان واحد وزمن بعينه: قد تتكرّر هذه الخبرة في أي مكان وأي زمان. لذلك يذكّر إنجيل القديس متى الجماعة بهذه الخبرة.

يوحنا المعمدان ويسوع المسيح

بعد أن روى يسوع المثل وطبّقه على مستمعيه يروي ما حدث ليوحنا المعمدان: »فقد جاءكم يوحنا سالكاً طريق البر فلم تؤمنوا به. وأمّا العشارون والبغايا فآمنوا به« (مت32:21). وعندما يتكلم يسوع عن يوحنا المعمدان فإنه يتكلم عن ذاته. فيوحنا المعمدان هو مجرد مثل، لقد قابل يسوع أناساً أبراراً ومواظبين على الصلاة وبالتالي مؤمنين في نظر الجميع، ولكنهم رفضوه. بينما قابل أناساً خطأة في نظر الآخرين ولكنهم قبلوه، هناك العديد من الأمثلة التي توردها الأناجيل. حتى يبدو أنها الخط الرئيسي له: لاوي جابي الضرائب، زكا، المرأة الزانية، اللص اليمين، ومن الجانب الآخر الفريسيون والكهنة، والشاب الغني.

قلنا إن يسوع، عندما يتكلم عن يوحنا المعمدان فإنه يتكلم عن ذاته. ولكننا الآن نصحح ونقول إنه يتكلم عن الله. إن الآب في المثل هو بدون شك، تصوير لله. يوحنا المعمدان، يسوع المسيح، الآب: تكرر تصرّف هؤلاء تجاه يوحنا المعمدان مع يسوع المسيح، والتصرف مع يسوع المسيح هو مرآة صادقة تعكس تصرف الإنسان تجاه الله. إن رفض يسوع المسيح هو رفض لله. ويتحوّل كلام يسوع، في النهاية إلى صيغة المخاطب للجمع، وبذلك يتوجّه بالحديث إلى كل المستمعين: »وأنتم رأيتم ذلك، فلم تندموا آخر الأمر فتؤمنوا به« (مت 32:21ب). إن التناقض هنا ليس تناقضاً بين الأخوين، بل بين الأخ الذي »ندم بعد ذلك فذهب« وبين مستمعي يسوع. الذين ولا حتى »آخر الأمر« ندموا. ويقول يسوع »وأنتم رأيتم« ولكنه لا يحدد ماذا رأى هؤلاء. ولم يؤمنوا إنه لا يعلن صراحة ما يعنيه وهو بشارة وحياة يوحنا المعمدان ويسوع نفسه. كانت لديهم كل الفرص لإعادة التفكير وتغيير الحياة، ولكن هذا، للأسف، لم يتم! مثل الكرامون القتلة (مت 33:21-45) 

إن مثل الكرامين القتلة في إنجيل القديس متى قريب جداً منه في إنجيل القديس مرقس، لذلك نكتفي بما يضيفه إنجيل القديس متى من تعليم. إن أهم ما يميّز المثل في إنجيل القديس متى هو موقعه: يضع إنجيل القديس متى هذا المثل بين مثل الابنين (28:21-32) ومثل وليمة الملك (1:22-14) وبذلك يجعل منه مركزاً لحديث طويل عن رفض الملكوت والدينونة الناتجة عن ذلك. إن رفض الإنسان ليسوع هو قمة موقف هذا الإنسان، وهو أمر واضح وموقف مبدئي وليس مجرد حدث عارض. لقد سبق هذا الرفض، رفض تعليم الأنبياء ورفض رسالة يوحنا المعمدان ويليه رفض بشارة الكنيسة.

تتعرّض أعمال الله كلها لهذا المصير. يستلهم إنجيل القديس متى هذا المثل، كما فعل إنجيل القديس مرقس، من نشيد الكرم (أش5)، ولكن المثل يبتعد فجأة عن خط أشعيا النبي. إن أعمال الله، وكذلك أعمال الإنسان، فريدة وليست نسخة مكررة من أعمال تمت في الماضي. انتظر رب الكرم في نبوة أشعيا عنباً جيداً ولكن الكرم أثمر حصرماً برياً.

لا يدور موضوع هذا المثل في الأناجيل حول نوعيّة العنب إن كانت جيدة أم رديئة إنما يدور حول رفض حقوق رب الكرم. لا يريد الكرام الاعتراف برب الكرم سيداً له. إنهم يتصرفون كما لو كان الكرم ملكاً لهم هم وبالفعل كان رفض الأنبياء ومن بعدهم رفض يسوع المسيح ليس مجرد خطيئة عادية بل خطيئة من يقيم نفسه رباً وبدلاً من أن يصغي لله الذي يتكلم بفم الأنبياء يغتصب لنفسه حق الحكم والدينونة، وهو خاص بالله وحده. إنهم يقيمون أنفسهم قضاة حتى على الكلمة الإلهية ذاتها.

هذا الموقف هو سبب رفض الأنبياء. ويزداد هذا الأمر وضوحاً تجاه الابن: “هوذا الوارث هلم نقتله ونأخذ ميراثه” (مت 38:21). هناك، إذاً، دافع آخر لقتل الابن: كونه الابن. ربما تندهش أمام قسوة هؤلاء الكرامين: ضرب، قتل، رجم… كل أنواع العنف!. ولكن أشد أنواع العنف وأقساها يقع على الابن: «فأمسكوه وألقوه في خارج الكرم وقتلوه» (مت 39:21).

ونلاحظ فرقاً بين إنجيلي القديسين مرقس ومتى: فالأول يقول إنهم قتلوه أولاً ثم ألقوه خارج الكرم (مر 8:12) بينما يقلب الثاني الترتيب أي «أخرجوه خارج الكرم وقتلوه». إن قلب الترتيب هذا لا يرجع إلى محض الصدفة: إنه مقصود إذ يوحي به الكاتب لقرائه صورة جميلة: «أخرج اللاعن إلى خارج المخيم، وليضع كل من سمعه أيديهم على رأسه، ولترجمه كل الجماعة» (أح 14:24؛ عد 35:15-36، تث24:22). إن القتل بعد الجر خارج المخيم أو المدينة هو مصير اللاعن والزاني. لقد تمّ سحب إسطفانوس خارج المدينة ثم تمّ رجمه (رسل 58:7). وهذا هو نفس مصير يسوع كما يرد في الرسالة إلى العبرانيين «لذلك تألم يسوع أيضاً في خارج الباب ليقدّس الشعب بذات دمه» (عب 12:13).

يبدأ المثل في إنجيل القديس متى بفعل أمر: «اسمعوا» وينتهي بسؤال: «فماذا يفعل رب الكرم بأولئك الكرامين عد عودته؟» (41:21) يطرح يسوع السؤال في إنجيل القديس مرقس، ويعطي هو نفسه الإجابة عليه. أما في إنجيل القديس متى فيطرح يسوع السؤال ويجيب معارضوه. يبدو السؤال ساخراً ولكنه في محله. يعطي معارضو يسوع رداً صحيحاً إلا أنهم يعجزون عن استخلاص النتائج المترتبة على ذلك. لا بل إن الحقيقة التي يعلنها يسوع والتي لا يستطيعون إنكارها تزيد من إثارتهم وثورتهم لسببين: لأنها حقيقة ولأنها تمسهم هم مباشرة. وتتعلق عبارات يسوع الأخيرة (مت 42:21-44)، التي يختلف فيها إنجيل القديس متى عن إنجيل القديس مرقس، بالدينونة. إنها دينونة متعددة الوجوه. إن الحجر الذي رذله البناءون، أي الرؤساء، معتبرينه غير صالح هو الحجر الذي اختاره الله ليكون حجر زاوية. ليست هناك طريقة أكثر وضوحاً ومباشرة لفضح ادعاءات هؤلاء الرؤساء الذين أعطوا أنفسهم الحق في الحكم على يسوع ورسالته ورفضهما أكثر من هذه الطريقة الساخرة. لا يتوقف الأمر هنا بل سيكونون شهود عمل إلهي يقلب كل معارضهم رأساً على عقب. سيُنـزع منهم ملكوت الله ويُعطى للأمم وهي التي تستثمره أفضل منهم. يرد الفعلان في المبني للمجهول. وكما هو معروف فإن نائب فاعل المبني للمجهول الإلهي هو الله نفسه: فهو الذي ينزع وهو الذي يعطي. هنا أيضاً تستثر سخرية رقيقة: يمنح الله الملكوت إلى الأمم، الذين يدينونهم هم رؤساء الشعب بشدة ويعتبرونهم خارجين مبعدين عنه.

الله هو الصخرة المخلِّصة ولكنه قد يكون هو أيضاً الصخرة التي تسقط على الإنسان وتحطمه: «فيكون لكم قدساً وحجر صدم وحجر عثار لبيتي إسرائيل وفخاً وشبكة لساكني أورشليم» (أش14:8). ينطبق هذا على المسيح: إنه المخلص وفي نفس الوقت الديّان، جاء لكي يخلص وسيأتي ليدين. الحجر الذي يهشم من يقع عليه هو صورة رمزية للدينونة الأخيرة: ولكن التهديد هنا ليس موجهاً فقط لرؤساء الكهنة والفريسيين بل للجميع بما فيهم نحن المسيحيين. 

عن مجلة صديق الكاهن