البطريرك ابراهيم اسحق المحبة أقوى من الموت
ترأس غبطة البطريرك الأنبا ابراهيم اسحق برطريرك الأقباط الكاثوليك ، بمشاركة الأنبا يوحنا قلته، النائب البطريركي للكنيسة الكاثوليكية . القداس الألهى الذي اقيم بمناسبة الاحتفال بعيد القيامة المجيد . حيث اقيم القداس فى كاتدرائية السيدة العذراء بمدينة نصر .
وبداء العظة بأننا نحتفل اليوم بعيد قيامة السيد المسيح من بين الأموات، التي هي مركز الإيمان المسيحي وقلب الإنجيل وخلاصته. قام المسيح لننال نحن ثمار خلاصه وفدائه أي غفران خطايانا والحياة الجديدة في الروح القدس.
يخبرنا الإنجيل بأننا محبوبون من الله وأن حبه لا ينتهي بالموت بل يذهب لما هو أبعد منه، فالموت لا يعيق حب الله أو يعرقله. يقول سفر نشيد الانشاد “الْمَحَبَّةُ قَوِيَّةٌ كَالْمَوْتِ” (8/6). ولكن قيامة المسيح تثبت أن حب الله أقوى من الموت. فنحن ننعم بالطمأنينة والأمان فيه لأنه حب بلا حدود. فمغفرته تجعل، بما لا يقبل الشك، أن خطايانا قد غرقت في حبه، والقيامة تكشف أن حبه قد تفوق على موتنا. فأن تقول لشخص “أنا أحبك”، يعني أنك تقول له “لن تموت” هكذا يقول الفيلسوف جبريل مارسال.
وحدها المحبة الحقيقية تعطي معنى للحياة، ووحدها قيامة المسيح تؤكد انتصار الحب على الأنانية.
أولاً : محبة المسيح القائم تعطي معنى للحياة
هناك كلمات مضيئة لا يخلو منها أي قاموس بشري: مثل السعادة الحرية العدل الجمال الخلود وغيرها. إلا أنها جميعها تبدو بالنسبة إلى “المحبة”، كما تبدو الكواكب بالنسبة إلى الشمس. فالمحبة هي الشمس التي بدونها كان العالم ظلامًا في ظلام. وحده الرب يسوع لم تكن شمس محبته تغيب.
والمحبة عند يسوع ليست فعلاً شكليًا يقتصر على الكلام اللطيف والمجاملة تجاه الإنسان، بل هي محبة واعية باذلة منزهة عن الأغراض والمصلحة الشخصية، وهذه المحبة ركن أساس في حياة يسوع وتعاليمه. فها هو يقول لتلاميذه : “وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا”. (يو13/34).
إن الله قريب من الإنسان منذ أن خلقه، وقد التزم محبة الإنسان منذ أن أوجده، وبالتجسد أصبح الله أكثر قربٌا ليجدد الإنسان ويشفيه ويشركه في حياته الإلهية.
وقد اظهر يسوع بنوع فائق رحمة الله ومحبته، فكان يجول يصنع خيرًا ولا سيما للفقراء والضعفاء والمنبوذين. وكان يجلس مع الخطأة والعشارين ويتناول الطعام معهم، ولم يكن هذا تعبيرًا عن سعة أفكاره الاجتماعية، وعن تفهمه البشري لضحايا المجتمع بقدر ما هو تعبير عن بدء تحقيق ملكوت الله، الذي هو ملكوت المحبة والمسامحة والخلاص.
وحتى خطيئة الإنسان لا توقف محبة الله ورجاءه فيه.لأنه يعرف أن الموقف السلبي عند الإنسان سوف يتحول إلى موقف إيجابي، وأن الظلمة التي فيه ستتحول إلى نور. حكم الجميع على المرأة الخاطئة وزكا العشار والمراة السامرية، بأنه لا رجاء فيهم، ولكن يسوع أحب كل شخص منهم كما هو، لا كما يتصوره الآخرون.
نحن نحب فقط ما هو ظاهر في الإنسان، قدرات ومواهب وجمال وما قد يوفره لنا من رضى، لذا فإن محبتنا مشروطة وتنتهي سريعًا. أما محبة الله المجانية غير المشروطة للإنسان، فتمنحه الثقة وتساعده كي يُولد من جديد، لأن المحبة الحقيقية هي التي تساعدنا أن نتصالح مع أنفسنا، فنخرج من الظلمة إلى النور، وننتقل من الموت إلى الحياة.
لم يكتفِ الرب يسوع أن يطلب إلى تلاميذه أن يحبوا بعضهم بعضًا بل أوصاهم قائلًا: “أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ” (متى 5/44)، وأن تكون محبة الأعداء هي العلامة المميزة لهم، لأنها العلامة المميزة للآب السماوي “فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ.” (متى 5/45). تلك المحبة التي تقوم، لا على إقامة الحواجز وتدمير الآخرين بحجة أنهم أعداء وأثمة، بل على رفع كل حاجز يفصل الإنسان عن أخيه الإنسان، والإنسان عن الله.
وقد تجلت هذه المحبة طيلة حياة الرب يسوع على الأرض، وبلغت أقصاها عندما غفر لقاتليه “يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ” (لو 23/34).
ثانيًا: محبة المسيح القائم تنتصر على الأنانية
أتاح لنا يسوع أن نكتشف المحبة الحقة التي لا تقوم إلا على العطاء، ويسوع لم يعط فقط أشياء، إنما أعطى ذاته طيلة حياته لخدمة البشر. ولكن بقي أن يُزال الحاجز الذي أقامته الخطيئة في صميم الإنسان بينه وبين خالقه. هذا الحاجز هو انغلاق الإنسان على ذاته دون الله، هو عبادة الأنا التي حكمت على الإنسان بعزلة مميتة.
لذلك كسر يسوع هذا الحاجز بأن داوى أنانية الإنسان بالانفتاح الكامل والعطاء الكامل، فقد أخلى ذاته آخذًا صورة العبد (فيلبي 2/7)، وأراد أن يخدم لا أن يُخدم (متى 20/28)، أن يبذل لا أن يأخذ. وبلغ هذا العطاء قمته في بذل حياته على الصليب، “لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ” (يو 15/13)، وهكذا أعطى المسيح البشرية الدواء الشافي للأنانية التي فصلتها عن الله. فالحب الذي تثيره فينا محبة المسيح المبذولة لنا حتى الموت، يساعدنا على التغلب على الخوف الذي يحول دون تقدمة ذواتنا.
لم يتهرب يسوع من الألم والموت ولم يتراجع بل بقى أمينًا لرسالته حتى الموت. ولم يكن بإمكان الموت أن يضبط سيد الحياة ومصدرها. هكذا انتصر المسيح على الموت عندما اجتاز ظلمته، “بموته داس الموت” كما تنشد الكنيسة.
أحرز يسوع هذا الانتصار من أجلنا نحن لكي يجعلنا مساهمين فيه. نعم، إننا لا نزال نخطأ ونتألم ونموت ولكن طاقة الحياة الظافرة زُرعت في أعماقنا. نحن منتصرون بقدر اتحادنا بالمسيح القائم.
وهكذا يمكننا أن نعيش فرح القيامة، ونشعر بنبضات الحياة تدب في عروقنا، عندما نصرّ على مواصلة العيش بأمانة وكرامة رغم ما نتعرض له من ضغوط واحباطات؛ عندما نحافظ على ضمائرنا حية ونقية رغم إغراءات الانحراف التي تضغط من كل جانب؛ عندما نسعى للوقوف إلى جانب الناس الأكثر احتياجًا دون النظر إلى المصلحة أوالدين أو الجنس؛ وأخيرًا عندما ينظر كل منا إلى حياته الشخصية، وكم من مرة تعثّر وسقط في اليأس والإحباط، وقام من سقطته أقوى من ذي قبل.
ختاماً
نرفع صلاتنا متحدين مع قداسة البابا فرنسيس الذي يصلي من أجل شرقنا العزيز ومع إخوتنا بطاركة وأساقفة كل الكنائس التي ترتل معنا هذا المساء النشيد الخالد : قام المسيح ، بالحقيقة قام .
ومن هذه الكنيسة باسمكم جميعاً ، نبعث إلى السيد الرئيس عدلي منصور رسالة المحبة واالتقدير، وإلى قواتنا المسلحة ورجال الشرطة وإلى كل شرفاء هذا الوطن الذين ضحوا بحياتهم لأجل مصر، فدماؤهم هي بذور الرجاء والثقة وجسر العبور إلى مستقبل أفضل لوطننا الغالي مصر.
أيها المسيح الحي القائم،
أقمنا معك لحياة جديدة، أقم عقولنا إلى نور الإيمان،
أقم إرادتنا إلى طريق الخير والرجاء، أقم قلوبنا إلى الشركة والمحبة أمين.
قام المسيح .. حقاً قام
+ الأنبا إبراهيم اسحق
بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك
بعض صور القداس