stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

روحية ورعوية

التنشئة الإنسانيّة أساس وقاعدة الخدمة الرسوليّة

960views

forالتنشئة الإنسانيّة أساس وقاعدة الخدمة الرسوليّة

ترجمة بتصرف الأب/ ميشيل ليبورديه عن أوراق تكوينية للبرادو العالمي

أولاً: التنشئة الإنسانيّة هي أساس التنشئة الكهنوتيّة

عندما يتكلّم الإرشاد الرسولي “أعطيكم رعاة” عن البعد الإنسانيّ في تنشئة الكهنة، يؤكّد بوضوح: “بدون التنشئة الإنسانيّة اللائقة، تفقد التنشئة الكهنوتيّة أساسها الجوهري”. تُعبّر الرسالة عن إحدى المعطيات الأساسيّة التي يسندها المنطق، وتؤكّدها الخبرة اليوميّة، بل تعتبر التنشئة الإنسانيّة مطلب عميق وضروري في حياة الكاهن وخدمته .

إن الكاهن مدعو ليكون صورة حيّة ليسوع المسيح الرأس، وراعي الكنيسة. لذلك يجب على الكاهن أن يسعى ليمثّل بقدر الإمكان هذا الكمال الإنسانيّ الذي يتجلّى في شخص ابن الله، الذي صار بشرًا. يظهر هذا الكمال بفاعلية خاصّة خلال مواقف الكاهن تجاه الآخرين. في علاقة الكاهن مع شعبه، عليه أن يكوّن شخصيته الإنسانيّة ليصبح جسرًا وليس حاجزًا، حتى يلتقي الشعب بالمسيح فادي الإنسان. وهكذا تصبح خدمته أكثر مصداقية وأصالة. إن التنشئة على الحياة الجماعيّة لها أهمية قصوى، وهي عنصر جوهري في تنشئة الذين دعاهم الله ليكونوا مسئولين عن جماعات، إنهم رجال الشركة، وأعضاء الجماعة الكهنوتية الإيبارشية، وما يوحّد بينهم هو الأخوّة الأسرارية الكهنوتيّة.

يجب على الإكليريكيين أن يكتسبوا مجموعة من الصفات الإنسانيّة الأساسيّة لتكوين شخصية متوازنة ومتينة، وحرّة قادرة على تحمّل عبء المسؤوليات الرعويّة. وهذا ليس من أجل أن يصلوا إلى نضوج أو انشراح قلب فقط، ولكن أيضًا في سبيل الخدمة ذاتها وعلاقاتهم مع الآخرين. ونعطي أهمية لهذه المسألة لسببين:

1- وراء المشاكل العديدة التي نواجهها في تنشئة الإكليريكيين، أو في أزمات الكهنة نجد مشاكل تتعلّق بالتنشئة الإنسانيّة كتصرّفات طفولية وعدم نضوج عاطفي وخلل في توظيف الطاقة الجنسيّة.

2- بالإضافة إلى مشاكل الهوية، هناك أشخاص يميلون للصراعات، وأشخاص يسببون الصراعات عاجزين عن السيطرة على حريتهم، مع نقص كبير في الصفات الإنسانيّة الضرورية للخدمة الكهنوتيّة.

بأي واقع تتجذّر هذه المشاكل؟

عمليًا نجد أن بعض الأسر مفكّكة، والبيئة الاجتماعيّة تعاني من مشاكل الحداثة وما بعد الحداثة. هذا الواقع الإنسانيّ يعرقل عملية التنشئة. 

كيف نبني الإنسان المسيحي والكاهن في واقع بشري مفكك كهذا؟

كيف نساعد الشاب أو الشابة على الدخول في حيوية (دينامية) التلميذ الرسول ليسوع المسيح، خاصّة عندما يحول الواقع السائد دون تحقيق هذا؟

يجب أن نوضّح شيئًا: عندما نتكلّم عن التنشئة الإنسانيّة كأساس كل التنشئة الكهنوتيّة الرسوليّة، فإننا لا نفصلها عن الأبعاد الأخرى في عملية التنشئة، وهي الأبعاد الروحية والرعويّة والفكريّة، لأن هذه الأبعاد لا يمكن أن تنمو إلا معًا وبالتفاعل بينها، لأن الواقع الإنسانيّ والمسيحيّ هو واقع شامل. لذلك يجب على التنشئة الكهنوتيّة أن تكون متضمّنة كل الأبعاد الأخرى، وهي تتلاقى حول هدف واحد.

ثانيًا: معطيات أساسية

كل مسيرة تنشئة تفترض معرفة مبدئية بعلم الإنسان، وطريقة لفهم هذا الإنسان والواقع الذي يعيش فيه. أما نحن فننطلق من التلخيص لعلم الإنسان الذي عرضته وثيقة “فرح ورجاء” في التمهيد والفصلين الأولين من الجزء الأول. ومن هذه النصوص نستخلص النقاط التالية:

* الشخص الإنسانيّ:

o كائن واعٍ حر، مدعو إلى النمو في هذا الوعي الذي يقوده إلى السيطرة على نفسه، ويقوده إلى الحريّة التي تفتح له طريق المسئوليات.

o كائن منقسم داخله، يتأرجح في اتجاهات مختلفة ومتضادة  تارة يتقدّم وتارة يتأخر، حائر بين: الفضيلة/ الخطيئة، الحب/ الأنانيّة، يقظة الضمير/تبلّد الضمير، الحريّة/ العبوديّة… وأخيرًا يتقدّم بقدر ما ينجذب إلى القطب الإيجابي دون أن ينفي السلبيّ.

o كائن مدعو إلى أن يختبر العلاقة مع الأشخاص كميدان للنمو والانشراح، لأنه يبذل نفسه من أجل الآخرين، ويغتني بفضلهم .

o كائن قادر على تخطّي ذاته، وينفتح على الأمور الإلهيّة، وحتى يشعر أنه محبوب من الله، فهو بدوره يحب الله. إن سر الإنسان لا ينجلي كما يجب إلاّ في الكلمة المتجسّد، الذي أعلن سر الآب وحبه، وكشف له عن سمو دعوته . لا يمكن أن ننسى هذه المعطيات الأساسيّة في أي مشروع لتنشئة الإنسان.

ثالثًا: المضمون (المحتوى)

ما هي العناصر الرئيسيّة التي نبرزها في التنشئة الإنسانيّة؟

ما هو الطريق الذي نتبعه؟ ونلخص الرد على هذين السؤالين بأربع نقاط.

أ- معرفة الذات

الهدف الأوّل لكل مسيرة تنشئة هو معرفة الذات، وأول خطوة لتحقيق هذه المعرفة هي أن نساعد الشخص على أن يعي مشكلته الأساسيّة، التي تحول دون بذل ذاته بحريّة وشموليّة. وهناك ما هو أهم من ذلك: إن عمليّة معرفة الذات هي عمليّة شاملة تهدف إلى أن يقبل الشخص ماضيه كجزء من حياته، بكل إيجابيات هذا الماضي وسلبيّاته، حتى يعترف ويقدّر الأولى، ويجد معنى للثانيّة.

إن غاية قراءة الماضي هذه، ليس فقط اكتشاف بعض المعطيات المفيدة، لكي نعرف جذور وسوابق الحاضر، وليس فقط أن نتصالح مع بعض عقد الماضي، بل هي تذهب إلى أبعد من هذا: إن غاية قراءة الماضي هي اكتشاف المعنى الفريد لتاريخ كل إنسان، وهذا التاريخ لا يتكرر، وكلما تقدّمنا في هذه المسيرة تتضح هذه المعرفة، وتظهر التفاصيل تدريجيًا. والأمر هنا هو المعنى المُضمر (المخفي) لكل حدث، أحيانًا نقدر أن نجد معنى بسهولة، وأحيانًا يكون من الصعب اكتشاف المعنى. وهذه مهمّة صعبة، لكنها ضروريّة، حتى يفهم الشخص أن تاريخه يحمل المعنى المخفي للأنا، وأن هذا التاريخ ليس مجرّد تسلسل أحداث لا يمكن محوها، ولابد أن نتحمّلها، وفي أفضل الأحوال نقبلها، ولكن الأمر هو سرّ يجب أن نغوص فيه ، وحضور علينا اكتشافه، وهكذا ينفتح البعد الإنساني تلقائيًا وتدريجيًا على آفاق جديدة: الإيمان.

يتّضح التاريخ الشخصي تدريجيًا كتاريخ خلاصي، وهكذا تصبح الحياة الشخصيّة الإطار الذي نتصرّف فيه تصرّفًا أكثر نضوجًا وإبداعًا. هكذا نكتشف آثار سرّ الله في ماضينا الشخصي. إن الهدف ليس فقط أن نعرف أنفسنا، والثغرات التي بداخلنا، بل أن نعرف ونكتشف إن تاريخ الشخص يدل على بداية علاقة جديدة مع الله والآخرين. هذا التمرين لذاكرتنا المؤمنة لا يتم مرة واحدة أو فجأة، بل يجب أن يستمر في تعميق المعرفة طوال المراحل المختلفة لتنشئتنا. يجب أن نُعدّ الشخص لكي يواجه، بانتباه واحترام، ماضيه مع وجود عليقة مشتعلة ولا تحترق. لأن حضور الله في حياته لا ينطفئ أبدًا. وانطلاقًا من هذا يمكن أن نعتبر أن النضوج الإنساني هو المرحلة الأولى للنضوج الإيماني. وأخيرًا: يجب أن ننطلق دائمًا من الأنا الواقعيّ، ونشكّله ونوجّهه نحو “الأنا الأعلى”. 

ب- نضوج الروح والقلب والإرادة

يتضمّن المحتوى الثاني للتنشئة عرض لنضوج الروح والقلب والإرادة، بالارتباط مع تاريخ الشخص الذي أشرنا إليه. إن النضوج ليس مجموعة من الأعمال الصالحة أو النيّات الصالحة، بل هو قبول النداء القوي للحق والجمال والصلاح، هذا النداء الذي قرأه الشخص في حياته الماضيّة والحاضرة وهو هبة رائعة من الله. يمكننا أن نتكلّم عن نضوج الروح، عندما يبدأ الشخص باكتشاف تدريجي لخطة سرية ومنطقية ومنسّقة، تنمو طوال أيامه، وتؤدي إلى فهم حقيقة حياته وشخصه ووجوده . ويمكننا أن نتكلّم عن نضوج القلب عندما ينبض برواية جمال هذه الخطة التي تكشف له مَن، وتدخله في جمال يأتي من علٍ.

يتضمّن نضوج القلب نضوجًا عاطفيًا، يساعد الشخص على أن يدرك المكان الرئيسي للحب في نضوجه البشري: هذا الحب الذي يلزم الشخص بكامله، على المستوى الجسديّ والنفسيّ والروحيّ، ويحمّله على العطاء الكلي لكيانه ، وفي إطار نضوج القلب يجب أن نتكلّم عن تربية الحياة العاطفيّة والجنسيّة، حتى يعبّر هذا النضوج عن حياته بطريقة شخصية تتضمّن تقدير البتولية وحبّها، ويعبّر عن عطائه الكلي للمسيح والملكوت.

ج- مسيرة الحرية

الخطوة الثالثة هي المرور من التاريخ الشخصيّ إلى نضوج الروح والقلب والإرادة، ومن هنا إلى الحريّة، حتى يكون الشخص ما هو إلا مدعو لأن يكون عليه. ومعنى الحريّة هو أن أضع نفسي أمام حقيقة أن تاريخ حياتي هبة، وأعيش بهذه الحقيقة وجاذبيتها وأخذ موقف تجاهها. وما يخلق هذه الحرية هو الهبة ذاتها، أو وعينا بهذه الهبة. وكلّما ينمو هذا الوعي، ويقودنا إلى الشعور بالشكر، كلّما نكون أحرارًا لكي نعطي ذواتنا ونفهم حياتنا كعطية مجانية في أساسها. هكذا نبني الطريق الخاصّ بالحريّة: وهو المرور من العرفان بالجميل الذي ينشأ من وعينا لهبة الحياة إلى المجانية في إعطاء حياتنا للآخرين. لا يمكن أن يكون لدينا حرية خارج هذه المسيرة التي تقودني إلى اكتشاف حياتي كهبة لي، ومن هنا أعيش حياتي كهبة للآخرين. وهذا ترابط بين خبرتي بحياتي الماضيّة، وقدرتي على الانجذاب للمستقبل، وحريتي لكي أبني هذا المستقبل. وهذا هو النضوج الحقيقيّ الذي ينفتح تدريجياً إلى الإيمان.

 

د- الحرية لبناء الثقة

دائمًا الحرية خطر، وإذا كانت الحرية تمرّ بالمراحل التي ذكرناها أعلاه، وتوصّلنا إلى القرار بأن نقدّم حياتنا كهبة مجانية حينئذ يزيد الخطر. وهنا نشعر أكثر بأهمية قراءة تاريخنا الماضي، لأننا نجد فيه أمورًا إيجابيّة، وأيضًا أمورًا سلبيّة كثيرة، وأوضاع تقيّد وتشل مسيرة الشخص، وأوضاع مقلقة من الصعب مواجهتها، ولكن يجب أن نصل إلى التأكيد بأن الحياة عاملتني معاملة حسنة، واستقبلتني، وأحبتني وعالجتني وغفرت لي، وأخيرًا أعطتني أكثر بكثير مما أتوقع وأستحق. بغض النظر عمّا كان الماضي، يجب على كل شاب أن يصل إلى التأكيد على الخير الذي تلقّاه، والذي يتجاوز بكثير الشر مهما كان ويتجاوز الحدود الطبيعيّة للحياة البشريّة.

هذا التأكيد يؤسّس ثقة هي أقوى تعبير عن الإيمان، وهو ثمرة للحريّة. وهو أيضًا الأساس الإنسانيّ للإيمان والثقة في الله وبنوته وأمومته، الثقة أمام الحياة والمستقبل والآخرين وذواتنا، مما يجعل الشخص يتجاوز ويتخطّى المآسي، والشكوك، ويجعله قادرًا على أن يخاطر ويكون أكثر تطلبًا من نفسه. وبالثقة وحدها وانطلاقًا منها يستطيع أن يبدأ في السير على طريق الحياة الروحيّة.

رابعًا: النضوج الإنساني

النضوج الإنسانيّ هو الهدف الرئيسيّ للعمل التربويّ، وتوجد قائمة من المقاييس التي تساعد على تربية إنسان ناضج، ولا نقوم بحصرها، بل سنبرز المراحل المهمّة التي يجب على الشخص أن يمرّ بها ليصبح ناضجًا.

أ- الانتقال من الصدق إلى الحقيقية

قلنا سابقًا إن الإنسان الناضج يعرف ذاته، ويعرف العلاقة بين ما كان عليه في الماضي وما أصبح عليه حاليًا، ويعرف العلاقة بين الأنا الحاضر وبين ما يمكن ويجب أن يكون عليه، وهذا مع كل السلبيات والإيجابيات التي تكوّن مسيرة أي إنسان. والآن يجب أن نضيف: لا يكفي أن نكون صادقين، ولكن يجب أيضًا أن نعيش الحقيقة. إن الصدق هو ذاتيّ، وهو الحريّة التي أعيشها لكي أعبّر عمّا أشعر بداخلي، وما أراه في تاريخي الشخصيّ، ورؤيتي عن ذاتي. ويمكن أن يكون شخصًا صادقًا جدًا، دون أن يعي أن صدقه بعيد عن الحقيقة، وبعيد عمّا هو عليه في الواقع. إن الحقيقة موضوعية، هي حرية إدراك، ليس فقط ردّ فعل عاطفيّ، بل أيضًا مصدر ردّ الفعل هذا وضرورة. والإنسان الصادق ليس دائمًا على صواب. إن اكتشاف الجذور يسمح لنا أن نعالج بطريقة مناسبة الجذور ذاتها، وليس فقط المواقف. يجب أن نتعلّم كيف نمرّ من الصدق إلى الحقيقة.

ب- الانتقال من الاكتفاء الذاتي إلى القوة التي تظهر من خلال الضعف

لا يمكن الوصول إلى النضوج الإنسانيّ الكامل، وهذا يعني ضرورة الاعتراف بدقة ووضوح بعدم نضوجنا. وعندما يعي الشخص حدوده، ويصفها، وعندما يعترف بعدم استقراره، يخطو خطوة كبيرة نحو النضوج. والإنسان الناضج يعرف جيدًا أنه لم يزل في مرحلة الطفولة في بعض المجالات، كما يعرف جيدًا تناقضاته وضعفاته. إن الوعي بهذا الواقع ضروري لمن يريد أن يعرف بدقة مَن هو. ويجب أن يتابع بذل المجهود حتى لا يقع في الغرور والاكتفاء الذاتي. يجب أن نقبل ضعفنا داخليًا، ونعطي له معنى بدلاً من تضييع الجهد في مقاومته. إن الضعف عنصر أساسيّ في كينونتنا، وموقف أساسيّ في بناء حياتنا، هكذا نصبح أقوياء من خلال ضعفنا. مَن لم يختبر حدوده حتى يشعر بعجزه، لم يبدأ في السير نحو النضوج الإنسانيّ والروحيّ، والقديس بولس مَثَل بارز لذلك (انظر روم 15:7-24، 2كو 7:12-10). في البداية يحاول القديس بولس أن يتخلّص من الضعف ويستأصله، وطلب من الرب أن ينزع منه هذه الشوكة في جسده، وآخر الآمر نراه يفتخر بضعفه لأنه اكتشف في عمق ضعفه قدرة النعمة المخلّصة. إضافة إلى ذلك فإن أهمية هذه الخبرة تأتي عندما نتخذ الموقف السليم أمام ضعف الآخرين، حتى نفهمه ونقبله بطريقة أفضل. وهنا خطران علينا تجنبهما: الاكتفاء الذاتيّ المغرور من ناحية، ومن ناحية أخرى السير حسب التقاليد أو حسب (الموجه) دون أخذ المسئولية.

ج- الانتقال من الانغلاق على الذات إلى الخروج الحرّ من الذات

من طبيعة الإنسان أن يشعر بالدعوة إلى الخروج من ذاته، وإلى التوقّف أمام الآخر، هذا الآخر الذي يدعوه لأن يكون ذاته (ما هو عليه) وأيضًا يدعوه إلى تجاوز نفسه. إذًا من المستحيل تنمية الأنا دون الأنت، ولا يمكن لأحد أن ينمو طالما يترقّب دائمًا الخطر، ويبحث عن الضمانات حتى يتجنّب المجازفة.

إن الإنسان الناضج يقبل التطلّع الطبيعي الذي يدفعه للأمام، ويمنعه من الاكتفاء بالوسطية، ويقبل تحدّيات الحياة، ويخطّط للمستقبل، ويقذف بنفسه إلى الأمام متخطيًا ذاته، ويرفض الحسابات المبنيّة على الخوف وصغر النفس، وهو مستعد دائمًا للقيام بخطوة تتجاوز ما كان يظن أنه مستحيل. وهكذا يستعد لقبول النداء بتجاوز الأنا، ويضعه في الطريق نحو مستقبل أساسه وضمانه الإيمان.

د- الانتقال من الامتلاك الأناني للحياة إلى إعطاء الحياة

يحتاج الإنسان إلى إعطاء نفسه لشيء ما، أو لشخص ما. وعلى كل شخص أن يقرّر لماذا ولمن يعطي نفسه. لكن من الواضح أنه يحب أن يعطي نفسه. ومَن يرفض هذا، فلأنه يتوهّم أنه يمتلك نفسه، عندئذ يصبح هذا الإنسان عبدًا لشيء لا يعرفه. وهذه العبوديّة تقودنا إلى الوحدة والحزن، وهذا يضعف الثقة بالآخرين، ويجعلنا نهرب من كل ما يؤثّر فينا، وفي نهاية الأمر نفقد كل ثقة حتى في أنفسنا، ونصبح واقعين تحت تأثير العبوديّة للأشياء وكثير من المخاوف. إن الشخص الناضج لا يكتفِ بذاته، ولا ينغلق على ذاته بالاكتفاء الذاتيّ، لكنه يقدر أن يعترف بحاجته إلى الآخرين، وأن يثق بمن حوله، وهو مستعد لأن يضع حياته بين يدي الآخر المطلق (الله)، وأن يضع نفسه في المسيرة، كي ينتقل من الامتلاك الأنانيّ لحياته، إلى إعطاء حياته بسخاء.

خامسًا: التحدّيات الكبرى للتنشئة الإنسانيّة

في النهاية، يمكننا أن نسرد بعض التحديّات التي يجب أن تواجهها التنشئة الأولى في الإكليريكيّة، والتنشئة المستمرّة.

أ- لنأخذ بالاعتبار التنشئة الأولى بسيرها الذاتي وتقدّمها:

إن هذا المجال، الذي أهمل منذ زمن طويل، استردّ اليوم أهميته بطريقة غير عاديّة. واليوم قد تكون هناك مبالغة في هذا، لكن يظهر أن بعض المسئولين عن التنشئة يعجزون عن دمج المجال في التنشئة الكهنوتيّة مع المجالات الثلاثة الأخرى، وهكذا يتعرّض هذا البُعد (المجال) للتشويه، إذ نعزله ونعتبره مجرّد نمو إنسانيّ يساعد على “الازدهار الذاتي” الأناني، أو يخصّ المتخصصين والخبراء في علم النفس، لكن هذا المجال يخلو من الترابط مع المسيرة التربوية العامّة. إضافة إلى ذلك، من المهم توضيح الطريق المناسب في هذا المجال، وتحديد العناصر الفعّالة التي يستند إليها والطرق التربويّة اللازمة، وأعتقد أن هناك مجالاً واسعًا للتفكير والدراسة.

ب- لنأخذ بالاعتبار البيئة التي نعيش فيها:

نعيش اليوم في عالم يخضع لتغيّرات عميقة وتيارات الحداثة وما بعد الحداثة، حيث السير نحو العلمنة مع كل العواقب التي نلاحظها: يعيش الإنسان اللحظة الحاضرة بشدة، أما التطوّرات التي تستلزم فترة زمنية متوسطة أو طويلة فهي بلا قيمة! وأيضاً هناك انتشار لثقافة تتمركز حول الذات، وهذا يظهر في الأهميّة الكبرى التي يعطيها الفرد لشخصيته ورفاهيته وسعادته، ويصبح مقياس الحقيقة هو ما أشعر به، وتضمحل تدريجيًا القيم الإنسانيّة الحقيقيّة وليس فقط القيم الإيمانيّة، وتسيطر ثقافة السهولة والحد الأدنى من المجهود والالتزام. وإذا أضفنا إلى ذلك حالة العائلات التي يتزايد فيها التفكّك الأسريّ والفوضى، الانشقاق والتفكيك الداخليّ عند الأشخاص وفي المجتمع.

ج- لنأخذ بالاعتبار الأشخاص:

ما هي نتيجة هذه التغييرات في عالمنا؟ النتيجة هي أن الأشخاص الذين يدخلون في إكليريكيتنا يحملون معهم مجموعة من المشاكل الإنسانيّة، تخصّ مجال علم النفس، وأحيانًا الطب النفسيّ، ويتحوّل هذا الوضع إلى عقبة في عملية التنشئة الكهنوتيّة.

غالبًا ما تستمر هذه المشاكل أثناء الحياة الكهنوتيّة، مع كل عواقبها في ممارسة الخدمة الرعويّة، والأزمة الناتجة عنها. وعرضنا هذه المسائل أثناء اجتماعات المسئولين عن التنشئة في مناسبات عديدة. وهذه الإشكاليّة في مجال التنشئة الإنسانيّة لها آثار كبيرة في مهمتنا التربويّة.

إنني متأكد أنه لدينا مجال واسع جدًا للتفكير والبحث فيما يخصّ التنشئة الإنسانيّة داخل سير التنشئة الكهنوتيّة بمجملها.