stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

الكنيسة الكاثوليكية بمصر

الضيافة في رحاب الأخوّة الإنسانيّة

770views

الأب كابي ألفرد هاشم
مدير دائرة اللاهوت والشؤون المسكونيّة
مجلس كنائس الشرق الأوسط

مقدّمة لاهوتيّة
هذا النصّ الكتابيّ المختار لأسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيّين، المستلّ من سفر أعمال الرسل، يستحثّنا على التأمّل برحابة الضيافة وبدفق العطف والحنان اللذين ينسكبان من قلب الإنسان الذي واجه الله ولمس لطفه وعطفه، فيروح ينظر إلى أخيه الإنسان بدون خوفٍ أو وجل، بل يبادر إلى غمره بالمحبّة الصادقة.

الضيافة في رحاب الأخوّة الإنسانيّة
منذ القرن الأول وإلى يومنا هذا، خبر أهل جزيرة مالطا معنى الأخوّة الإنسانيّة من خلال حلاوة اللقاء بالآخر واستضافته على أرضهم. سفر أعمال الرسل يروي قصة استقبالهم بولس الرسول ورفاقه الناجين من العاصفة الهوجاء التي أطاحت بسفينتهم، استقبالاً ينمّ عن رحابة صدرٍ وعطفٍ منقطع النظير. وها هم اليوم يستضيفون المهاجرين والنازحين العابرين من الشرق الأوسط الجريح إلى المساحات الغربيّة الواعدة بالحريّة والاستقرار والرخاء. أجل، ما زالوا يشرّعون أبواب قلوبهم وبلادهم لأولئك الذين قسا عليهم الدهر فتاهوا في عواصف الحياة العنيفة، وغياهب الظلم، مظهرين لهم عطفًا نادرًا.

ولا ريب في أنّ الكتاب المقدّس، على امتداد صفحاته، يقدّم لنا نماذج من الضيافة الرحبة كتعبيرٍ عن المحبّة الأخويّة، ويحثّ عليها كما في رسالة بولس الرسول إلى العبرانيّين : ” استَمِرُّوا فِي مَحَبَّتِكُمُ الأخَوِيَّةِ بَعضُكُمْ نَحوَ بَعضٍ. وَلا تَنْسوا استِضافَةَ الغُرَباءِ، فَمِنَ النّاسِ مَنِ اسْتَضافوا مَلائِكَةً في بُيوتِهِمْ دُونَ أنْ يَدروا. تَذَكَّرُوا المَسجُونِينَ كَأنَّكُمْ مَسجُونُونَ مَعَهُمْ. وَتَذَكَّرُوا ضَحايا سُوءِ المُعامَلَةِ، كَأنَّكُمْ أنتُمُ الَّذِينَ تُعانُون”(3، 1-3). والمائدة الإفخاريستيّة أبهى محلٍّ للضيافة وأجملُ عربونٍ للشركة العميقة الفائضة من قلب الله وقلب الإنسان. هي محلٌّ لاعتلان وجه الآخر، ولسبر غور السرّ الدفين في أعماقه، وموضع للجلوس معه وجهًا إلى وجه، لكسر الخبز والتناول من الكأس الواحدة، للتعارف وتبادل الحبّ والإخاء. فالكنيسة تحيا من هذه الإفخاريستيّا وتتوق إليها، ذبيحةً تتماهى فيها بالعالم التائه إلى قلب الله.

لا تتوانى الكنيسة أبدًا عن واجب الضيافة بل تستحثّ المؤمنين أبناءها إلى الإقبال عليها مع كلّ إنسانٍ، وجهًا إلى وجه، وقلبًا إلى قلبٍ، وروحًا إلى روحٍ في أحلى تجلّيات الأخوّة الإنسانيّة. وهذا فعل الإيمان. ولا تني الكنيسة تُشرك في ندائها إرادة ذوي النوايا الحسنة من الأديان. لذلك يذكّر قداسة البابا فرنسيس وسماحة شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيّب في وثيقة الأخوّة الإنسانيّة التي وقّعا عليها في أبو ظبي (2019) “أنّ الإيمان يحمل المؤمن على أن يرى في الآخر أخًا له، لا بدّ وأن يؤازره و يحبّه… والمؤمن مدعوٌ للتعبير عن هذه الأخوّة الإنسانيّة بالاعتناء بالخليقة، وبالكون كلّه، وبتقديم العون لكلّ إنسانٍ، لا سيّما الضعيف ، والأكثر حاجةً وعوزًا”.

الضيافة في رحاب العطف الإلهيّ
غير أنّنا بالعودة إلى سفر التكوين، وهو الأوّل في الكتاب المقدّس، نفقه سرّ الضيافة الإلهيّة في قصّة إبراهيم، أبي المؤمنين، وخليل الله!
عرف هذا الرجل غربة الهجرة والترحال ومعاناة التغرّب والبعد والحنين إلى الأرض والأهل والأحبّة.
إنطلق من أرضه وعشيرته وأرضه إلى أرض ميعادٍ يحدوه الشوق إلى التقرّب من وجه الله.
قام وانطلق يلبيّ الدعوة التي تردّد صداها في أعماق قلبه.
وبين الدعوة والمسير وتمام الوعد، يمتدّ تاريخ حياةٍ ورحلة حجٍّ، من غربةٍ إلى غربة، ومن كشفٍ إلى كشف، ومن لقاءٍ إلى لقاء، لا يخلو أيّ منها من المواجهة (وجهًا إلى وجه) والانبهار.
رحلة إبراهيم مع الله بداياتٌ ومغامراتٌ لا تنتهي، تكتنفها المفاجآت تأتي بالجديد والخارق.
إنّها رحلة الإيمان، وسيرٌ في رحاب المجهول مع الله، سيرٌ آثره إبراهيم على الأمان والاستقرار.
وأمّا السكنى والاستقرار إلى حينٍ، حين يُتاح الخلود إلى قسطٍ من الراحة هربًا من حرّ النهار، ففي خيمةٍ تحت بلوّطة. هناك جلس إبراهيم يحدوه الانتظار، يرتقي بنظره إلى فوق، علّ السماء تقبل دعوته باللقاء: ” يا ربّ، إن نلت حظوةٍ في عينيك، فلا تجُز عن عبدك دون أن تتوقف…”
وهناك اجتاز الله! هناك توقف الله!
إنّه السائر المتخلّي، والمتجرّد عن ذاته يسعى إلى آخر، لا يعبر ولا يجوز عن إنسان. يأتيه فقيرًا مستعطيًا جائعًا عابر سبيلٍ. يجتاز الله من عالمٍ إلى عالم ليجلس إلى مائدة الإنسان.
يصغي إليه بكلّ جوارحه، يتلمّس حاجته، يشاركه الطعام وشجون الحياة.
يلقي بوعدٍ عربون الودّ. إنّه الوعد بالنسل والمستقبل والبركة! كيف لا وهو الوفيّ الأمين لا يُخلّ بعهدٍ بل يُغدق بنعمه على كلّ إنسان حتّى يغدو محظيَّ الله، مستضيفَه في خيمته، في أرض غربته التي تتحوّل إلى أرض الوعد والبركة؛
فلا يجوز بعدئذٍ كتمان الأسرار، ولا يُمكن التفرّد في المصير، لأنّ إبراهيم صار خليل الله.
ومن قلب هذه الشركة وذلك اللقاء تنبثق الشفاعة. إنّها دليل القربى والدالّة وزوال المسافات.
أصبح الله قريبَ إبراهيم! وأصبح ذاك بهذا القرب، واسع القلب وسع رحمة الله.
لكن في مكانٍ ليس ببعيدٍ عن موضع اللقاء والشركة، غرّب الشرّ قلب الإنسان حتّى فاق بفساده كلّ تصوّر وخيال. أجل، ساءت الحريّة، وانحرفت سادوم وعاموره، وغاب وجه إبراهيم ومعه غاب وجهُ الله.
أنتج الشرّ الدمار ولم تنلْ حظوةُ إبراهيم ما سأله بإلحاح، ولم تبلغ شفاعته مرتجاها، لأنّ الله يحترم حريّة الإنسان! ويروي لنا الكتاب المقدس أنّه عندئذٍ ” ذهَبَ الرَّبُّ عِنْدَمَا فَرَغَ مِنَ الْكَلاَمِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، وَرَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى مَكَانِه”.
في وهلةٍ، غمر الفرح قلب إبراهيم، وظنّ أنّه استضاف الله، فعاش على نعمة الضيافة.
استلزم الأمر بعدها كلّ الحياة ليفقه ويعيَ أنّه هو من كان في ضيافة الله.
وبعد أن رجع إلى مكانه، تابع السير نحو الله. فهم أنّ رحلة الإيمان إخلاء بعد إخلاء حتّى نهاية الإخلاء.
إذ لا يكفي أن تُعطيَ من خبزك ومن خيرك، وأن تضحّي بعجولك، وأن تضع الزبد واللبن،
بل لا بدّ أن تُعطيَ أثمن ما عندك، ابنك وحيدك، نسلك وأملَ ذرّيتك، ماضيك وحاضرك ومستقبلك،
أن تهب ذاتك… أن تكون بكلّيتك له فقط لأنّك أدركت كم يحبّك هو!
آنذاك، لا حاجة بعد إلى الشفاعة إذ لا يكون الله في قلبك، بل تكونُ أنت في قلب الله!

الضيافة خروجٌ ولقاء
في هذه الأيّام الصعاب التي يمرّ بها شرقنا، كثر أهل إبراهيم وأبناؤه الروحيّون بالإيمان، المشرّدون على طرقات هذا العالم، يفترشون الأرض ويلتحفون بالسماء. تائهون، مغرّبون، هائمون على وجوههم، مبعثرون يبحثون عن أشلائهم، يداوون جراحاتهم ويلملمون ذواتهم، يتطلّعون إلى الأمل ويترقّبون الرجاء.
كم من السفن انكسرت وغرق أبناؤها في غياهب المحيطات والبحار، فهلك بعضهم، ورسا بعضهم الآخر على أرضٍ غريبة. فهل من ضيافة رحبة تُظهر لهم العطف والحنان؟ هل من يدٍ تمتد لتُنهضهم وتؤاسيهم وتصغي إلى أنينهم وتنظر إلى وجعهم؟ أين شواطئ الغرب اليوم من شاطئ جزيرة مالطا الرحب آنذاك؟
من حولنا استفحلّ الشرّ والفساد حتّى صار الشرق الأوسط بأسره أشبه بسادوم وعامورة. استشرى العنف والقتل حتّى استبدل أناسٌ شرف الضيافة بحقارة التهجير، واقتلعوا الناس من أرضهم وجذورهم وغرّبوهم. استباحوا كرامتُهم وطعنوا إنسانيُّتهم.
أجل آثر أناسٌ كثيرون في عالمنا الحاضر الانعزال على الشركة، والتفرّدَ على الألفة، والعنف على السلام.
آثروا السكنى في الأماكن وهجروا القلوب. تخلّوا عن الرحمة واستبدلوها بالاستبداد.
فبتنا نخاف أن لا يتورّع هؤلاء عن أمرٍ فيُنتجَ الشرُّ الدمار. بتنا نسأل اليوم : أين الدعوة؟ وأين المسير معًا؟ وإلام المصير؟ أإلى عالمِ أعرض عن الضيافة واللقاء فصارت الشفاعة فيه لا تُجدي نفعًا؟
أيمضي هكذا كلّ واحدٍ في سبيله وكأننا لم نجلس يومًا إلى مائدة، ولم نتشارك في خبزٍ، ولم نرَ وجه الآخر ولا عرفناه؟ هل فرغ الله حقًّا من الكلام وصمت، فرجع “الإبراهيم” فينا إلى حيث كان، وفاتنا قطار اللقاء؟
في حجّنا على دروب هذه الحياة، لا تزال دعوة الله تنادينا لنهجر أماكننا المعهودة حيث الأفق مسدودٌ، نخرج إلى رحاب اللقاء حيث استقبال العابرين الهائمين على مائدة الشركة، نتقاسم وإيّاهم خبز الإنسانيّة وفرح الأخوّة الصادقة. هي دعوةٌ تحثّنا على التخلّي عن قناعاتنا الراسخة وعلى المغامرة بحثًا عن الحقّ والخير والجمال، وعلى البلوغ إلى حيث منابع الحياة الإلهيّة.