stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

روحية ورعوية

الطريق والحق والحياة- أشرف ناجح إبراهيم

1.1kviews

giulian-strada-in-primaveraالطريق والحق والحياة- أشرف ناجح إبراهيم

 

أصابني ذات يومٍ إحباط فظيع وخيبة أمل كبيرة! فبحق السماء، ماذا حدث لنا؟ وماذا يحدث في عالمنا؟ ولماذا أشعر وكأنّ الكنيسة في أزمة خطيرة مع هذا العالم المعاصر؟ لا.. لا أريدكم أنْ تشفقوا عليّ فتشاركونني في إحباطي وحزني وترثوا معي لحالكم ولحالي! إنّما الحقيقة التّي أريد قولها هي أنّ العالم قلباً وقالباً في أزمة خطيرة، ويمرّ في منحنى خطيرة في أيامنا هذه. إنني لم أملك يومأً نظرة تشائمية، ولست مِن المتشائمين مِن الحياة والبشر، إنّما أريدكم أنْ تتأملوا معي، ولو للحظاتٍ، لتعرفوا صدق كلامي!!

عما يبحث عالمنا؟ وبماذا يؤمن؟ وماذا ينتظر؟ وكيف يفكرون البشر اليوم؟ إنّ عالمنا اليوم يعتقد أنّ السلام لن يأتي إلاّ بالحرب والسلاح! فإذا كان هذا صحيحاً، وإذا كنتم أنتم مِن أنصار هذا الفكر؟! أعطوني مثلاً واحداً لذلك! وإذا كان هذا حقيقياً وصحيحاً، فماذا تقولون أنتم، يا مِن تنادون بالحروب حلاً؟ ماذا تقولون عمَن يمتون يومياً في هذه الحروب؟! وماذا تقولون أمام المجاعات والخسائر الباهظة التّي تخلّفها الحروب وراءها؟! ألم يعد إنسان اليوم يؤمن بأنّ الحروب هي الدمار والخراب آجلاً وعاجلاً؟!

ماذا يقولون أيضاً البشر المعاصرون؟ يقولون أنّ الإنسان أهم الكائنات مِن بين جميع الموجودات، وعليه أنْ يحيا حريته! وهذا صحيح جداً جداً، ولكن مَن هو الإنسان في نظر عالمنا المعاصر؟ وما هي الحرية التّي يتطلعون إليها؟! فإننا جميعاً نطالب بتحرير وتحرّر الإنسان، فالإنسان جوهرياً هو حرية! فتبدأ مسيرة التحرّر، ويتحرّر الإنسان المعاصر أول ما يتحرّر مِن جذوره وماضيه بكامله! فمَن سبقونا لم يعدوا يعنون لنا شيئاً سوى ماضٍ يجب أنْ ننساه، فلماذا نشغل بالنا بهم؟ فماذا تعني لنا الكتب المقدسة اليوم؟ ولماذا نستمر في الإرتباط بأجدادنا؟ وهكذا بدأنا نحكم على الماضي كثيراً ونلصق بمَن سبقونا الجهل والغباء! ولكن مهلاً، أيّها الإنسان، فإنه لو كان هذا حقيقياً وصحيحاً، فقل لي عندئذٍ: ماذا سيُنتظر منا؟ أفلا يعني هذا أننا، شئنا أم أبينا، أبناؤ جهل وغباء؟ يبدؤ أننا نسينا المثل الصيني القائل: «إذا لم يستطع الشخص أنْ يكون كوبرياً بين أبيه وولده، سيكون عندئذ حفرة تبتلع خبرة أبيه وشبابه وولده»!

في إطار المطالبة بالحرية، يطالبون بشر اليوم بالتحرّر أيضاً مِن “فكرة الله”! وكأن هؤلاء البشر_ الذين خُلقوا مِن العدم_ هم الذّين خلقوا “الله” ليعبدوه متى يرغبون ويتوقفون عن عبادته وقتما يشأؤن! إنهم يعتبرونه “فكرة” لا تمسّ حياتهم وكيانهم، فهم لا يحتاجون إلى إله يستعبدهم، أو بالأحري إلى فكرة تقيدهم! لماذا يفكرون البشر على الله هكذا؟ ألا يدركون أنَّ «الله محبة» (1يو 4/8)، وهو يريد دائما خير وحرية الإنسان الذّي هو مخلوق علي صورته ومثاله ( تك 1/26، 5/1-2)؟!

إنّ الحرية في مفهومنا المعاصر أصبحت لا تعني إلاّ تجاوز كلّ الشرائع والقوانين، فالحرية -كما يفهمها الكثيرون اليوم- تعني ببساطة أنْ يعيش الإنسان بدون قيود أو حدود! كم يبدؤ ضعيفاً واهناً هذا المفهوم المعاصر للحرية؟! فإذا كانت الحرية تعني الحياة بدون قوانين وشرائع، ألن تكون نتيجة هذه الحرية هي اندلاع الحروب وانتشار الدمار والقتال، ومِن ثَمَّ الخراب، أيّ هدم وتدمير أنفسنا بأنفسنا باسم “الحرية المطلقة” التّي ننادي بها؟! أجل، إنَّ الكنيسة لم تكف أبداً عن النظر بتقدير كبير واحترام عظيم لكل المجهودات المبذولة مِن أجل المنادة بالحرية وتحقيقها، ولكن لا يفوت عليها أيضاً المخاطر الكامنة خلف الكثير مِن الإيديولوجيات المعاصرة[1]. فلذلك تعبِّر عن هذا صراحةً بقولها: «لكن الإنسان حين يتّجه إلى الخير، إنما يفعل ذلك دائماً بملء حرِّيَّته، تلك الحرِّيَّة التي يقدّرها معاصرونا تقديراً عظيماً وينشدونها بشوق، وهم على صواب في ذلك، لكنهم يعشقونها أحياناً بطريق غير سوي وكأنَّها استباحة عمل كلّ شيء، وإن كان الشر عينه»[2]!

وبعد، يمكننا أنْ ندرك أنَّ الحقيقة في كلّ ما نحياه اليوم هي أننا على وشك_ إذا استمرينا في التفكير بهذا الشكل المعاصر_ أنْ نفقد جذور ماضينا ونبني بدلاً منه عالماً غريباً جداً ليست له أساسات أو مبادئ، عالماً مبنياً على الـ”لاشئ”! وستكون النتيجة هي النسبية الشاملة لكلّ مجالات الحياة. مَن منا، في عالم مثل هذا، لم تأت عليه لحظات شعر فيها بأنه تاه حائر، لا يعرف أيّ طريق يختار؟ ومَن منا لم يطلب له مرشداً ليقتاده إلى الطريق الصحيح وسط” النسبية” و” الذاتية” اللتين أوشكت أنْ تدخلا تقريباً في كلّ الأمور؟!

لقد جاء ذات يومٍ في عالمنا شخص صرخ بأعلى صوته وقال لنا: «أنا الطَّريق والحقُّ والحياة» (يو 14/6)، فلماذا رغم مجيئه نقبل أنْ نعيش هذه الحيرة وهذه التيه التّي يحياها عالمنا؟! ألم يقل أيضاً «جئتُ أنا إلى العالم نوراً فكلّ مَن آمن بي لا يبقى في الظلام» (يو 12/46)؟ فلماذا لا نقبله طريقاً وحقاً وحياة لنا؟! لقد قال: “أنا هو الطَّريق”، وهو صادق تماماً لأنه هو مَن علّم وعاش الحبّ، فهو الطريق لأنه هوالحبّ، فالحبّ هو الطريق الذّي يجب أنْ نختاره والمبدأ الذّي يجب أنْ نبني عليه حياتنا لنتحرّر مِن حيرتنا وتيهتنا. إنّ يسوع المسيح مولود بيت لحم ومصلوب جبل الجلجثة هو الطريق لأنه هو الحبّ المتجسّد المصلوب، هو المحبة التي «لا تسقط أبداً» (1قور 13/8). ولأنه هو الطريق فهو الحقّ! فلماذا نبحث اليوم بتعبٍ وجهدٍ عن حقائق كثيرة مزيفة، في الوقت الذّي فيه يقف أمامنا صارخاً: “أنا هو الحقُّ”؟! إنه هو الحقّ لأنه هو الطريق، أيّ الحبّ. إنّ يسوع المسيح هو أيضاً “الحياة” لأنه هو “الحق” الذي يُحيي ويحرِّر (يو 8/32)، أيّ لأنه هو “الطريق”. فإنه عندما قال بفمه الكريم هذه الكلمات الثلاثة عن نفسه “الطَّريق.. الحقّ.. الحياة” أراد أنْ يعلن حقيقة واحدة عظيمة “أنا هو الحبّ”، فهو جاء ليعلن لنا حبّ الآب السماوي وليظهر الحبّ الثالوثيّ الذّي به خلقنا الله وخلَّصنا، وجاء ليعلِّمنا أيضاً كيف يكون هذا الحبّ طريقنا إلى الله فنكتشف الحق ونحيا الحياة الحقيقيّة، وليتتحقق فينا بالروح القدس حبّ الله. إنَّ يسوع المسيح هو بحقٍ الطَّريق والحقُّ والحياة لأنه هو مَن حقَّق حلم الله وحلم الإنسان في آنٍ واحدٍ: فحلم الله هو أنْ يسكن في وسطنا، فهو ذاته قد قال «سأسكُنُ بينهم وأسيرُ بينهم وأكونُ إلههم ويكونون شعبي» (2قور 6/16)، و «أجعلُ مَقدِسي في وَسطِهم للأبد» (حز 37/26)، وقال أيضاً «نعيمي مع بني البشر» (مثل 8/31)؛ وأمَّا حلم الإنسان فهو أنْ يكون مثل الله (تك 3/5)! وبكلمات أخرى، إنَّ يسوع المسيح هو “الطَّريق” لأنه هو “الوسيط الوحيد” بين الله والناس (1طيم 2/5)، وهو أيضاً “الحقُّ” لأنه هو “المُوحِيّ الفريد”، لأنه هو الذي حمل إلينا وحي الله عن ذاته ووحيه عن الإنسان خليقته (رؤ 1/1-2)، وهو أخيراً “الحياة” لأنه هو “المُخلِّص الوحيد” للإنسان وللعالم مِن الخطيئة الخاطئة والأنانيّة القاتلة (رسل 4/12؛ يو 4/42)!

أيها البشر، وأيها المسيحيون، عودوا إذاً إلى يسوع فهو الحبّ، وادخلوا إلى قلبه المفتوح المملؤ بالحبّ فهو طريق النجاة الوحيد لنا في حيرتنا، وهو النجاة للكنيسة في ضيقاتها ولعالمنا المعاصر في أزمته! لنعود إليه فهو الحبّ الذي هو الطريق الحق والحياة؛ ولنرجع إليه قابلين إياه أصلاً ومرجعاً وغاية لحياتنا ولكياننا ولتفكرننا ولعالمنا ولبلادنا ولعائلاتنا، وعندها سينصلح مِن حالنا وحال عالمنا. إن أصعب ما في هذه العودة هي أنها عودة لا تُكلِّف ولا تتطلب شيئاً إلاّ أنْ نجاهد لكي نؤمن بالحبّ وأنْ نتصارع يومياً مع الملحد الذّي بداخل كلّ واحد منا، فإنّ إيماننا بحبّ يسوع هو صراع يومي مع الملحد الذّي فينا!

لنتضرّع، أخيراً، إلي الله ليعطينا أنْ نؤمن به، فيصبح طريقنا وحقنا وحياتنا، وعندئذ سنتغيّرنحن وسيتغيّر عالمنا ويضحى فردوساً وجنة للحبّ بين الله والبشر ومدينة فاضلة يسكن فيها الله مع البشر في سلامٍ تامٍ (رؤ 22/1-4، 7/13-17؛ أش 11/1-9)؛ وعندها سنحيا حقاً إنسانيتنا ونكتشف حريتنا الحقيقية ونبني عالمنا على أسس متينة قوية، وعندها أيضاً يمكننا أنْ نغنّي بفرح: «نحن في الحقّ إذ نحن في ابنه يسوع المسيح. هذا هو الإله الحقّ والحياة الأبدية» (1يو 5/25)؛ وهذا ببساطة لأننا اكتشفنا مَن هو الطريق والحقّ والحياة، أيّ يسوع المسيح الذي هو المحبة التي أخذت جسداً بشريّاً حقيقيّاً ونصبت خيمتها بين البشر (يو 1/14).

————————————

[1] إيديولوجيّة Ideologia: «تعني بحسبِ مُفهومِ ماركس والفلسفةِ الماركسيّةِ عامةً، مُنظومةَ التصوِّراتِ الثَّقافيّةِ والسِّياسيّةِ والدِّينيّةِ…إلخ، والتي على أساسها تقوم الطَّبقةُ الحاكمةُ بتبريرِ مصالحها الخاصةِ، وهو ما يُسمَّى الإيديولوجيّة البورجزيّة. وتعني أيضاً نظاماً فكريّاً يقوم عليه الأساسُ لعملٍ سياسيّ واجتماعيّ؛ فنجد على سبيلِ المثالِ: الإيديولوجيّة اللبيرليّة، والإيديولوجيّة الماركسيّة. وتعني أخيراً وَحدةً بين المُعتقداتِ والقيمِ الخاصةِ المُتعلِّقةِ بجماعةٍ ما أو شعبٍ ما أو بلدٍ ما؛ فنجد على سبيلِ المثالِ: الإيديولوجيّة النازيّة، الإيديولوجيّة الأمريكيّة».

Dizionario Italiano, Garzanti, Italia 2000, 985.

[2] وثائق المجمع الفاتيكانيّ الثانيّ المسكونيّ، المكتبة الكاثوليكيّة، السكاكيني، القاهرة، 2000، دستور راعويّ “الكنيسة في العالم المعاصر”، بند 17، 58.