العذراء مريم والإيمان-إكليريكيّ قدري حبيب
العذراء مريم والإيمان-إكليريكيّ قدري حبيب
تأمل في نص تأمل من ( لوقا 1: 26- 38). والتامل بعنوان العذراء مريم والإيمان
العذراء مريم والإيمان
قراءة نص تأمل من ( لوقا 1: 26- 38).
– بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد. آمين،،،
تقول القديسة تريزا الطفل يسوع: “لكي يأتي بثمرٍ تأمّلٌ عن العذراء، يجب أن
يُظهر هذا التأمّل حياتها الواقعية كما تُستَشفُّ من الإنجيل. إنها عاشت
نظيرنا من الإيمان”. لقد كانت أول مدرسة للإيمان، في بيت الناصرة، وكانت
المعلّمة في هذه المدرسة هي أمنّا العذراء مريم. لم يأخذ يسوع المسيح عن أمه
مريم الجسد واللغة والثقافة والصفات الإنسانيّة فقط، بل والإيمان أيضاً، وهذا
يتضح لنا في أمثال السيد المسيح له المجد عن الملكوت كالخميرة في العجين،
والدرهم الضائع، والسراج والعذارى، والملح في الطعام.. فكل هذه هي إشارات
واضحة على دور تربية الإيمان المنزليّة التي أثرّت على يسوع طيلة زمن كرازته
الأرضيّة. ولقد أراد السيد المسيح انه يترك لنا أمه مثلاً نقتدي به في تربية
الإيمان، فلذلك سلم أمه إلى التلميذ الحبيب وقال له ” هذه أُمُّكَ”،
وللعذراء مريم “هذا ابنك” (يو19/25-27). وبالتالي فأمنا مريم العذراء هي
مدرسة نتعلم منها الإيمان، لكي نعيشه في حياتنا.
ويقول أحد اللاهوتيين البروتستانت: “إنَّ مريم رسمت في ذاتها خطوات الإيمان المسيحي
المثالي المقبول، الذي هو ثمرة نعمة الله. لقد اعترفت اليصابات أثناء زيارة مريم لها
بأنها أعظم مؤمنة”. ولذلك دعونا نتأمل في نقطتين وهم
1- إيمانٌ وتساؤل 2- إيمانٌ وتسليم
1- إيمانٌ وتساؤل
إن الإيمان لا يلغي التساؤل. لذلك علينا ألا نخاف أمام تساؤلاتنا الإيمانية.
فالإيمان ليس تصديقاً لحقائق مبهمة وخفية. بل الإيمان الحقيقي هو تفاعل مع
سرِّ حضور الله في حياة الإنسان. لذلك نشاهد القديسة مريم في بشارة الملاك لها
تتساءل وتستفهم قبل أن تستسلم: “ما معنى هذا السلام”؟ … كيف يكون هذا وأنا
لا أعرف رجلاً” ؟! (لو1/29و34). وبمعنى آخر تحاول القديسة مريم أن تحدّد في
السؤال الأول عن مصدر التدخل الغريب في حياتها. وفي الســؤال الثاني، عن كيفية
تحقيق هذا التدخل. وربما كانت تتأمل أمنا العذراء مريم وهي – حواء الجديدة-
قصة حواء القديمة التي لم تتساءل عندما تعرضت لغواية الحية، وبالتالي لم تعرف
مصدر التدخل، وكان في تلك المرة خداعاً من الحية لأمنا حواء، وحدث ما حدث
بأنها أطاعت الحية وأكلت من الشجرة وأعطت لزوجها، ونسيا وصية الله التي تقول “
من جميع أشجار الجنة تأكل، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، فإنك
يوم تأكل منها موتاً تموت” ( تك 2: 17). فليس كل نـداء هـو من الله،فأحياناً
تأتي إلينا أفكار ورغبات تكون خيّرة في بدايتها ولكنها تكون من عدو الخير،
الذي يريد تدريجياً أن يأخذنا إلى طريقه المعوج، وهذا ما يعبر عنه القديس بولس
ويقول “وَلاَ عَجَبَ! فَالشَّيْطَانُ نَفْسُهُ يُظْهِرُ نَفْسَهُ بِمَظْهَرِ
مَلاَكِ نُورٍ”. ( 2 كور 11: 14). وأيضاً ليست كل رغبة لتحقيق هذا النداء
ممكنـة. فعلينا إذاً، أن نميّـز مشيئة الله ونسأل عـن كيفية تحقيقها في
حياتنا.
وهذا يتم عن طريق الإيمان والصلاة.لا بل الصلاة بإيمان، فنجد الكثير يصلي ولا بدون
إيمان حقيقي بأن ما يؤمن به ويصلي من أجله سوف يحقق بحسب ما يرى الله هذا مناسب له.
ويحدثنا الآباء القديسون عن نعمة التمييز الروحي ويطرحون لها قواعد مهمة مثل الصلاة
والصوم وقراءة الكتاب المقدس، والمرشد الروحي، والأسرار المقدسة.
ولكن إن ظللنا في حالة عدم التساؤل لن نستطيع أن نعبّر من حالة الإيمان المورؤث إلى
حالة الإيمان الشخصي الناضج _ وفي كلامي أنا لا أقلل من الإيمان المورؤث، ولكن علينا
أن ننتقل إلى الإيمان المبني على مدى قناعتي بوجود هذا الإله _ فبين الإيمان المورؤث
والإيمان الشخصي يقع الإنسان في كثير من الأسئلة الكونية التي لا نجد لها حلول
أحياناً، مثل مَنْ هو الله؟! هل الله موجود؟، وأين نجده؟! كيف
أستطيع أن أُبرهن عن وجود الله؟! كيف يسمح هذا الإله المحب الرحيم بوجود الألم
والشر والموت…؟!
إن توقفت عند هذه الأسئلة بمجرد العقل فقط، سوف نصل إلى مرحلة اللاإيمان – الإلحاد-
ولكن علينا أن نصلي أن يكشف لنا الله عن نفسه عن طريق دخولنا معه في علاقة حميمية عن
طريق الصلاة بالإيمان. وإلا بالفعل ستكون هناك أزمة إيمان حقيقة. وهذا ما عاشه
الفيلسوف نيتشه بقوله ” الله مات، أتركوا الكنائس، أتركوا المذابح، طوفوا في الشوارع،
فأين نجد هذا الإله؟! “، هذا هو التفكير العقلاني فقط بدون التسليم للإيمان في الحقائق
الإيمانية.
وأخيراً فالكلمة الأخيرة ليست للعقل وحده ولكن العقل للتساؤل، وعندما لا أجد
إجابة عن أسئلتي علىَّ أن أتواضع وبكل إيمان أصلي لله أن يكشف لي ما لا اعرفه،
ويصعب علىَّ فهمه. وهذا تماماً ما قد فعلته العذراء مريم عندما بشرها الملاك،
تسألت بالعقل ولكنها أجابت بالإيمان على الملاك بكل ما سيتم مثلما قال لها
الملاك. وفي هذا قمة التسليم من أمنّا العذراء مريم في يدي الله وهذا ينقلنا إلى
النقطة الثانية ألا وهي:
2- إيمانٌ وتسليم
إن العذراء مريم آمنت بمضمون البشارة وهي لا تفهم فهماًً كاملاً مضمون
وشموليته هذه البشارة، ولكنها آمنت وخضعت لكلمة الله وأسلمت ذاتها تسليماً
مطلقاً بين يدي الله.
وتقول العذراء مريم عندما ظهر لها الملاك أثناء البشارة: “ها أنا أمة للرب، فليكن لي
كقولك” (لو 1/37)، لتظهر شبيهة بإبراهيم أبو المؤمنين لما قال له الرب: “انطلق من أرضك
وعشيرتك وأرض أبيك، إلى الأرض التي أريك” (تك12/1-4) “فانطلق وهو لا يعلم إلى أين
يتوجه” (عب11/8). هكذا يكون الإيمان: قفـزة فـي المجهول، في حب الله، ومن أجل الله،
ولخدمة الله. وضمانته الوحيدة هي شخص الله الذي يرافق ويرعـى، وبرنامجـه الأكيد هو
كلمة الله- الكتاب المقدس- : “ليكن لي كقولك”. فإن تسليم الذات عند العذراء مريم هو
فعل تقدمة كرست له كـلَّ حياتهـا. فاحتفلت به حين قدمت يسوع بسخاء إلى الهيكل
(لو2/35). وعاشت بمرارة في تقدمة ابنها للصليب.ولذلك لا يمكننا أن نفصل تقدمة دواتنا
لله وتسليم حياتنا له ونحن بعيدين عن سر الآلام وسر الصليب، ولكن بعد هذا الألم هناك
مجد القيامة. فالآلام والصلب والموت ليس لهم الكلمة الأخيرة في حياتنا ولكن الكلمة
الأخيرة هي لحياة الرجاء، لحياة القيامة، حياة التسليم لله.
هذا هو الإيمان الذي عاشته أمنا العذراء مريم في حياتها، قد أسلمت حياتها بالكامل بين
يدي لله، بالرغم من كل الآلام التي واجهتها، ولكن ابنها يسوع وإلهها قد كرمّها في
نهاية حياتها بأنه جعلها تجلس عن يمينه. ولذلك نصلي ونتشفع بأمنا العذراء مريم أن تكون
معنا في حياتنا، في وسط الصعاب التي نمر فيها، في وسط ألآمنا، لنصل إلى المجد مع ابنها
يسوع ونتمتع بالنظر إليه.
وهنا التساؤل الذي يطرح نفسه علينا اليوم في ختام هذا التأمل البسيط هو: كيف أعيش حياة
التسليم في واقعي اليومي مع وجود صعوبات ماديّة، وكذلك صعوبات أخلاقية؟!
نطلب إلى أمنّا مريم العذراء أن تساعدنا أن نعيش إيماننا بكل تسليم لابنها يسوع
المسيح لنستطيع أن نشهد له أمام كل إنسان يتعامل معنا.
ولإلهنا كل مجد وكرامة من الآن والى أبد الدهور. آمين.
13/ 10/ 2010