الممارسة العملية لفن الحب
الانتقال إلى الحب الناضج يتتطلب أن يعتمد الإنسان على ذاته في إشباع وتأمين احتياجه إلى الحب. فالطابع الإيجابي للحب يتضمَّن دائمًا عناصر رئيسية معينة شائعَة في جميع أشكال الحب، وفقا لتصنيف إيرك فروم. هذه العناصِر هي: الرعاية والمسئولية والاحترام والمعرفة
- الرعاية
الحب هو الاهتمام الفعَّال بحياة ونمو ذلك الذي نحبه. فلا يكون لدينا ثقة بحب الأم لطفلها إذا رأينا عندنا نقصًا في الرعاية للطفل، وإذا أهملت في إطعامه، وفي تحميمه، وفي توفير الراحة الجسمانية له، في حين سيأُسرنا حبها له إذا رأينا رعايتها للطفل. هذا لا يختلف عن حب الزهور مثلا، فإذا قالت لنا امرأة إنها تحب الزهور ورأينا أنها تنسى أن تسقيها فإننا لن نصدق أنها “تحب” الزهور.
الحب هو الاهتمام الفعَّال بحياة ونمو ذلك الذي نحبه. وحيث ينقص هذا الاهتمام الفعال لا يكون هناك حب. وقد وصُف هذ العنصر للحب على نحو رائع في قصة يونان. لقد أخبر الرب يونان أن يذهب إلى نينوي لتحذير سكانها بأنه سيعقاب الشعب إذا لم يقلعوا عن طرقهم الشريرة. تهرب يونان لأنه خافَ من أن يندم سكان نينوي فيسامحهم الله بالرغم من أعمالهم الشريرة. كان لدي يونان شعور قوي بالنظام والقانون، دون الحب. هرب فانعزل في بطن حوت ليدل الكتاب على حالة الشخص الذي يعجز عن الحب.
ذهب يونان وبشر نينوي بتحذير الله لها، وحدث ما توقعه فقد تاب سكان البلاد عن خطاياهم واقلعوا عن طرقهم الشريرة فسامحهم الله وقرر أن لا يهدم المدينة. غضب يونان غضبًا شديدًا وخاب أمله، إنه يريد أن تأخذ “العدالة” مجراها لا الرحمة. وأخيرًا وجد يونان راحة من الشمس الحارة في ظل خروعة وحزن عليها بعد أن احترقت، فأجابه الرب: “فقال الرب: «لقد أشفقت أنت على الخروعة التي لم تتعب فيها ولم تربها، والتي نبتت بنت ليلة، ثم هلكت بنت ليلة» أَفَلا أُشفِقُ أًنا على نينَوى المَدينةِ العَظيمةِ الَّتي فيها أَكثَرُ مِنِ آثنَتَي عَشرَةَ رِبْوةً مِن أُناسٍ لا يَعرِفونَ يَمينَهم من شِمالِهم”. (يونان 4: 9- 11). إن جواب الرب على يونان يجب أن يُفهم على نحو رمزي. لقد شرح الرب ليونان أن ماهية الحب هي “العمل” من أجل شخص ما و”أن يجعل الفرد ينمو” وأن الحب والعمل لا ينفصلان. فالإنسان يحب ذلك الذي يعمل من أجله والإنسان يعمل لذلك الذي يحب من أجله.
- المسئولية
إن الرعاية والعناية تتضمنان جانبًا أخر للحب، هو جانب المسئولية. المسئولية اليوم تعني في الغالِب الإشارة إلى الواجِب، الإشارة إلى شيء مفروض على الإنسان من الخارج. ولكن المسئولية في معناها الحقيقي هي فعل إرادي تمامًا. إنها استجابتي لاحتياجات إنسان آخَر سواء عبَّر عنها أم لم يعبِّر. أن تكون “مسئولاً” يعني أن تكون قادرًا ومستعدًا لأن “تستجيب“. لم يشعر يونان بالمسئولية تجاه سكان نينوى. إنه مثل قايين يستطيع أن يسأل: “هل أنا حارسٌ لأخي؟”. الشخص المحب يستجيب، إن حياة أخيه ليست شغل أخيه وحده، بل هي شغله الشاغل أيضًا.
لمَن يريد أن ينمو في تعلم فن الحب عليه أن يهتم بأن يصنع شيئًا جيدًا للأخر، أن يصنع سلوكيات إيجابية نحو الآخرين الذي يرغب في الحفاظ على علاقات المحبة معهم. أن يستجيب لاحتياجاتهم التي يُعبرون عنها والتي لا يفصحون عنها. لذا فإن الحب هو سلوكيات تخضع للإرادة البشرية وليس للمشاعر. في البداية يمكن للسلوكيات أن تبُع فقط من الإرادة. السلوكيات الإيجابية تجاه الآخرين، حتى لو المشاعر كانت سلبية، ستتغير المشاعر بصورة تدريجية وتصبح إيجابية. الحب هو قرار ينبع من إرادة الإنسان، الحب الحقيقي هو إن تذهب إلى الآخر الذي مشاعرك سلبية تجاه وتعمل سلوك إيجابي. من هو قريبي أعطى المسيح مثل السامري الصالح. إذهب وأصنع هكذا، لأن الأمر ليس متعلق بالمشاعر، بل بالإرادة والفعل، ومتى صنعت السلوك الإيجابي سوف تتغير مشاعرك تجاه.
تفترض الرعاية والمسئولية القيام بمجهود لكي يستطيع الفرد أن يُحِبّ الآخرين. يتطلب الحب بذل المجهود لأجل أن ينفتح الفرد على الآخرين ويحبهم ويزيل الحواجز الفاصلة بينهم.
- الاحترام
إن المسئولية يمكن أن تتدهور إلى الهيمنة والتملك إذا لم تتألف من العنصر الثالث للحب ألا وهو الاحترام. ليس الاحترام خوفًا وخشية، أنه يشير، تمشيًا مع جذر الكلمة (Respicere تعني التطلُّع إلى)، إلى القدرة على رؤية شخص كما هو وإدراك فردانيته المتفردة. الاحترام يعنى الاهتمام بأن الشخص الأخر إنما ينمو ويتكشف على نحو ما هو عليه. وهكذا يتضمن الاحترام عدم الاستغلال. إني أريد الشخص المحبوب أن ينمو وأن ينكشف تلقائيًا في ذاته، وبطريقته وليس بغرض خدمتى. فإذا أحببت شخصًا آخر فإنني أشعر أنني صرت معه شخصًا واحدًا، ولكنني صرت معه شخصًا واحدًا على نحو ما هو عليه لا على نحو ما أنا محتاج إليه ليكون موضوعًا لفائدتي. الاحترام لا يوجد إلا على أساس الحرية، فالحب وليد الحرية وليس إطلاقًا وليد الهيمنة.
للاحترام دورٌ مهم في نمو الحب لأنه يُسهل على الأخرين محبة الفرد. فمتى احترم الشخص فرادة الآخرين، ولم يستغلهم، سيزيل العوائق الأساسية أمام تجاوب الآخرين معه في محبته وسيبدلونه المحبة. يقوم الحب الناضج على مبدأ “إني احتاج إليك لأني أحبك” فأنا في احتياج نفسي قوي لأن أحبك. صحتى النفسية تتوقف على أن أحب الآخرين وأكون محبوبًا منهم، لذا فاحترام فرادة الأفراد المحيطين بي يفتح الباب واسعًا أمام التمتع بالصحة والسلامة النفسية والعيش بتوافق مع البيئة الخارجية.
- المعرفة
لا يكون احترام الشخص ممكنًا بدون معرفته، ستكون الرعاية والمسئولية عاجزتين إذا لم يسترشدا بالمعرفة وستكون المعرفة فارغة إذا لم يصاحبها الاهتمام. هناك مستويات من المعرفة، والمستوى المطلوب من المعرفة هو المستوى الأكثر عمقًا الذي يتعدى المظهر إلى الجوهر. وهي لا تكون ممكنة إلا عندما أتجاوز الاهتمام بنفسي وأرى الشخص الأخر في إطاره. فمثلا، أستطيع أن أعرف أن شخصًا ما غاضب حتى لو لم يبين هذا صراحة، ولكن قد أعرفه على نحو أعمق من ذلك، وحينئذ سأعرف أنه قلق ومضطرب، وأنه يشعر بالوحدة وأنه يشعر بالذنب. ثم أعرف أن غضبه ليس إلا تجليًا لشيء أعمق، وأتبين سبب اضطرابه ومشاعره الدفينة.
الطريق الوحيد للمعرفة الكامِلَة يكمن في فعل الحب. هكذا وصف الوحي الإلهي حقيقة الإنسان منذ أن خلقه الله في جنة عدن: ” لَيْسَ جَيِّداً أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ”. فالحب وحده القادر على قهر الانفصال الإنساني، وتحقيق الوحدة والاتحاد. فالرجل والمرأة لا يجدان وحدتيهما إلا في وحدتهما الذكرية والأنثوية. فالاستقطاب الجنسي يفضي بالإنسان إلى البحث عن الوحدة بشكل خاص، ألا وهي الوحدة مع الجنس الآخر.
يُعد الجنس التجلي الأسمى في التعبير عن الحب، إلا إنه ليس التجلي الوحيد. فأشد أنواع الحب أساسية والذي يتضمن جميع أنواع الحب هو الحب الأخوي. متى شعر الإنسان بالمسئولية والرعاية والاحترام والمعرفة إزاء أي كائن إنساني آخر، والرغبة في تطوير حياته. الحب الأخَوي هو حب لكل البشَر الآخَرين، وهذا الحب يتصِف بأنه حب من الاستثناء. فإذا طوَّرت مقدرتي على الحب فهذا يعني أنني لا أملك سوى حب إخوتي. في الحب الأخوي توجد تجربة الاتحاد بكل الناس، توجد تجربة التضامُن الإنساني. يقوم الحب الأخوي على تجربة أننا جميعًا واحد.
لكي يصل الإنسان إلى حب الآخرين جميعًا من الضروري أن ينفذ إلى معرفة جوهر الإنسان. فإذا لم يدرك في الآخرين سوى الفروق المختلفة عنه فإنه لا يرى إلا السطح فقط. فإذا نفذ إلى جوهر هوية الإنسان وهي: إن كل فرد في حاجة إلى محبة الآخرين لكي يتمتع بالصحة النفسية. جميع البشر في حاجة إلى المساعدة. اليوم أنا وغدًا أنت. لكن هذه الحاجة إلى المساعدة لا تعنى أن الواحد عاجز والآخر قوي. العجز حالة مؤقتة، فالقدرة على الوقوف والمشى على القدمين هي الحالة الدائمة والشائعة.
لذا فإن حب الإنسان العاجز أو اليائس، حب الفقير والغريب، هما بداية الحب الأخوي. إن فعل الرحمة والحنو على ا لفقير تمكنه من تطوير حياته. يتضمن عمل الرحمة عنصر المعرفة والتوحد مع الآخر.
الأب مراد