الوحدة والصمت…الأب روماني أمين اليسوعي
مَن مِن الناس لم يشعر يوماً بالوحدة. والشعور بالوحدة هو أحساس الفرد الذي يشعر بانعزال عن المحيطين به، وهذا الاحساس قد ينتاب أي فرد منا في بعض الأوقات، وفي مراحل العمر المختلفة.
لكن كل إنسان يختلف عن الآخر في موقفه تجاه الشعور بالوحدة، فهناك من يسعى إلى الوحدة لينفرد بنفسه مقرراً خلوة اختيارية، وهناك من يشعر بالوحدة وكأنها كابوس مفروض عليه مما يسبب له مشكلة، وأحياناً يشعر الإنسان بالوحدة في أثناء وجوده وسط جماعة كبيرة من الناس، على حين يعيش آخر بمفرده ولا يحس بالوحدة عندما يكون وحيداً بالفعل .
الشعور بالوحدة ليس ضاراً في كل الأحوال.. بل قد يفيد صاحبه إذا عرف كيف يستفيد من وحدته. فقد تكون فرصة لينسجم الإنسان فيها مع نفسه، ليفكر بهدوء وينجز، وقد تكون فرصة إبداع وإبتكار له، وكم من فنان وكاتب و مخترع، جاء بأفضل ما عنده في فترة عزلته الشخصية.
فالوحدة ليست دائماً سيئة. إنها خير من جليس السوء، بل تصبح أحياناً ضرورة تستوجب الإمتناع عن أي جليس، ليخلو فيها الإنسان بنفسه، ليرّاجع حساباته، وليقيّم انجازاته، ويفحص دخائل نفسه، التي قد لا يتسع الوقت أو الزحام لمناقشتها.
الوحدة فرصة للتفكير الهادىء: عندما يكون الإنسان محاطاً بأصدقاء كثيرين، فإنه من الصعب أن يفكر تفكيراً عميقاً هادئاً، لا يتخلله التشويش. وقد يكون من عادة بعض المفكرين الهروب من أقرب الناس إليهم، إلى مكان هادىء منعزل، يلتمسون فيه الإلهام، ويصغون فيه السمع لنبضات أفكارهم الكامنة.
الوحدة فرصة للإبتكار: يدين كثيرون من العلماء والمخترعين بأعظم اكتشافاتهم إلى أوقات الخلوة، التي احتجبوا فيها عن الناس، فأطلقوا عنان أفكارهم، ووجدوا مفتاح السرالذي كانوا يبحثون عنه. وكم من الفنانين والشعراء، اُلهموا أعظم أعمالهم حين كانوا في خلوة هادئة، خارج حدود الزحام والضجيج.
الوحدة فرصة للإنجاز: كثيراً ما يكون الزحام عائقاً دون إنجاز ما نريد. فقد تكون لدينا فكرة كاملة لعمل عظيم نستطيع إنجازه، لكن الوقت لا يتسع له، بسبب حياتنا المنفتحة على المحيطين بنا. فبابنا المفتوح للعلاقات المنبسطة، لا يسمح بعمل آخر يحتاج إلى الوقت والتركيز والتفرغ.
الوحدة فرصة لفحص النفس: قلما يتيسر لنا ونحن مشغولين بمن حولنا أن نراجع أوراق رحلتنا، لنرى ما أنجزناه، ونقوّم هذه الإنجازات. وقد لا تتيح لنا هتافات الآخرين لنا أو ترحيبهم بنا، أو حتى هجمومهم علينا أن ندرس موقفنا دراسة دقيقة أمينة. فنحن غالباً ما ننشغل بالاستمتاع بمديح الناس إذا مدحونا، أو بالدفاع عن أنفسنا إذا هاجمونا. وفي الحالين فأن فحص النفس لا يكون أميناً أو دقيقاً. أن الكثيرين من الأطباء تدب في أجسادهم أمراض لا ينتبهون إليها، لإنشغالهم بفحص الآخرين، والوحدة، فرصة رائعة لفحص النفس.
الوحدة فرصة للخلوة مع الله: أن الناس قد ينصرفون عنا لعيب فينا، ونحن قد نبتعد عن الناس لعيب فيهم أو فينا، فنتألم لهذه الوحدة التي لم نعهدها. وقد ننتقل إلى موقع لا صديق لنا فيه، فنحس بحرمان وشوق. أو قد نفقد عزيزاً علينا، كان يملأ حياتنا فنتجرع لونا اخراً من الوحدة. لكن أعظم تعزية لنا ان هذه الوحدة التي نشكو منها لا يمكن أن تخرجنا عن حضرة الله الذي يملأ الكون. فحيثما وجد الإنسان، فان الله مشرف عليه، هامس في داخله، يحيطه برعايته ويفتقده في خلوته. وحين يتراجع الناس من حولنا تفتقدنا عناية الله، وحين يصمت ضجيج الالسنة، تتضح لنا همسات روح الله القدوس فيناه.
وفي نهاية الأمر،أن الله في محبته الفائقة لنا نحن جنس البشر، ييسر لنا احياناً فرص الخلوة عن قصد وحكمة إلهية. حتى يبعدنا عن كل المؤثرات التي تخدعنا، وليعطنا فرصة لفحص النفس في تواضع وإنكسار أمامه، بعيداً عن المديح الزائف، أو التدين الظاهري الذي نخدع به عيون البشر.
ان الله يخلينا من صخب العالم المحيط لنتوب بين يديه، عن كل ما قيدتنا به أفكار البشر من عبادات شكلية، وروحانية وقتية ليس لها أثر فعال في سلوكنا وحياتنا.
لعل أعظم ما تتميز به فترات الخلوة التي ينقطع فيها الإنسان عن الناس من حوله، إنها تتيح له صنع القارات الهامة في حياته، وأعظمها أن يعرف طريقه إلى الله معرفة حقيقية.
وطنى