بكاء في الكرمة- الأب/ متى عابدين
بكاء في الكرمة- الأب/ متى عابدين
بكاء في الكرمة
ما أجمل اللحظات التي أنظر فيها إلى الكرمة وأتأملها، أشعر بالفرح والبهجة لأنها دائما تذكرني بالسعادة، كما علمتنا طبيعة بلادنا، ورمزيّة عصير هذه الكرمة الذي إن وُجدّ هناك تكون الفرحة والبهجة بين الناس، وغيابه يُدخل إلى القلوب الحزن والكآبة، وتذكرت ما حدث في مدينتا قانا الجليل عندما نفذت الخمر في عرس وعم على الناس وأصحاب العرس الحزن والحيرة وكأنه بنهاية الخمر انتهت الفرحة، وعادت الفرحة عندما حول المسيح الماء إلى خمر، من هنا عرفت نادراً ما كان يدخل عصير الكرمة إلى بيت إلاّ بعلامات السرور والغبطة.وأنا خارج أسوار الكرمة غارقاً في تأملي هذا، والمعاني الجميلة سمعت صوت تنهدات بل يبدو أنه بكاء انسان داخل أسوار الكرمة، دُهشتُ لسماعي بكاء في الكرمة التي دائما بوجودها تُدخل الفرح إلى حياة الإنسان…
اقتربت متسلقاً الأسوار بتأني لأنظر ماذا يحدث، رأيت رجلاً يضع رأسه بين رجليه والدموع تنهمر من عينيه… سؤال قوي صار داخلي شدني للاقتراب منه لأعرف ماذا جرى وما سبب بكاء هذا الإنسان الذي يجاور الكرمة ولم يفرح ويبتهج كما عرفنا عن معنى وجود الكرمة في حياتنا…
ماذا جرى أيها الكرّام؟؟؟ حزنك جعلني أُصاب بالدهشة والحيرة… كيف تبكي وأنت تملك كرمة… رفع وجهه ناظراً أمامه بحزن شديد إلى كرمته كأنه ينظر إلى إنسان يوجه له عتاباً قوياً وبدأ يتكلم ويقول… كرمتي قدمت لها كل ما أملك وما يجب من الاهتمام، انتظرت منها ثمراً يُدخل إلى قلبي السرور، واأسفاه أثمرت لي حصرماً يبدو في شكله ثماراً وفي حقيقته ثماراً مزيفة لا تعطي فرحاً بل نفوراً واشمئزازا بدون طعم ولا فائدة. وسرعان ما نصبت نفسي حاكماً، كأني وجدت حلاً أنهي به حزن هذا الرجل، مقترحاً عليه أن يقطعها ولا يدعها تشغل الأرض دون فائدة، وعجبي زاد وكبرت دهشتي توقعت يسمع اقتراحي بتأكيد وترحاب، لكنه قابله برفض شديد وتام…
وشعرت قطع الكرمة كان سهل علي ولكن لم يكن سهلا عليه، لأنه هو صاحب الكرمة زرعها وأهتم بها ونمت على يديّه، كل هذا كان سبباً قوياً في استعداده أن يتركها لعلها تأتي بثمر، رغم ما سببت له من حزن…
وسريعاً قام بروح جديدة وعهد جديد آخذاً فأسه ينقب حولها مقتلعاً كل ما هو غريب يعوق نموها واضعاً كل ما يساعدها على النمو والإثمار. عندما رأيت هذا شعرت بخزي شديد لأن الحب يحمل الإنسان فوق كل ألم ويأس. خرجت من الكرمة في طريق عودتي تأملت كل ما عشته والدرس الذي تعلمته من موقف هذا الكرّام من كرمته… كيف أعطى وقدم كل شيء للكرمة وفي النهاية أثمرت حصرماً… هكذا يفعل الله معنا نتركه كثيرا مسببين له حزناً وألماً رغم ما يقدم لنا من عطايا لا تُحصى ويعود يرحمنا دون أن يتذكر أفعالنا كما فعل مع شعبه في البرية عمود غمام ومياه من الصخرة ومَنّ من السماء والشعب يقابل هذا بعبادة آلهة أخرى سواه، وأمام توبتنا لا يقول سوى ما قاله الأب الرحيم أمام أبنه الضال ” أبني هذا كان ضالاً فوُجد وكان ميتاً فعاش “.
ذكرني موقف هذا الكرّام أيضاً بأحكامنا على من هم خطأة وبدون ثمار، كما حكمت أنا على كرمة هذا الرجل بالقطع حالاً، أحكام تسهل علينا لأننا لم نعش بعد معنى الأخوّة لآب واحد، لكن الله حتى وإن كره خطايانا حاش أن يكرهنا نحن لأن جزء من كيان الله “ونفخ فيه من روحه” ووعدنا بالحب الكامل الذي لا يتوقف أمام حالنا ,وأمام التضحيات التي يتطلبها.
هذا الحب الذي لا يقلع الإنسان بل يقترب منه حاملا إياه رغم ما لحق به من أوساخ. وأخر دروسي التي تلقنتها في مدرسة هذا الكرّام، كم من الثمار المزيفة في حياتنا التي تبدو في شكلها ثماراً ولكن في حقيقتها أشكال من البر والفضيلة الدافع له الظهور أمام الناس كما فعل الفريسيون، لذا كثيراً ما نقدم أصواماً وصلوات وعبادات دون أن نعطي ثمراً ربما نعطي حصرماً.أحبائي إلهنا الكرّام الحقيقي مازال يبكي عندما ينظر إلى بعدنا وقلبنا الحجري، هل يوجد من يقترب ويسمح له هذا الدموع واعداً إياه بأن تصير حياته ورقة بيضاء يظهر عليها كل ما يسطره ويكتبه هذا الرب المحب، وبمحبته واستعدادنا نصنع ثمراً لا توقفه أي مصاعب أو أزمات لأنه هو الكرّام وما علينا نحن سوي التسليم الكامل لإرادته المُحبّه مطيعين عاملين بكل وصاياه.