تأمل في جمعة ختام الصوم الأربعيني – الأب / أنطونيوس فايز
يصل بنا قطار الصوم الأربعيني المقدس إلى محطته الأخيرة، يوم الجمعة، التالية لأحد التناصير، والتي يطلق عليها جمعة ختام الصوم، حسب طقس الكنيسة القبطية. في هذا اليوم تتلو الكنيسة صلوات رفع بخور باكر تتخللها قراءات النبوات والمطانيات ( السجدات)، يعقبها صلاة القنديل العام ( سّر مسحة المرضى)، وتختمه بالقداس الإلهي. في الواقع، عندما أقف أمام قراءات هذا اليوم يعتريني الدهشة والإعجاب. أقف ساجدًا خاشعًا من روعتها وأصالتها، ومعنها العميق المرتبط بمضمون هذا اليوم، وما سبقة من رحلة الصوم ، وما يعقبه من الأسبوع المقدس. أحاول معكم، في عجالة، الوقوف والتأمل في قراءات هذا الطقس الذي تتفرّد به الكنيسة القبطية.
تقدم لنا قراءات اليوم مقاربة رائعة بين مسيرة الإنسان كفرد وكجماعة في سفر التكوين وما عايشناه خلال مسيرتنا في زمن الصوم الأربعيني. ما اعترى الإنسان نتيجة الخطيئة الفردية والجماعية في سفر التكوين وما نختبره في حياتنا اليومية.
تتسم القراءات وتتمحور في الكشف عن التدبير الإلهي، حيث الله يفتقد شعبه والبشرية، الله يتمم وعده :” الله سيَفتَقِدُكم وُيصعِدُكم مِن هذه الأَرضِ إِلى الأَرضِ الَّتي أَقسَمَ علَيها لإِبراهيمَ وإِسْحقَ وَيعْقوب.” ( تك 50: 24)؛ ” لِأَنَّه كما أَنَّ السَّمَواتِ الجَديدة والأَرض الجَديدةَ الَّتي أَصنَعُها تَدومُ أَمامي، يَقولُ الرَّبّ فكذلك تَدومُ ذُرِّيَّتُكم وآسمُكم” ( اش 66: 22). هكذا يقودنا الرب يسوع ، قائد مسيرة حياتنا، من خلال رحلة الصوم الأربعيني، بالدخول في البرّية، ومواجهة التجارب المتنوعة، التي تناولناها عبر آحاد الصوم. إنها مسيرة توبة تتم من خلال اكتشاف الذات ومدى عمق خطيئتنا المستترة داخلنا، خلف أشكال وأقنعة متنوعة ( مع الابن الضال، والسامرية، وصولاً إلى كسيح بيت حسدا، وأخيرًا عودة البصيرة، بنور يسوع المسيح مع المولود أعمى). إنها مسيرة متكاملة تتحقق فيها أسّرار الكنيسة: سّر العماد… سّر التوبة والمصالحة… مع الله والذات والآخر، والإفخارستيا. نخوض هذه المسيرة مُسلحين بقوة الروح القدس الذي رافق يسوع ويرافقنا نحن أيضًا لنصل إلى غايتها في يوم جمعة ختام الصوم لننال نعمة الشفاء الكامل ( جسديًا، نفسيًا، وروحيًا)، من خلال سّر مسحة المرضى ( القنديل العام) :” هل فيكُم مَريض؟ فلْيَدْعُ شُيوخَ الكَنيسة، ولِيُصَلُّوا عليه بَعدَ أَن يَمسَحوه بِالزَّيتِ بِاسمِ الرَّبّ” ( يع 5: 14). هكذا تُختتم رحلة الصوم بالظفر والنصرة على الخطيئة ، وذلك فقط بقوة نعمة يسوع المسيح، الذي وهبنا الفداء بدمه. تلك النصرة التي حققها مٌسبقًا في تجاربه الأولى في البرّية، والتي تتطلب في الوقت نفسه، مسيرة توبة من جهة الإنسان المؤمن.
تُوجز قراءات النبوات نفس تلك المسيرة، مسيرة الآباء في سفر التكوين. بعد رواية السقوط الأولى وما يلها من سقطات عبر السفر كله سواء على المستوى الفردي ( قايين وهابيل)؛ أو المجتمعي ( نوح والطوفان)، تجسيدًا لتغلغل الخطيئة والوصول إلى عمقها في رواية يوسف البار وإخوته، التي تُظهر بعمق مدى التشرذم والانقسامات كثمرة الخطيئة وتوابعها. تقدم لنا القراءة الأولى في النبوءات ( تك 49، 50)، ختام سفر التكوين، حيث يجمع يعقوب أبناءه حوله، أسباط بنيه الاثني عشر، مودّعًا ومانحًا إياهم بركته الأخيرة. في الوقت نفسه، مُصالحة وغفران يوسف لإخوته : ” فقالَ لَهم يوسف: (( لا تَخافوا. أَلعَلِّيِ أَنا مَكانَ الله؟ أَنتُم نَوَيتُم عَلَيَّ شَرًا، واللهُ نَوى بِه خَيرًا، لِكَي يَصنَعَ ما ترَونَه اليَوم لِيَهَبَ الحَياةَ لِشَعبٍ كَثير. والآن لا تَخافوا: أَنا أَعولُكم أَنتُم وعِيالَكم ))”. هكذا أيضًا في ختام رحلة الصوم المبارك يجمعنا الله ( يجمع شعبه)، ليباركنا ويفتقدنا جميعًا، وننال مع يوسف وأخوته نعمة الغفران والمصالحة ليس فقط على المستوى الفري بل الجماعي أيضًا، كنيسة ترتحل في مسيرة توبة جماعية. هكذا بارك الرب يسوع بعد قيامته وانتصاره النهائي تلاميذه قبل صعوده ” وبَينَما هو يُبارِكُهم اِنفَصَلَ عَنهم ورُفِعَ إِلى السَّماءِ. فسَجَدوا له، ثُمَّ رَجَعوا إِلى أُورَشَليم وهُم في فَرَحٍ عَظيم” ( لو 24: 52).
في الواقع، الله لا يترك شعبه، ولا يتراجع عن وعده، بالرغم من ثقل خطايانا، لأن وعده وعد محبة مجانية. هذا ما تعلنه قراءات النبوءات التالية في ( ام 11: 23)؛ حيث الله يفتقد الأبرار. ليس ذلك فقط بل ينعم عليهم بالفرح والبهجة والنعيم في خاتمة سفر أيوب ( اي 42: 10- 12). حيث يقدم لنا سفر أيوب رحلة البار ومواجهته لقضية الشرّ وآلام البار، كأنها رحلة الصوم الأربعيني، والتي من خلالها نعبر جميعًا – كجماعة كنسيّة – لنصل إلى خاتمة خبرة أيوب قائلين معه:” فأجاب أَيُّوبُ الرَّبَّ وقال: ((قد عَلِمتُ أنَّكَ قادِرٌ على كُلِّ شَيء فلا يَستَحيلُ علَيكَ مُراد. مَن ذا الَّذي يُخْفي التَّدْبيرَ في غَيرِ عِلْم؟ إِنِّي قد أَخبَرتُ مِن غَيرِ أَن أُدرِك بِعَجائِبَ تَفوقني ولا أَعلَم. إِسمع فأَتَكَلَّم أَسألُكَ فأَخبِرْني. كُنتُ قد سَمِعتُكَ سَمعَ الأُذُن أَمَّا الآنَ فعَيني قد رَأَتكَ. فلِذلك أَرجعُ عن كَلامي وأَندَمُ في التُّرابِ والرَّماد)) ( أي 42: 1- 5). تتعاظم نغمة الفرح والنصرة مع خاتمة سفر اشعيا النبي ( نبي الرجاء ) مؤكدًا على افتقاد الله ليس فقط لشعبه بل للبشرية جمعاء ومجازاة الأشرار ( اش 66: 15- 22). هكذا يتماشى إنجيل باكر مع هذا التيار، تيار الحب الإلهي الذي لا يعرف الهزيمة، فيقدم لنا علامات الملكوت ( لو 17: 20- 21)، مٌعّلنًا الحقيقة التي أتمها يسوع بصلبه وقيامته: ” ملكوت الله في داخلنا”. إنها الحياة الجديدة التي يمنحنا إياها الرب: اتحاد وشركة، لا تقوى عليها الخطيئة من بعد: ” وهاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم ” ( مت 28: 20)، والتي تتطلب في الوقت نفسه فعل توبة مستمر( لو 17: 33). يتبع بولس الرسول هذا الخيط الذهبي للقراءات في ( 2 تي 3: 1- 9)؛ يقدم وصف دقيق للأزمنة الأخيرة وما يعتريها من وهن وضعف وانحدار حيث : الأنانية، الأنا مالية، اللامبالاة ، النفعيّة، الاستهلاكية، مع اقتراب مجيء الرب وافتقاده لأبنائه :” واعلَمْ أَنَّه سَتَأتي في الأَيَّام الأَخيرَة أَزمِنَةٌ عَسيرَة يَكونُ النَّاسُ فيها مُحِبِّينَ لأَنْفُسِهِمِ ولِلْمَال، صَلِفينَ مُتَكبِّرينَ شَتَّامين، عاصينَ لِوالديهم ناكِري الجَميلِ فُجَّارًا، لا وُدَّ لَهم ولا وَفاء، نَمَّامينَ مُفرِطينَ شَرِسينَ أَعْداءَ الصَّلاح، خوَّانينَ مُتَهَوِّرين، أَعمَتهُمُ الكَبرِياء، مُحبِّينَ لِلَّذَّةِ أَكثَرَ مِنهم لله، يظهِرونَ التَّقْوى ولكِنَّهمُ ينكِرونَ قُوَّتَها. فأَعرِضْ عن أُولئِكَ النَّاس”( الآيات 1- 5). أمام هذه التيارات العاصفة يحثنا الرب على الثبات، والتي هي ثمرة ما اختبرناه وتعّلمناه خلال رحلة الصوم، حيث شاركنا الرب مسيرته الخلاصية: ” شارَكْتَني في المَشَقَّات، شأنَ الجُندِيِّ الصَّالِحِ للمسيحِ يسوع. ما مِن أَحَدٍ يُجَنَّدُ يَشغَلُ نفْسَه بِأُمورِ الحَياةِ المَدَنِيَّة، إِذا أَرادَ أَن يُرضِيَ الَّذي جَنَّدَه. والمُصارِعُ أَيضًا لا يَنالُ الإِكْليلَ إِن لم يُصارِعْ صِراعًا شَرعِيًّا” ( 2 تي 2:3-4). بينما تركز قراءة سفر الأعمال على إعادة بناء شعب الملكوت ليصبح نورًا وملحًا لهداية شعوب الأرض ( اع 15: 14- 18). يصل بنا الإنجيل إلى القمة ( لو 13: 32- 35)؛ إتمام الخلاص في بُعده العملي أي شفاء البشرية، المتمثل في قوة إخراج الشياطين ( تحرير البشرية من عبودية الخطيئة، والتي حققها الرب يسوع في تجاربه الأولى وأخيرًا بقوة قيامته من بين الأموات). يقدم لنا القديس لوقا الإنجيلي هذا الصراع، مستخدمًا أسلوب الحبكة الدرامية : الصراع بين الخير والشر … هيرودس يبغي قتل يسوع، في الوقت نفسه، يسوع ينذر أورشليم التي تبدو في سلام هادئ مزيف، غارقة لأذانها في السلبية. مُؤكدًا على رغبة يسوع العميقة في أن يجمع أبناءه وشعبه حوله، كما جمع يعقوب أبناءه قبل رحيله ليباركهم، وإِنِّي أَقولُ لَكُم: لا تَرَونَني حتَّى يَأتيَ يومٌ تَقولونَ فيه: ((تَبارَكَ الآتي بِاسمِ الرَّبّ ! )).
مما سبق، نكتشف أن جمعة ختام الصوم هي بالحق خاتمة الصوم الأربعيني المقدس: مسيرة فردية وجماعية مع شخص يسوع القائم والمنتصر منذ أول وهلة. تتم وتتحقق هذه النصرة فينا، عندما نسير بصحبة يسوع، طوال فترة الصوم فرديًا – جماعيًا، حيث نواجه ذواتنا في البرّية، ونكتشف عمق خطيئتنا وأشكالها المتنوعة، يصحبها قوة الصوم والصلاة والصدقة القلبية ( في الخُفيّة). إنها رحلة اكتشاف الذات، رحلة العبور من أرض العبودية إلى أرض الموعد، إلي حرية أبناء الله. إنه يوم الاستشفاء العظيم، نمارسه من خلال أسّرار: المصالحة والمرضى والإفخارستيا. فيه يهبنا الرب يسوع قوة قيامته:” إِلاَّ أَنَّ ما كانَ في كُلِّ ذلِكَ مِن رِبْحٍ لي عَدَدتُه خُسْرانًا مِن أَجلِ المسيح، بل أَعُدُّ كُلَّ شَيءٍ خُسْرانًا مِن أَجْلِ المَعرِفَةِ السَّامية، مَعرِفةِ يسوعَ المسيحِ رَبِّي. مِن أَجْلِه خَسِرتُ كُلَّ شَيء وعدَدتُ كُلَّ شَيءٍ نُفايَة لأَربَحَ المسيحَ وأَكونَ فيه، ولا يَكونَ بِرِّي ذلك الَّذي يأتي مِنَ الشَّريعة، بلِ البِرُّ الَّذي يُنالُ بِالإِيمانِ بالمسيح، أَيِ البِرُّ الَّذي يأتي مِنَ الله ويَعتَمِدُ على الإِيمان، فأَعرِفَهُ وأَعرِفَ قُوَّةَ قِيامتِه والمُشارَكَةَ في آلامِه فأَتمثَّلَ بِه في مَوتِه، لَعَلي أَبلُغُ القِيامةَ مِن بَينِ الأَموات. ولا أَقولُ إِنِّي حَصَلتُ على ذلِكَ أَو أَدرَكتُ الكَمال، بل أَسْعى لَعَلِّي أَقبِضُ علَيه، فقَد قَبَضَ عَلَيَّ يسوعُ المسيح.”(في 3: 7-12). هنا نصل ونجد أنفسنا على عتبة يوم السبت التالي لجمعة ختام الصوم : ” سبت لعازر” ؛ إنه التحقيق الفعلي لما قدمنا آنفًا، في الوقت نفسه، هو حدث استباقي لمسيرة أسبوع الآلام التي تنتهي بقيامة الرب. هذا ما سوف نتناوله في المقالة القادمة.
الأب / أنطونيوس فايز