stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

عقائدية

خواطر في “لاهوت الأديان”(2)- بقلم الأب فاضل سيداروس اليسوعيّ

852views

religioniخواطر في “لاهوت الأديان”(2)- بقلم الأب فاضل سيداروس اليسوعيّ

ثالثًا ـ التفاعل مع سائر الأديان والمُعتقدات

الإشكاليّة

 نسعى لأن نرسم إطار الفِكر اللاهوتيِّ الذي ينبغي له أن يأخذ بالاعتبار ما يُحيط به من أديان ومُعتقدات ومُمارسات مُختلفة على مرِّ العُصور، كي يتّعظ بها اليوم، وذلك على مستويين مُتكاملين: البُعد الدينيّ العقائديّ والمؤسّسيّ بحدِّ ذاته، والبُعد التاريخيّ في العلاقات. وفي سبيل ذلك، نتجوّل في مُختلف الأديان والمُعتقدات والتقاليد.

الدين اليهوديّ

لا بُدّ مِن الكلام على اليهوديّة أوّلاً، نظرًا إلى أنّ يسوع وتلاميذه نشأوا يهود. وما يستدعي التشديد عليه هو موقفهم ـ لاسيّما موقف يسوع وبولس ـ من الدِّيانة اليهوديّة ومُمارساتها ومؤسّساتها. أضف إلى ذلك ما قاله بولس في روم 9 ـ 11 مِن رفض اليهود البُشرى وبالتالي إعلانها إلى الوثنيّين، كما رأينا؛ فضلاً عن مصيرهم في تاريخ البشريّة، ذلك بأنّ الله لا ينبذ شعبه المُختار، ولا ينقض عهده ووعوده، بالرغم مِن رفضهم هذا، بل لا يزال يُحبُّهم بالنظر إلى آبائهم، وذلك حتّى ينالوا بأجمعهم الخلاص.

إنّ ذلك الجانب اللاهوتيّ والروحيّ لا يمنع الباحث مِن أن يذكر تاريخ العلاقات بين الديانتين على مدى قُرون طويلة من نِزاعات وتنافس، ما أدّى في القُرون الوُسطى الغربيّة إلى تفاقُم المُعاداة الساميّة، ما يستدعي “تطهير الذاكرة” كما دعا إليه البابا يوحنّا بولس الثاني في مطلع الألفيّة الثالثة.  

وما يجب الإشارة إليه هو أنّ علاقة المسيحيّة باليهوديّة تظلُّ نُموذجيّة في العلاقة بسائر الأديان، لأنّ الكِتاب المُقدّس يتضمّن ذلك، فيُصبح بالتالي مِعيارًا ومِقياسًا للمسيحيّة، وإن تطلّب الأمر، بطبيعة الحال، التأقلم مع كُلِّ دين بحسب خصوصيّته.   

الثقافة الإغريقيّة الرومانيّة

لا مناصّ مِن الإشارة إلى أنّنا استعملنا عبارة “ثقافة” ولا “ديانة” لأنّ الدِّيانة اليونانيّة والدِّيانة الرومانيّة قد اندثرتا اليوم، وما يظلُّ منهما هو المحيط الثقافيّ (بمعناه الشامل كما حدّدناه). فعلاقتنا اليوم لا تختصُّ بدين بتمام معنى الكلمة، بل بمُحيط ثقافيٍّ له أهمِّيّته. 

ولتلك الثقافة وضعُها الخاصُّ في الفِكر اللاهوتيِّ المُعاصر، وذلك لسببين: أوّلاً لأنّها كانت مهد المُحيط المُتوسِّطيِّ حيث نشأت المسيحيّة، وذلك حضاريًّا ولُغويًّا، وسِياسيًّا واجتماعيًّا، كما هو وارد في جميع أسفار العهد الجديد. ثُمّ إنّ المسيحيّة قد عبّرت عن البُشرى بِعقليّة تلك الثقافة وبِلُغتها، إلى جانب العقليّة اليهوديّة، ما يوليها أهمِّيّة نُموذجيّة خاصّة؛ كما أنّ مسيحيّة القُرون الأُولى قد صاغت صرحها العقائديّ في أحضانها.

وتطبيقًا لذلك، يجب مُراعاة ثقافة الشُّعوب عند إعلان البُشرى لها، وذلك ما عُرف اليوم بـ “الانثِِـقاف”، أي التعرُّف إلى ثقافة شعب مُعيّن والتأثُّر بها ـ مِن حضارة وفلسفة وعقليّة ولُغة، ومِن اهتمامات وتطلُّعات وإشكاليّات… ـ لإعلان البُشرى له بلُغة يفهمها وتُناسبه، وذلك بموجب مبدأ “تجسُّد” الله الكلمة حيث نشأ وعاش في ثقافة يهوديّة، حضارةً ودينًا، وعقليّةً ولُغة. وإلى جانب مبدأ التجسُّد، هُناك مبدأ “العنصرة”، حيث منح الروح القُدس تلاميذ المسيح أن يتكلّموا لُغات الشُّعوب الاثني عشر الحاضرة في أثناء حُلوله، كي يُعلنوا البُشرى بلُغة يفهمها الحاضرون. وبالمِثل، انثقفت المسيحيّة الناشئة في الثقافة المُحيطة، أي اليهوديّة من جِهة، واليونانيّة الرومانيّة من جِهة أُخرى. ومِن ثَمّ، يتوجّب على كنيسة كُلِّ عصر وكُلِّ شعب أن تُكرِّر ما فعلته الكنيسة الناشئة. ويؤدّي ذلك إلى أنّ الخِطاب اللاهوتيّ المسيحيّ يغتني بتلك الثقافة، إذ يقتبس منها مُصطلحات وعِبارات، ومفاهيم ومقولات… يُعبِّر بها عن الوحي والإيمان.

الدين الإسلاميّ

 ما ينبغي الإشارة إليه هو أنّ الإسلام قد نشأ في مُحيط دينيٍّ وثقافيٍّ يهوديٍّ ـ مسيحيّ، ما نجد آثاره في المُعتقد الإسلاميّ، في مِثل وحدانيّة الله ومُحاربة الوثنيّة والأصنام، والاعتماد على الأنبياء والرُّسل، والإيمان بالآخرة… وكذلك قد نشأ في ظُروف انقسامات عقائديّة وسياسيّة بين الكنائس المسيحيّة، ما ساعده على انتشاره في حوض البحر الأبيض المُتوسِّط. أضف إلى ذلك أنّ التاريخ بينه وبين المسيحيّة واليهوديّة حافلٌ بعلاقات مُتوتِّرة لا يُمكن تجاهلها، ما يتطلّب نظرة موضوعيّة إلى هذا التاريخ تتجاوز الصِّراعات الماضية. ونذكر، على سبيل المِثال، أنّ الحُروب الصليبيّة تستدعي، للأمانة العِلميّة، دِراسات وأبحاث موضوعيّة بمنأى عن الروح التحزُّبيّة والمُنحازة، ما لا تتميّز به حتّى الآن. أضف إلى ذلك أنّه لا محالة مِن “تطهير الذاكرة”، وذلك مِن طرف الجميع، بُغية كِتابة تاريخ جديد على أُسس سليمة.

 ونودُّ أن نُظهر كيف أنّ الإسلام قد يُمثِّل فرصة للخِطاب اللاهوتيِّ المسيحيّ في سبيل التعمُّق في التعبير عن العقائد لاسيّما تلك التي شوّهتها بعضُ البِدع، أو أهملها في بعض الحقبات من التاريخ الكنسيّ، كما سبق أن تلمّسناه في تحليلنا الكِتابَ المُقدّس، لاسيّما في خُطبة بولس لأهل آثينة، وكذلك في “بُذور الكلمة” وفي “عمل الروح في جميع البشر”.

فعلى سبيل المِثال، إنّ قضيّة وحدانيّة الله، أو فَرادته، التي يوليها الإسلام أهمِّيّة مرموقة، قد تُساعد المسيحيّين الشرقيّين على أن يُعبِّروا عن العلاقة بين ثالوث الأقانيم ووحدتها تعبيرًا لاهوتيًّا قد يختلف بعض الشيء عن التعبير الغربيّ، في ضوء عِلم الكلام الإسلاميّ. ذلك بأنّ بعض الصِّيغ المسيحيّة، وليدةِ بِدعٍ تاريخيّة، قد توحي بالـ “الإشراك” الذي ناهضه القرآن صراحةً؛ فتلك الصِّيغ لا تُمثِّل إطلاقًا الإيمانَ المسيحيّ القويم الذي يُنادي بالتوحيد في التثليث (“باسم الآب والابن والروح القُدس، إلهٍ واحد”)، مِن دون الوُقوع في بِدعة “الشكليّة” التي ادّعت أنّ الأقانيم الثلاثة ليسوا سِوى تجلِّيات أو أشكال مُختلفة لأُقنوم واحد؛ وتظلُّ العلاقة بين “التوحيد” و”التثليث” سِرًّا إلهيًّا بتمام معنى الكلمة، أي ما يتجاوز تمامًا العقل البشريّ: الله المُتسامي المُتعالي أعظم وأكبر من التوحيد والتثليث، فلا يُمكن حصره في عِبارات أو صِيغ تُطمئن العقل؛ إنّ سِرّ الله موضع تأمُّل وإعجاب وتجاوز. 

وكذلك الأمر في سِرِّ “تسامي” الله المُطلق: إنّ تسامي الله وتعاليه لا يتنافيان إطلاقًا وكُمون الله بموجب تجسُّد الابن الأزليّ. وبالمِثل، إنّ الله “الكلمة” جديرٌ بأنّ تُخصَّص له تحليلات لاهوتيّة، لأنّه يُعتبَر قاسمًا مُشتركًا مع الإسلام الذي يُقرُّ بكلام الله، في حين أنّ “البُنوّة” الإلهيّة أمر مرفوض لديه تمامًا قلبًا وقالبًا. أضف إلى ذلك مكانة الكِتاب، حيث يعتبر الإسلام المسيحيّين “أهل الكِتاب”، في حين أنّهم يعتبرون أنفسهم “أهلَ شخص” يسوع المسيح أوّلاً وأخيرًا، وما الكِتاب سِوى تدوين اختبار سبق الكِتابَ نفسه. وكذلك وضعُ الشريعة يختلف تمامًا في الدِّيانتين، ففيما تعتمد الحياة الإسلاميّة على شريعة تُنظِّم جميع تفاصيل حياة مؤمنيها، تعتمد الحياة المسيحيّة على وصيّة المحبّة والتطويبات، وهي بمثابة اتِّجاه مبدئيّ… 

فقناعتنا هي أنّ المُحيط الإسلاميّ يفرض على المسيحيّة الشرقيّة أن تُعبِّر عن عقائدها تعبيرًا يكون مفهومًا لدى العقليّة الإسلاميّة، ما تمّ بالفعل في العُصور الوُسطى في المُناظرات والجِدالات اللاهوتيّة بين أئمّة المسيحيّة والإسلام. غير أنّه يجب التعبير عن ذلك بعقليّة القرن الذي نعيش فيه، فيُصبح ما تَمّ في القُرون الوُسطى مِثالاً مُفيدًا، لا مِعيارًا أو مِقياسًا، ذلك بأنّ لكُلِّ عصر فلسفته وعقليّته وتطلُّعاته واهتماماته… 

 وبوجه عامّ، نولي أهمّيّة بالغة لضرورة اعتبار الغيريّة إلى جانب الهُويّة في الخِطاب اللاهوتيّ، ذلك بأنّ العقليّة السائدة حاليًّا في الشرق العربيِّ تُشدِّد على هُويّة كُلِّ طرف، وعلى ما يُميِّز صاحبَه؛ غير أنّ “الهُويّات الفتّاكة” و”صِراع الحضارات” و”التعصُّب الدينيّ” و”الأُصوليّات” و”الأغلبيّة / الأقلِّيّة”… جميعُها تُهدِِّد الحضارة الإنسانيّة تهديدًا خطيرًا مُريبًا ينبغي للعقل السليم (يتكلّم الفيلسوف كانْطْ على “مَكر العقل” الذي يتدخّل دائمًا في الوقت المُناسب ليمنع من حُدوث الكوارث الحضاريّة) أن يتفادى الخطرَ بكُلِّ جرأة وحسم، بمنأى عن الروح الانفعاليّة والعاطفيّة التي تُسبِّب كوارث حضاريّة.       

دِيانات الشرق الأقصى

إنّ تِلك الدِّيانات تختلف اختلافًا كبيرًا عن سائر الأديان، ذلك بأنّها سابقة عن المسيحيّة، وبالرغم من ذلك فلم تعرفها المسيحيّة إلاّ مؤخَّرًا، وإن انتشرت المسيحيّة السُّريانيّة في الهِند أثناء القُرون الأُولى مِن العصر المسيحيّ، وكذلك النسطوريّة في الصين؛ غير أنّ التعارف والتفاعل لم يتمّا فِعليًّا إلاّ مع عصر النهضة الأوروبِّيّة مع قُدوم الإرساليّات. وما اكتشفناه في خُطبة بولس إلى أهل آثينة ينطبق تمامًا على تلك الدِّيانات مِن حيث إيمانها الصادق – وإن غير كامل – بآلهتها، وكذلك الأمر في ما يتعلّق بـ “بُذور الكلمة” الكامن فيها، وبـ “عمل الروح في جميع البشر” إذ يتعامل اللهُ معها ويُنعم عليها إنعاماته مُنذ القِدم، بغضِّ النظر عن وثنيّتها وأصنامها، ما سمح لها بأن تستمع إلى البُشرى وتقبلها. 

وما ينبغي الإشادة به في هذا الصدد هو سخاء المُرسَلين المسيحيّين وأمانتهم وروحهم الإنجيليّة الخالصة، وقد تركوا بلادهم ليُعلنوا المسيح بحسب وصيّته تعالى بالذهاب إلى الخلق أجمعين، وتقبّلوا الإهانة والاضطهاد، والعداء والاستشهاد. ولكن ما يجب الاعتراف به أيضًا هو أساليب السُّلطات السياسيّة الغربيّة التي رافقت الإرساليّات حتّى إنّها شوّهت صورة المسيحيّة ونقاء الإنجيل لدى شُعوب الشرق الأقصى هذه. ويقع على عاتق الفِكر اللاهوتيِّ التمييزُ بين الظاهرتين، الأُولى إيمانيّة، والثانية سياسيّة. كما أنّه يجب الأخذ بالاعتبار كون بعضهم ينظرون إلى شخص يسوع وإلى تعاليمه السامية نظرةً مُتعاطفة إيجابيّة، إلى جانب الذين يرفضون شخصه.

وقد خطا الفِكر اللاهوتيُّ المسيحيُّ في العُقود الأخيرة خطوات كبيرة، أظهرت نِقاط التقاء بين التقليدين: على سبيل المِثال “الغُورو” ( : Guruالمُرشد والمُعلِّم)، حيث اعتبر بعضُ الآسيويّين شخصَ يسوع واحدًا مِنهم، ولكنّ الحقّ يُقال إنّ شخصيّة يسوع تختلف كُلّ الاختلاف عن ذلك، وإن اشتركت في بعض ملامحها. ويُمثِّل ذلك غِنًى للمسيحيّة في تعميق مُعتقداتها وروحانيّتها، كما سبق أن رأيناه في خُطبة بولس إلى أهل آثينة، كما وفي “بُذور الكلمة” وكذلك في “عمل الروح في جميع البشر”. غير أنّ نِقاط الاختلاف الجوهريِّ تتمثّل بوجه خاصٍّ بأنّ التجلِّيات الإلهيّة مُتعدِّدة في دِيانات الشرق الأقصى التي تستطيع أن تعترف بأنّ تجلّيها في شخص يسوع واحد مِنها، لا الوحيدة والمُطلقة، على نقيض مُعتقد المسيحيّة بوحدانيّة المسيح وفرادته؛ وقد عبّرت السُّلطات الكنسيّة الرومانيّة عن شديد تحفُّظها وحذرِها مِن الحِوار الذي قد يؤدّي إلى “نِسبيّة” الحقيقة الإلهيّة، بِحسب الثقافات والأديان، بيْد أنّ المسيحيّة تُنادي بـ “مُطلقيّتها” في تجسُّد الله الكلمة ووحدانيّتها.

المُعتقدات التقليديّة 

في العديد من البُلدان الإفريقيّة والآسيويّة، ثمّة مُعتقدات تقليديّة تُشبه الدِّيانات، مبنيّة أساسًا على الطُّقوس الخاصّة بالأجداد وعلى الإيمان بأساطير، كما وعلى مُمارسة السِّحر. وهي أيضًا لم تتعرّف إلى المسيحيّة إلاّ مؤخَّرًا مع ظاهرة الإرساليّات مِن جِهة، والحضارة الغربيّة مِن جِهة أُخرى. وأمّا تعامل المسيحيّة معها فيخضع للمِعيار الذي وضّحه بولس في خُطبته إلى أهل آثينة، وكذلك بموجب اعتراف يوستينُس بـ “بُذور الكلمة”، وتأكيد المجمع الفاتيكانيِّ الثاني “عمل الروح في جميع البشر”، وذلك في شأن مُعتقداتهم ومُمارساتهم. 

 وإنّ بعضهم يقبل المسيحيّة، وبعضهم يرفضها، وبعضهم يقبلها مع بعض التحفُّظ. وبهذا الشأن، يجب التوضيح أنّها، على خِلاف ما سبق مِن أديان ذكرناها، ليست لها كُتب مُقدّسة، ما يُمثِّل فُرصة وخطرًا. أمّا الفُرصة، فتكمن في أنّها تتقبّل البُشرى بروح استعداديّة أكثر انفتاحًا مِن التي لها كِتاب وعقائد مُحدّدة واضحة المعالم، مُعتبرةً أنّ البُشرى المسيحيّة تستطيع أن تحترم تقاليدها وتدمجها، بل وأن تُكسبها أبعادًا جديدة.  

كما أنّ المسيحيّة تستطيع أن تتعمّق في إيمانها وفي عِباراتها الإيمانيّة إذ تستعين بخِبرة غيرها من البشريّة. هكذا نشأ في العُقود الأخيرة “لاهوت أفريقيّ” أو “أسود”، وكذلك “لاهوت آسيويّ” أو “أصفر”، مُعبِّرًا عن تفاعل الخِطاب اللاهوتيِّ المسيحيِّ التقليديِّ مع تلك المُعتقدات. نذكر على سبيل المِثال في “اللاهوت الأفريقيِّ” كونَ يسوع “شافياً” (Guérisseur) لأنّ ظاهرة الشِّفاء تُمثِّل عُنصرًا أساسيًّا في الحياة الشخصيّة والاجتماعيّة؛ غير أنّ يسوع أعظم مِن شافٍ، لأنّه يشفي الأرواح مِن سُلطان الخطيئة، ولا الأجساد فقط مِن سُلطان المرض. وكذلك كون يسوع “بِكر الأجداد” (Proto-Ancêtre)، غير أنّه “بِكر الأموات” الذي خلّص جميع أجداد البشريّة. وهُناك مثل آخر في أفريقيا يكمن في كون “الكنيسة عائلةً كُبرى”، نظرًا إلى أهمِّيّة هيكليّة العائلة في مِثل هذه المُجتمعات؛ في حين أنّ التقليد المسيحيّ السائد يُعبِّر عن كون “العائلة كنيسة صُغرى” (يوحنّا ذهبيّ الفم).   

غير أنّ خطر مُرونة تلك المُعتقدات التقليديّة يتمثّل بأنّها قد تبحث عن تراضٍ (ولذا فهي قد تقبل الدعوة الإسلاميّة أو البوذيّة أيضًا)، ما قد يتنافي مع المسيحيّة وجذريّة الإنجيل. ومِن ثَمّ فتمييز اللاهوتيّين المسيحيّين واجبٌ بين ما يُمكن استيعابه وما لا يجوز قبوله في مِثل حالات تلك “الانتماءات المُزدوجة”، إذ إنّ بعض المُمارسات الطقسيّة والمواقف الروحيّة مقبولة لأنّها تتماشى والحياة المسيحيّة، وبعضها غير مقبولة لأنّها تُمثِّل مزيجًا توفيقيًّا يتنافى وجذريّة الإنجيل.

الفلسفات والإيديولوجيّات المُعاصرة

 ما قلناه في الأديان وفي شِبه الأديان، يُمكننا قوله في الفلسفات والإيديولوجيّات المُعاصرة من حيث ضرورة التفاعل معها في عصر العوْلَمة. فلم تُواكب الكنيسة بالقدر الكافي التطوُّرات الفِكريّة الجريئة في “عصر الأنوار” (القرن الثامن عشر)، وفي “الثورة الصِّناعيّة” (القرن التاسع عشر)، وفي “الفلسفة والعُلوم الإنسانيّة الإلحاديّة” (القرن العِشرين). ولذا فقد حثّ المجمعُ الفاتيكانيُّ الثاني (في مُنتصف القرن العِشرين) على التفاعل مع جميع المُجتمعات البشريّة، على اختلاف أنواعها. كما أنّ كنيسة المجمع الفاتيكانيِّ الثاني حضّت على “الانثِـقاف” في عالم اليوم، ولاسيّما عصر “العوْلمة”، كما قامت به على مرِّ تاريخها، وذلك بالأمانة على “وديعة الإيمان” الثابت عِبر العُصور والأماكن؛ وبالإبداع في التعبير عنها بما يتناسب ومُقتضيات العصر، آخذةً بالاعتبار كُلَّ جديد في القضايا المطروحة، والتطلُّعات الناشئة، والمناهج المُتّبعَة، ومُغربلةً إيّاها في ضوء الإنجيل، لأنّ الإنجيل الخالد هو إنجيل مُتجسِّد “هُنا والآن”؛ ولأنّ ذلك النِّتاج الفِكريّ الإنسانيّ يتضمّن هو الآخر “بُذور الكلمة” ويفترض “عمل الروح في جميع البشر”. 

الخاتمة

حاولنا إظهار بُعديْن في “لاهوت الأديان”، وهما تطلُّبان للفِكر اللاهوتيِّ المسيحيِّ في علاقته بسائر الأديان والمُعتقدات والتقاليد: 

أوّلاً على الفِكر المسيحيِّ أن يأخذ بالاعتبار، لا حقائق الأديان الموضوعيّة والنظريّة فحسب، بل وضعها التاريخيّ أيضًا: متى نشأت، وكيف بدأت علاقتها بالمسيحيّة وكيف تطوّرت، وما موقفها مِن شخص المسيح، وما تأثيرها في الدين المسيحيّ، وذلك جُزء مُهمٌّ مِن “لاهوت الأديان”: كيف أثّر هذا الدين أو ذاك أو ذلك في صِياغة الصرح الكتابيِّ والعقائديّ (اليهوديّة، والثقافة اليونانيّة الرومانيّة)، وفي تعميق الإيمان والروحانيّة (سائر الأديان والمُعتقدات)، لأنّ جميع الحضارات الدينيّة والإنسانيّة جديرة بالتفاعل معها. ذلك ما يعود، في نِهاية المطاف، إلى فائدة تكتسبها المسيحيّة بتعمُّقها في إيمانها الخاصّ، كما وفي تعبيرات إيمانها، وذلك بفضل احتكاكها واغتنائها بتلك الأديان، إذ تتلمّس فيها “بُذور الكلمة” و “عمل الروح في جميع البشر”.   

وفي الوقت عينه، حتّى يكون الفِكر اللاهوتيُّ سديدًا مبنيًّا على أساس سليم، يتحتّم عليه ألاّ يُفقد المسيحيّةَ هُويّـتَها، مِن سِمات تختصُّ بها ومُميِّزات تستأثر بها، وإلاّ وقعت في خطر “النِّسبيّة” حيث جميع الأديان تتساوى، في حين أنّ وحدانيّة الوحي واستقامة الإيمان لا يقبلان إلاّ “مُطلقيّة” الهُويّة و”جذريّتَها”، مُرتبطةً بـ”الغيريّة”، أي بانفتاحها على “الآخَر المُختلف”، في تفاعل يجني مِنه الجميعُ فائدة عُظمى.

عن مجلة صديق الكاهن العدد الأول2010