stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

البابا والكنيسة في العالم

رسالة قداسة البابا فرنسيس في مناسبة اليوم العالمي السّابع للفقراء

329views

رسالة قداسة البابا فرنسيس

في مناسبة اليوم العالمي السّابع للفقراء

19 تشرين الثّاني/نوفمبر 2023

“لا تُحَوِّلْ وَجهَكَ عن فَقير” (طوبِيّا 4، 7)

1. اليوم العالمي للفقراء، علامة خصبة لرحمة الآب، ترافق مسيرة جماعاتنا للمرّة السّابعة. إنّه موعد أخذت الكنيسة بتجذيره تدريجيًا في عملها الرّعوي، لتكتشف أكثر فأكثر مضمون الإنجيل الرّئيسيّ. كلّ يوم نحن ملتزمون باستقبال الفقراء، وهذا لا يكفي. نهر الفقر يجتاز مدننا ويكبر أكثر فأكثر حتّى يفيض. يبدو أنّ هذا النّهر يغمرنا، وصراخ الإخوة والأخوات الذين يطلبون المساعدة والدّعم والتّضامن يعلو ويزداد. لهذا فإنّنا نلتقي في يوم الأحد الذي يسبق عيد يسوع الملك، ونجتمع حول مائدته لنتسلَّم منه مرّة أخرى العطيّة والالتزام بـأن نعيش الفقر وأن نخدم الفقراء.

“لا تُحَوِّلْ وَجهَكَ عن فَقير” (طوبِيّا 4، 7). تساعدنا هذه الآية على فهم جوهر شهادتنا. لنتوقّف عند سفر طوبِيّا، وهو كتاب غير معروف كثيرًا من العهد القديم، جذَّاب ومليء بالحكمة. سيسمح لنا بأن نفهم المضمون الذي يريد الكاتب المُلهَم أن يبلِّغَنا إياه. أمامنا مشهد من الحياة العائليّة: الأب، طوبيت، يسلِّم على ابنه، طوبيّا، الذي هو على وشك الانطلاق في رحلة طويلة. يخشى طوبيت المتقدّم في السّن أنّه لن يتمكن من رؤية ابنه مرّة أخرى، ولهذا يترك له ”وصيته الرّوحية“. هو أحد المَجلُوِّين إلى نينوى، وهو اليوم أعمى، وبالتالي كان فقيرًا مرّتين، لكنّه كان دائمًا متأكِّدًا، بحسب ما يعني اسمه، أن ”الرّبّ طيِّبٌ“. هذا الرّجل الذي وضع ثقته في الرّبّ دائمًا، وكان أبًا مُحِبًا لم يُرِدْ أن يترك لابنه فقط بعض الخيرات المادية، بل شهادة الطّريق التي يجب أن يتبعها في الحياة، ولهذا قال له: “آذكُرِ الرَّبَّ، يا بُنَيَّ، جَميعَ أَيَّامِكَ، ولا تَرْضَ بِأَن تَخطأَ وتَتَعَدَّى وَصاياه. اعمَل أَعْمالَ البِرِّ جَميعَ أَيَّامِ حَياتِكَ، ولا تَسلُكْ سُبُلَ الإِثْم” (4، 5).

2. يمكن أن نلاحظ على الفور، أنّ الذّكرى التي طلبها طوبيت المتقدّم في السّن من ابنه لا تقتصر على مجرد ذاكرة أو صلاة موجّهة إلى الله، بل يوصيه بأعمال محسوسة هي القيام بأعمال الخير وبالعيش في البرّ والصّلاح. ويبيِّن بِمَ تقوم نصيحته فيقول: “شأنَ الَّذينَ يَعمَلونَ بِالبِرّ. تَصَدَّقْ مِن مالِكَ ولا تُحَوِّلْ وَجهَكَ عن فَقير” (4، 7).

تدهشنا كثيرًا كلمات هذا الشّيخ الحكيم. لا ننسى، في الواقع، أنّ طوبيت فقد بصره بعد أن قام هو نفسه بعمل خير. كما روى هو نفسه، كانت حياته منذ صغره مكرَّسة لأعمال المحبّة: “تَصَدَّقتُ كَثيرًا على إِخْوَتي وعلىَ بَني أُمَّتي الَّذينَ جُلوا معي الى نينَوى في بِلادِ أَشُّور. […] فكُنتُ أُقَدِّمُ خُبْزي لِلجِياعِ وثيابًا لِلْعُراة، وإِذا رَأَيتُ أَحَدًا مِنِ بَني أُمَّتي قد ماتَ وأُلقِيَ مِن وَراء أَسْوارِ نينوى، كُنتُ أَدفِنُه” (1، 3. 17).

من أجل شهادة المحبّة هذه، حرمه الملك من جميع خيراته، فصار فقيرًا معدومًا. ومع ذلك، كان االله لا يزال بحاجة إليه. فبعد أن عاد إلى منصبه في الشُّؤُون الإِدارِيَّة، لم يخَفْ أن يستمرّ في أسلوب حياته. لنصغِ إلى قصته، التي تخاطبنا اليوم أيضًا: “في عيدِنا، عيد العَنْصَرَة، أو عيد الأسابيع، أُقيمَت لي مأدُبَةٌ فاخِرة، وجَلَستُ لِلطَّعام وقُرِّبَت إلَيَّ المائِدَة وجيءَ لي بِألْوانٍ كَثيرة. فقُلتُ لِطوبِيَّا آبني: هَلُمَّ، يا بُنَي، ومَن تَجدُه فقيرًا يَذكُرُ الله بِكُل قَلبِه بَينَ إِخوَتنا المَجلُوِّينَ الى نينَوى، فأتِ بِه لِيُشارِكَني في الطَّعام. وها إِنِّي في آنتِظارِكَ، يا بُنَيَّ، إِلى أن تعود” (2، 1-2). كم يكون مناسبًا وذا مغزًى، في يوم الفقراء، لو كان اهتمام طوبيت هذا هو اهتمامنا أيضًا! أن ندعُوَ إلى مشاركتنا غداء يوم الأحد، بعد أن تشاركنا في المائدة الإفخارستيّة. فتصير الإفخارستيا التي احتفلنا بها، عامل شركة ووَحدة حقًّا. من ناحية أخرى، إن كنا ندرك ونحن حول مذبح الرّبّ أنّنا جميعًا إخوة وأخوات، ستظهر هذه الأخُوّة من خلال مشاركة طعام العيد مع الذين يفتقرون إلى ما هو ضروري!

فَعَلَ طوبيّا ما قاله له والده، لكنّه عاد مع خبر بأن فقيرًا كان قد قُتِلَ وتُرِكَ في وسط ساحة المدينة. فقام طوبيت المسِنّ، دون تردّد، من على المائدة وذهب لدفن الرّجل. وعندما عاد إلى بيته متعبًا، نام في ساحة داره. فسقط ذَرقُ طيرٍ في عينيّه وأصيب بالعمى (راجع 2، 1-10). من سخرية الأقدار أنّك تقوم بعمل محبّة وتقع عليك مصيبة! قد يكون هذا فكرنا. لكن الإيمان يعلّمنا أن ننظر فيما هو أعمق. سيصير عمى طوبيت قوّةً فيه للتعرّف على أشكال الفقر العديدة التي كانت تحيط به. وسيرى الله في الوقت المناسب، ويرُدُّ البصر للوالد الشّيخ، ويمنحه الفرح برؤية ابنه طوبِيَّا مرّة أخرى. ولما جاء ذلك اليوم، “أَلْقى طوبيت بِنَفْسِه على عُنُقِه وبَكى ثُمَّ قال: إِنِّي أَراكَ يا وَلَدي ونورَ عَينَيَّ. وأَضاف: مُبارَكٌ الله ومبارَكٌ أسمُه العَظيم! مُباركةٌ جَميعُ مَلائكتِه القِدّيسين! مُباركٌ آسمُه العَظيم أَبَدَ الدُّهور! لأَنَّه ضَرَبَني فَرحِمَني ولِأَنِّي أَرى طوبِيَّا آبْني” (11: 13-15).

3. يمكننا أن نتساءل: من أين يستمّد طوبيت الشّجاعة والقوّة الدّاخليّة التي تسمح له بأن يخدم الله في وسط شعب وثني وأن يحبّ قريبه إلى هذا الحدّ، إلى حدّ المخاطرة بحياته؟ نحن أمام مثالٍ غير عادي: طوبيت زوج مخلِص وأب حنون. تمّ جَلاؤه بعيدًا عن أرضه وهو يتألّم ظلمًا. اضطهده الملك وكذلك جيران بيته… كان طيِّبًا وصالحًا، ومع ذلك ابتُلِيَ بالمحن. كما يعلّمنا الكتاب المقدّس غالبًا، إنّ الله لا يبعد المحن عمَّن يصنع الخير. كيف يكون ذلك؟ إنّه لا يعمل ذلك لإذلالنا، بل ليثبِّتَ إيماننا به.

طوبيت، في لحظة المحنة، اكتشف فقره، الذي جعله قادرًا على التّعرّف على الفقراء. كان أمينًا لشريعة الله وحافظًا للوصايا، لكن هذا لم يكن كافِيًا له. صار يهتمّ فعلًا بالفقراء لأنّه اختبر الفقر في نفسه. لذلك، الكلام الذي وجّهه لابنه طوبيّا هو ميراثه العفوي: “لا تُحَوِّلْ وَجهَكَ عن فَقير” (4، 7). باختصار، عندما نواجه شخصًا فقيرًا، لا يمكننا أن نحوّل نظرنا بعيدًا عنه، لأنّنا بذلك نمنع أنفسنا من أن نلتقي وجه الرّبّ يسوع. ولنلاحظ جيّدًا هذه العبارة “عن فقيرٍ” أي عن كلّ فقير. كلّ واحد هو قريبنا. لا يهمّ لون البشرة، والحالة الاجتماعيّة، ومن أين هو… إن كنتُ فقيرًا، يمكنني أن أتعرّف على من هو الأخ الذي يحتاج إليَّ حقًّا. نحن مدعوّون إلى لقاء كلّ فقير وكلّ نوع من أنواع الفقر، ومدعوّون إلى التّخلّص من اللامبالاة والقول ”هذا أمر عادي“، به نظن أنّنا نحمي رفاهنا الوهمي.

4. نحن نعيش فترة تاريخيّة لا تشجّع على الانتباه إلى الفقراء. نداء الرّفاهية يرتفع ويزداد، بينما نُسكِت أصوات الذين يعيشون في الفَقر. نميل إلى إهمال كلّ ما لا يدخل ضمن نماذج الحياة التي نوجِّه إليها خصوصًا الأجيال الشّابّة، التي هي الأضعف أمام التّغيّر الثّقافي الحالي. نضع بين قوسين ما هو غير سارّ ويسبّب الألم، بينما نكبّر الصّفات الجسديّة كما لو كانت الهدف الرّئيسي الذي يجب أن نحقّقه. ويسيطر الواقع الافتراضي على الحياة الواقعيّة، والخلط بين العالمَين يزداد بسهولة. يصير الفقراء صورًا يمكن أن تحرك المشاعر للحظات قليلة، لكن عندما نلتقي بهم شخصيًّا في الطّريق، حينئذ يَغلِب علينا الانزعاج والتَّهميش. السُّرعة، التي صارت رفيقة درب في حياتنا اليوميّة، تمنعنا من أن نتوقّف لنساعد الآخر ونعتني به. مَثَلُ السّامري الرّحيم (راجع لوقا 10، 25-37) ليس قصّة من الماضي، بل هو مَثَلٌ يُخاطب كلّ واحد منّا اليوم في هذا الزّمن الحاضر. من السّهل أن نفوّض الآخرين، وأن نعطِيَ المال حتّى يقوم الآخرون بأعمال المحبّة: إنّه عمل صالح، لكن المشاركة شخصيًّا في هذه الأعمال هي دعوة كلّ مسيحيّ.

5. لنشكر الرّبّ يسوع لأنّه يوجد رجالٌ ونساءٌ كثيرون يعيشون بتفانٍ مع الفقراء والمُستبعدين ويتشاركون معهم، وأشخاصٌ من جميع الأعمار والظّروف الاجتماعيّة يستقبلون ويلتزمون ببقائهم قُربَ الذين يوجدون في أوضاع تهميش ومعاناة. هؤلاء ليسوا رجالًا خارقين، بل هُم ”جيران“ نلتقي بهم كلَّ يوم، وهم بِصَمت يصيرون فقراء مع الفقراء. هُم لا يكتفون بأن يقدّموا شيئًا ما: بل يُصغون ويتحاورون ويحاولون أن يفهموا المواقف وأسبابها، لكي يقدّموا النّصائح المناسبة ويدُلُّوا على المرجعيّات الصّحيحة. وهُم متنبّهون إلى الحاجة الماديّة والرّوحيّة أيضًا، لتنمية الإنسان الكامل في الشّخص. وبهذه الخدمة السّخية والمجّانيّة، يصير ملكوت الله حاضرًا ومرئيًّا. ويصير مثل البِذرة التي تقع في الأرض الطّيّبة في حياة هؤلاء الأشخاص، فتعطي ثمارها (راجع لوقا 8، 4-15). شُكرُنا للمتطوّعين الكثيرين يطلب منّا أن نصلّي لكي تكون شهادتهم مثمرة.

6. في الذّكرى السّنويّة السّتّين للرّسالة البابويّة العامّة، السّلام على الأرض (Pacem in terries)، من الضّروري أن نستعيد كلمات القدّيس البابا يوحنّا الثّالث والعشرين: “كلّ إنسان له الحقّ في الوجود، وفي السّلامة الجسديّة الكاملة، ووسائل الحياة الأساسيّة والكافية ليعيش في مستوى حياة كريمة، لا سيّما فيما يتعلّق بالمأكل والملبس والمسكن والرّاحة والرّعاية الطّبيّة والخدمات الاجتماعيّة الضّروريّة، وبالتّالي له الحقّ في الضّمان في حالة المرض والعجز والتّرمّل والشّيخوخة والبطالة، وفي كلّ حالة أخرى فيها يفقد وسائل العيش بسبب ظروف خارجة عن إرادته” (رقم 6).

كم علينا أن نعمل بعد حتّى تصير هذه الكلمات حقيقة، وأيضًا من خلال التزام سياسيّ وتشريعيّ جادّ وفعّال! على الرّغم من حدود وفشل السّياسة أحيانًا في رؤية وخدمة الخير العام، يمكن أن يطوّر التّضامنَ واللامركزيّةَ لدى الكثير من المواطنين الذين يؤمنون بقيمة الالتزام الطّوعي للتّفاني من أجل الفقراء. بالتّأكيد، علينا أن نحفّز ونضغط حتّى تقوم المؤسّسات العامّة بواجبها على أكمل وجه. ولا ينفعنا أن نبقى غير فعّالين وننتظر أن نتلقّى كلّ شيء ”من فوق“: فمن يعيش في حالة فَقر، يجب أيضًا أن نُشرِكَهُ ونُرافِقَهُ في مسيرة التّغيير والمسؤوليّة.

7. مرّة أخرى، للأسف، علينا أن نلاحظ أشكالًا جديدة من الفَقر تُضاف إلى تلك التي ذكرناها من قبل. أفكّر بشكل خاصّ في الشّعوب الذين يعيشون في أماكن الحرب، وخاصّة الأطفال المحرومين من حاضر هادئ ومستقبل كريم. لا يستطيع أحد أبدًا أن يعتاد على هذه الحالة. لندعم ونؤيّد كلّ محاولة لإحلال السّلام وتثبيته، عطيّةً من الرّبّ يسوع القائم من بين الأموات وثمرةً للالتزام من أجل العدل والحوار.

لا يمكنني أن أنسى التّلاعبات الماليّة التي أدّت، في قطاعات مختلفة، إلى ارتفاع الأسعار بصورة مأساويّة، ومِن ثَمَّ إلى ازدياد فقر عائلات كثيرة. تنفد الأجور بسرعة، فتُجبر على الحرمان الذي يهدّد كرامة كلّ شخص. توجد عائلات يجب أن يختار أفرادها بين الطّعام وبين الأدوية للعلاج. هذا يعني أنّه يجب على الذين يدعون إلى الحقّ أن يُسمعوا صوتهم من أجل كِلا الأمرين، باسم كرامة الإنسان.

علاوة على ذلك، كيف يمكننا ألّا نلاحظ الاضطراب الأخلاقي الذي يميّز عالم العمل؟ المعاملة اللاإنسانيّة التي يعاني منها الكثير من العمّال والعاملات، والأجر غير المتكافئ عن العمل المُنجز، وآفة عدم الاستقرار، وضحايا الحوادث الكثيرة، غالبًا بسبب العقليّة التي تفضّل الرِّبح الفوري على حساب السّلامة… تتبادر إلى ذهني كلمات القدّيس يوحنّا بولس الثّاني: “الأساس الأوّل لقيمة العمل هو الإنسان نفسه. […] الإنسان مُوجَّه ومدعُوٌّ إلى العمل، لكن العمل أوّلًا هو ”من أجل الإنسان“، وليس الإنسان ”من أجل العمل“” (الرّسالة البابويّة العامّة، ”القيام بالعمل“ Laborem exercens ، 6).

8. هذه اللائحة، التي هي بحدّ ذاتها مأساويّة، تقدّم عرضًا جزئيًّا فقط لحالات الفقر التي تشكّل جزءًا من حياتنا اليوميّة. لا يمكن أن أتجاهل، خصوصًا، شكلًا من أشكال القلق الذي يبدو ويظهر واضحًا اليوم في عالم الشّباب. كم من الإحباط، وحتّى حالات الانتحار بين الشّباب الذين خدعتهم ثقافةٌ قادتهم إلى طرق مسدودة وإلى الفشل.. لنساعدهم على أن يقاوموا أمام هذه العوامل القتالة، حتّى يستطيع كلّ واحدٍ أن يجد طريقه ويصنع لنفسه هويّة مبنية على القوَّة والكرامة.

عندما نتكلّم على الفقراء، من السّهل أن نتوقّف عند الخطابة. وتجربة أخرى شريرة أيضًا هي وقوفنا عند الإحصائيّات والأرقام. الفقراء هُم أشخاص، ولهم وجوه وتاريخ وقلوب وأرواح. إنّهم إخوة وأخوات بمواطن القوّة والضّعف فيهم، مثل الجميع، ومن المهمّ أن ندخل في علاقة شخصيّة مع كلّ واحدٍ منهم.

سفر طوبيّا يعلّمنا كيف نتعامل في الواقع مع الفقراء وماذا نعمل من أجلهم. إنّها مسألة عَدل تُلزمنا كلّنا أن نبحث ونلتقي بعضنا مع بعض، لتعزيز الانسجام الضّروري، حتّى تستطيع الجماعة أن تكون فعلًا جماعة. لذلك، اهتمامنا بالفقراء لا ينتهي بإعطائنا لهم بعض الصّدقة السّريعة، بل يتطلّب منّا أن نعيد تحديد العلاقات الشّخصيّة الصّحيحة التي أزالها الفقر. بهذه الطّريقة، تقودنا الآية ”لا تحوِّل نظرك عن الفقير“ إلى فوائد الرّحمة والمحبّة التي تعطي معنى وقيمة للحياة المسيحيّة كلّها.

9. ليكُنْ اهتمامنا بالفقراء مُتَّسمًا دائمًا بالواقعيّة الإنجيليّة. يجب أن تكون مشاركتنا متناسبة مع احتياجات الآخر الحقيقيّة، وليس فقط إعطاء بعض الفائض من مالي. هنا أيضًا، نحن بحاجة إلى التّمييز، بقيادة الرّوح القدس، لكي نرى احتياجات الإخوة الحقيقيّة، وليس تطلّعاتنا. ما هُم بحاجة مُلِحَّة إليه بالتّأكيد هو إنسانيّتنا، وقلبنا المُنفتح على الحُبّ. لا ننسَ هذا: “إنّنا مدعوّون إلى أن نكتشف المسيح فيهِم، أن نعيرهم صوتنا للدّفاع عن قضاياهم، لكن أيضًا بأن نكون لهم أصدقاء، وأن نصغي إليهم، ونفهمهم وأن نتقبّل الحكمة السرّيّة التي يريد الله أن يبلغنا إيّاها من خلالهم” (الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل، 198). يعلّمنا الإيمان أنّ كلّ فقير هو ابن لله وأنّ المسيح حاضر فيه أو فيها: “كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوَتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه” (متّى 25، 40).

10. هذه السّنة هي الذّكرى السّنويّة المئة والخمسون لولادة القدّيسة تريزا الطّفل يسوع. في صفحة من صفحات كتابها ”حِكايَةُ نَفْس“ (Storia di un’anima) كتبت ما يلي: “الآن فهمت أنّ المحبّة الكاملة تقوم بتحمّل عيوب الآخرين، وفي ألّا نستغرب إطلاقًا من ضعفهم، وأن نستفيد من أصغر أعمال الفضيلة التي نراها فيهم، وخصوصًا فهمت أنّ المحبّة يجب ألّا تبقى دفينة في أعماق القلب: ”قال يسوع: لا أحد يضيء شعلة ليضعها تحت المكيال، بل ليضعها على الشّمعدان، حتّى تنير كلّ الذين في البيت“. يبدو أنّ هذه الشّعلة تمثّل المحبّة التي يجب أن تُنير وتُبهج ليس فقط الذين أحبّهم وأفضِّلهم، بل كلّ الذين في البيت، دون استثناء أحد” (Ms C, 12r°: Opere complete, Roma 1997, 247).

في هذا البيت الذي هو العالم، الكلّ له الحقّ في أن يستنير بالمحبّة، ولا يجوز أن يُحرَمَ أحد منها. لِيُلهم إصرار المحبّة في القدّيسة تريزا قلوبنا في هذا اليوم العالمي، ولتساعدنا على ”ألّا نُحوِّل نظرنا عن الفقير“ ونبقيه ثابتًا دائمًا في وجه الرّبّ يسوع المسيح، البشريّ والإلهي.

روما، بازيليكا القدّيس يوحنا في اللاتران، يوم 13 حزيران/يونيو 2022، تذكار القدّيس أنطونيوس البدواني، شفيع الفقراء.

فرنسيس