مثلا الصديق اللجوج والتينة التي لا تثمر- أب د.كميل وليم
(مثل “الصديق اللجوج” (لو5:11-9
يوجّه يسوع هذا المثل إلى التلاميذ: “وقال لهم” (5:11أ). يعود الضمير على التلاميذ، إذ إن أحدهم سأله، بعد أن فرغ من صلاته، أن يعلمهم كيف يصلون. “وكان يصلي في بعض الأماكن، فلما فرغ قال له أحد تلاميذه: “يارب علمنا أن نصلي كما علم يوحنا تلاميذه” (لو1:11).
يدخل هذا المثل ضمن تعليم أوسع عن الصلاة (لو1:11-13) تتوسطه الصلاة الربية. تمتاز بنية النصّ بالبساطة البالغة. ولكن لا يعني هذا أن فهمه أسهل. يطرق صديق في منتصف الليل مرات متتالية على باب صديقه، الذي يضطر، وإن مرغماً، أن يقوم ليفتح له.
توحي قراءة أولى سريعة أن هذا النصّ القصير يصف تصرفاً عادياً بين الأصدقاء: يمكن أن تزعج صديقك، عندما تقتضي الضرورة، حتى ليلاً، ولا يجب عليك أن تندهش إذا ردّ عليك بطريقة جافة. ما عليك إلا الإلحاح. إنها دعوة إلى الجرأة أن يطلب الإنسان من الله، وفي نفس الوقت دعوة للثقة المطلقة به. يقتضي الإلحاح الجرأة والثقة معاً. لا يلحّ المرء على إنسان غريب يهابه ولا يثابر في الطلب منه، ولا يتعشم فيه كثيراً. على الإنسان أن تكون لديه ألفة بالله وثقة به. تمتاز الصلاة، كما يقدمها الكتاب المقدس بالاحترام والمرونة والثبات. ولكن تثبت الخلاصة التي يصل إليها يسوع “أقول لكم: وإن لم يقم ويعطه لكونه صديقه، فإنه ينهض للجاجته، ويعطيه كل ما يحتاج إليه” (لو8:11)،
والنصّ الذي يلي المثل مباشرة: “إني أقول لكم: اسألوا تعطوا، أطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتح لكم. لأن كل من يسأل ينال ومن يطلب يجد ومن يقرع يُفتح له” (لو9:11-10)، إن يسوع يريد أن يؤكد على أن الاستجابة مضمونة. كما يلبي الصديق من داخل بيته، لأي سبب كان، رغبة صديقه واحتياجه، كذلك يستجيب الله صلاة من يتجه إليه بهذه الثقة وهذا الإلحاح. قد لا تتفق القصص الكتابية تماماً مع الحقائق اللاهوتية التي تشير إليها. لذلك يجب أن تتم عملية التطبيق بدقة.
إن بيت القصيد في هذا المثل ليس هو الصديق الذي يقوم متضرراً ليفتح الباب لصديقه، كما أنه ليس الصديق الذي يطرقُ باب صديقه بإلحاح شديد. إنه ببساطة “يقين الاستجابة”. لذلك لا يكون التركيز على مثابرة ولجاجة الطارق، للوصول في النهاية إلى التأكيد على فعالية الصلاة المثابرة، حتى وإن كان من الضروري أن يصلي الإنسان بإلحاح ومثابرة بدون أن يفقد الثقة. أهم الأشخاص في هذا المثل هو الصديق الذي يقوم ويفتح ويلبي، وليس الصديق الذي يطرق بإلحاح. إن التركيز على الصديق الذي يلح يحوّل المثل إلى تعليم أخلاقي، بينما جوهر المثل يظل دائماً لاهوتياً: موقف الله من الإنسان. يتناول المثل الموضوع من زاوية الله لا من زاوية الإنسان. يتكلم يسوع، حتى في أمثاله التي تبدو غاية في الوضوح، كمن يعرف الله، وليس فقط كمعلم يشير إلى واجبات الإنسان تجاه هذا الإله. إننا بذلك لا نقلل من أهمية الصلاة بإلحاح ومثابرة، فهذا أمر هام جداً. ليس هو الإلحاح الذي يجعل الصلاة مستجابة وفعّالة. يجب أن نقلب المنطق تماماً: سبب الإلحاح هو الثقة المطلقة في أن الصلاة تُستجاب، وليس الإلحاح هو الذي يؤدي إلى الاستجابة. وهنا يجد الإنسان ذاته أمام مسألة، لا بل مشكلة، يعيها إنجيل القديس لوقا جيداً: إذا كانت استجابة الصلاة أكيدة، فكيف يمكن شرح أن الإنسان لا يحصل دائماً على ما يطلبه من الله؟ يؤكّد إنجيل القديس لوقا أن الله يستجيب دائماً، ولكن بطريقته هو. لا تتفق ردوده دائماً، مع أسئلتنا. يلجأ يسوع إلى تشبيهات عجيبة لإثبات هذا الأمر: تشبيه الرغيف بالحجر والسمكة بالحية والبيضة بالعقرب (را لو 11:11-12).
ليس من السهل التعرّف على أوجه شبه بين رغيف خبز وحجر، بين سمكة وحية، بين بيضة وعقرب. ولكن يسوع يلجأ إلى هذه التشبيهات لأنه يعشق الصور والأمثال التي لا يتوقعها الإنسان، تماماً كما أن الإنسان لا يتوقع التعاليم والحقائق التي يلقيها عليه. إنها تشبيهات عجيبة تجذب الانتباه وهي في ذات الوقت واضحة وشفافة. إن الإنسان هو في أحيان عديدة مثل الطفل، الذي لا يعرف ماذا يطلب، والله هو مثل أب لا يمنح دائماً طفله ما يطلبه منه: إنه يمنحه فقط ما يراه نافعاً له. ولكن هناك حقيقة أكيدة وثابتة، وخاصة في منطق القديس لوقا، وهي أن الله لا يحجب أبداً؛ إنه يمنح دائماً الروح القدس: “فإن كنتم أنتم الأشرار تعرفون أن تعطوا العطايا الصالحة لأبنائكم، فما أولى أباكم السماويّ بأن يهب الروح القدس للذين يسألونه” (لو13:11).
(مثل “التينة التي لا تثمر” (لو6:13-9
يتفوّه يسوع بخطاب طويل (لو22:12-9:13) بدأه بدعوة ملّحة، لا بل بأمر لليقظة وعدم الاهتمام بالمظاهر ويختمه بدعوة شديدة للتوبة. بينما كان يسوع يتكلّم أبلغه بعضهم خبراً مأساوياً: لقد سحل بيلاطس مجموعة من الجليليين أثناء تقدمتهم ذبائحهم، وخلط دمهم بدم ذبائحهم. كما كانت كارثة قريبة تملأ بعد أذهان وذكريات الجماعة: انهار برج على بعض العمال بالقرب من الهيكل، فقتلهم جميعاً، وكان عددهم ثمانية عشر عاملاً. ربما كان منطق الناس الآتي: الله عادل ولا يظلم أحداً، لذلك فسواء الذين قتلهم بيلاطس أو الذين انهار عليهم البرج هم خطأة واستحقوا عقابهم، لكن يسوع يرى الأمور بطريقة مختلفة: “أتظنون هؤلاء الجليليين اكبر خطيئة من سائر الجليليين حتى أصيبوا بذلك؟ … وأولئك الثمانية عشر الذين سقط عليهم البرج في سلوام وقتلهم، أتظنونهم أكبر ذنباً من سائر أهل أورشليم؟ أقول لكم: لا، ولكن إن لم تتوبوا تهلكوا بأجمعكم كذلك” (لو2:13و4-5). ما كان الذين ماتوا أكثر شراً من الآخرين. تشير مأساتهم أن قضاء الله يحل على الجميع. لذلك يكرّر يسوع مرتين: “إن لم تتوبوا تهلكوا بأجمعكم مثلهم” (3:13و5). إنها عبارات قاسية بل عبارات تهديد ولكن يسوع يهدف بها الخلاص أكثر من العقاب، كما يشير بذلك مثل التينة التي لا تثمر.
بالرغم من بساطة هذا المثل، إلا أنه يكشف حقائق عديدة. تشير التينة التي لا تثمر إلى بني إسرائيل، كما يتضح هذا من كتاب ارميا “سأبيدهم إبادة، كما يقول الرب. لا عنب في الكرمة، ولا تين في التينة. والورق قد ذوى وأجعل عليهم من يدوسهم” (ار13:8).
إن عقم الشعب طال جداً “إني آتي من ثلاث سنوات إلى التينة هذه أطلب ثمراً عليها فلا أجد” (لو7:13). تلوح الدينونة الإلهية بشدة وضوح في الأفق: يرد الفعل “قطع” مرتين في المثل. ولكن هذا الزمن هو بعد زمن رحمة. إننا أمام احتمالين: يعتقد البعض أن الزمن ولّى والفرصة ضاعت والتغيير مستحيل: لقد نفذ صبر الله؛ ويعتقد آخرون أن الله صبور: مازالت هناك فرصة للخلاص، يدعو المثل إلى موقف آخر: التغيير مازال ممكناً ومتاحاً ولكن لا يستطيع أحد أن يستغل صبر الله. سيكون العقاب شديداً جداً، لذلك فضرورة التوبة ملّحة للغاية والله يمنح فرصة واحدة أخيرة. يمتد زمن الرحمة ليتيح فرصة للتوبة لا لتأجيل العقاب. إن مركز المثل لا يقوم في البحث عن الثمار (ينتظر كل بستاني ومزارع ثماراً من أشجاره) ولا في الرغبة في قطع التينة بعد أن عطلت الأرض ثلاث سنوات (هذا ما كان يفعله أي بستاني أو مزارع)، ولا في القرار النهائي بقطعها بعد سنة المهلة، إن لم تثمر. تقوم الجدة في أن تمنح الفرصة لتينة كهذه استمر عقمها ثلاث سنوات، بطلب أو صلاة البستاني!