مريم العذراء… نجمة الرجاء (2)- د. الأب / ميلاد صدقي زخاري اللعازري
مريم العذراء… نجمة الرجاء (2)- د. الأب / ميلاد صدقي زخاري اللعازري
ابعًا: وسائل روحيّة
إذا كانت المنطلقات اللاهوتيّة قد أعطتنا الأسباب، فعلينا الآن أن نبحث عن وسائل تحقيق هذا الرجاء، انطلاقًا من حياة مريم ومثالها:
• الصلاة والتأمل: مريم المتأمّلة في صمت: “وكانت مريم تحفظ جميع هذه الأمور، وتتأملها في قلبها” (لو 2/19)، مريم المصليّة دومًا: “وكانوا يواظبون على الصلاة بقلب واحد، مع بعض النسوة ومريم أم يسوع ومع إخوته” (أع 1/14)، تعلّمنا من أين ننهل الرجاء . في سياق حديث قداسة البابا بنديكتُس عمن تعلّموا الرجاء في مدرسة الصلاة، يذكر قداسته مثل الكاردينال نغيين فان ثيان الذي قضي ثلاثة عشر عامًا في السجن، منها تسعة أعوام في السجن الانفرادي، وكيف أصبح الإصغاء إلى الله ومناجاته بالنسبة له قوة رجاء متنامية، إلى الحد الذي أصبح، بعد إطلاق سراحه، شاهدًا لرجاء لا يخيب للعالم كله (فقرة32-34). ثم يضيف أيضًا شهادة رائعة للشهيد الفيتنامي بولس لي-باو-تينه (توفى عام 1857)، يتحدث فيها عن هذا التحوّل الرائع للألم بقوة الرجاء النابع من الإيمان (فقرة 37).
• التوبة المستمرّة: يندهش المرء من كثرة توصيات مريم العذراء، في ظهوراتها المختلفة، بممارسة التوبة. وإذا كانت الكنيسة الكاثوليكيّة لا تعترف بظهور رسميّ لمريم العذراء إلاّ إذا توافرت له شروط ثلاثة مدقّقة: (وجود رسالة تحكم الكنيسة على مضمونها، معجزات مؤكّدة مصاحبة، سلامة الصحة الجسمانيّة والنفسيّة للرائي)، فلابد، إذًا، من استنتاج يفرض نفسه جديًّا وحتميًّا: بالتوبة المتجدّدة ينتعش فينا الرجاء في الخلاص؛ “الحق الحق أقول لكم: كل من يرتكب الخطيئة يكون عبدًا للخطيئة… فإذا حرّركم الابن كنتم أحرارًا حقًا” (يو 8/34-36). أليست التوبة الراجية هي الفارق بين يهوذا الإسخريوطي وبطرس؟ جريرة كليهما جمة، وارتياع كليهما منها جليّ، وتحذير الرب لكليهما مسبق ولا شك فيه، فلماذا قضى أولهما بشنق نفسه عقابًا ذاتيًا على خيانته، وبكى الثاني، على إنكاره، “بكاءً مرًا” (لو 22/62) جدّد حياته؟ يكمن كل الرجاء في ما يقوله يوحنا الحبيب: “إذا قلنا: إننا بلا خطيئة ضللنا أنفسنا ولم يكن الحق فينا. وإذا اعترفنا بخطايانا فإنه أمين بار يغفر لنا خطايانا ويطهّرنا من كل إثم” (1يو1/8-9). في هذا الصدد نفسه تضيف الرسالة إلى العبرانيين: “ولما كنا واثقين، أيها الأخوة، بأن لنا سبيلاً إلى القدس بدم يسوع، سبيلاً جديدة حيّة فتحها لنا من خلال الحجاب، أي جسده، وأن لنا كاهنًا عظيمًا على بيت الله، فلندنُ بقلب صادق وبتمام الإيمان، وقلوبنا مطهّرة من أدناس الضمير وأجسادنا مغسولة بماء طاهر، ولنتمسك بما نشهد له من الرجاء ولا نحد عنه، لأن الذي وعد أمين” (عب10/19-23).
• الإفخارستيّا: ما دمنا في أجواء الجماعة الأورشليميّة الأولى، فقد كان يميز مواظبتها أيضًا على الصلاة، بمعيّة أم يسوع، احتفالها بـسماع “تعليم الرسل والمشاركة وكسر الخبز والصلوات” (أع 2/42). هذه الإفخارستيّا التي نهتف فيها: “إننا نعلن موتك، أيها الرب يسوع، ونمجد قيامتك، وننتظر مجيئك في المجد”. جسد ودم الرب، قوت النفوس المسافرة على هذه الأرض، يذكرنا أننا نسير إلى لقاء الحبيب، الذي وحده هو ضروري، بقوته هو. عن إدخال الإفخارستيا ضمن أسرار النور، في المسبحة الورديّة، قال خادم الله البابا يوحنا بولس الثاني: “في الرسالة الرسوليّة ورديّة مريم العذراء “بتسميتي البتول الكليّة القداسة كمعلمة في التأمل في وجه المسيح، سجلت تأسيس الإفخارستيا ما بين أسرار النور، لأن مريم العذراء يمكنها أن تقود خطانا نحو هذا السر الأقدس، لما يوجد بينهما من علاقة عميقة” . إن كل لقاء مع الله معنا، عمانوئيل، يتضمّن والدة الإله. ولكي نعيش بعمق سرّ الإفخارستيّا، ونحتفل به بطريقة تجعله مؤثّرًا في حياتنا، علينا أن نترك مريم العذراء تقودنا في اكتشاف غنى العلاقة مع ابنها. “مريم امرأة إفخارستيّة”، هكذا دعاها البابا يوحنا بولس الثاني (فقرة 53). ثم يضيف قداسته: “كأن مريم تقول لنا، بحنوها الوالديّ، الذي أظهرته في عُرس قانا: «لا ترددوا البتة، ثقوا بكلام ابني. إن الذي حوّل الماء خمرًا لقادر أيضًا أن يجعل من الخبز والخمر جسده ودمه، ناقلاً إلى المؤمنين، في هذا السر، الذكرى الحيّة لفصحه، صائرًا هكذا خبز الحياة» (فقرة 54).
• المحبة الخادمة: يرتبط أيضًا بالإفخارستيا، بالمناولة، ومع نهايّة الاحتفال، حملُ المسيح إلى الآخرين، وفي الوقت نفسه، اكتشافه فيهم كأحد أهم ثمار الاشتراك في القداس الإلهي. وهنا أيضًا يكون الاقتداء مريميًا. ألم تكن زيارة مريم لنسيبتها أليصابات هي أول ما قامت به فور مغادرة الملاك؟ “وانصرف الملاك من عندها. وفي تلك الأيام قامت مريم فمضت مسرعة إلى الجبل إلى مدينة في يهوذا. ودخلت بيت زكريا، فسلمت على أليصابات” (لو 1/38-40). من بداية المسيحيّة وإلى الآن، تُحملُ المناولة إلى السجين حبيس الأسوار، وإلى المريض ملازم الفراش. وإذ هما أحوج ما يكون إلى رجاء الحريّة والشفاء، يمكننا، بالقياس، التفكير في الكثيرين الذين يموتون من برد العزلة، والمسيح نار المحبة، يهلكون جهلاً بالخلاص، والمسيح “هو الطريق والحق والحياة” (يو14/6)؛ يقضّون من الجوع الروحي، والمسيح هو “خبز الحياة” (يو6/35)، إلخ. من المؤكد أن عالمنا المعاصر يكشف عن أنواع جديدة من “إخوة يسوع الصغار” أكثر مما كتبه القديس متى (مت 25/35-36): الجائع، والعطشان، والغريب، والعريان، والمريض، والسجين. إنهم بحاجة إلى الرجاء في المسيح بقدر ما نحتاجه نحن أيضًا. المحبة الخدومة تنعش الرجاء في الجميع.
• السعي نحو القداسة: حينما نسمع القديس بطرس يقول: “كما أن الذي دعاكم هو قدوس، فكذلك كونوا أنتم قديسين في سيرتكم كلها، لأنه مكتوب: “كونوا قديسين، لأني أنا قدوس” (1 بط 1/15-16؛ راجع أح 11/44-45، 19/2). قد تبدو لنا دعوة “تعجيزيّة”، تصيب بالإحباط: كيف يمكن للخليقة المحدودة أولاً، والخاطئة ثانيًا، أن تبلغ قدم المساواة مع قداسة الله اللامحدودة؟ أهناك من رجاء واقعي في أمر دعوتنا للقداسة؟ يكمن الحل الإيجابي في التأمل في قداسة الله (كهدف وصورة إلهيّة)، ثم في قداسة مريم (كوسيلة ومثال بشري). “الله محبة” (ا يو 4/8 و16)، وقداسته هي كمال محبته ولا محدوديتها. وبالتالي، فبقدر ما تكتمل محبتنا البنويّة والأخويّة، نقترب من محبة الله وبالتالي من قداسته؛ والقديسون خير برهان، وهذا ما يوضحه أيضًا يوحنا الحبيب: “إن الله ما عاينه أحد قط. فإذا أحب بعضنا بعضًا فالله فينا مقيم ومحبته فينا مكتملة… من أقام في المحبة أقام في الله وأقام الله فيه. واكتمال المحبة بالنظر إلينا أن تكون لنا الطمأنينة ليوم الدينونة” (1 يو 4/ 12-17). على ضوء هذا المعيار، أين تكمن بالضبط قداسة مريم العذراء، فتاة الناصرة البسيطة؟
أولاً: في ممارسة الوصيّة الوحيدة: محبة الله والقريب. “نعلم أننا نحب أبناء الله إذا كنا نحب الله ونعمل بوصاياه. لأن محبة الله أن نحفظ وصاياه وليست وصاياه ثقيلة الحمل” (1 يو 5/2-3).
ثانيًا: في ممارسة هذه الوصيّة الوحيدة “هنا والآن”، في الحياة اليوميّة. فبينما، عادة، لا تعرف حياتنا إلا مطرقة الماضي بذكرياته، وسندان المستقبل وهمومه، حتى ليختفي منها الزمن الحاضر، نجد أن القديسين، وأولهم مريم العذراء، هم على العكس تمامًا، يعيشون المحبة في الحاضر، حتى ليبدو لنا، إن الماضي الغابر والمستقبل المجهول لا يستقطبان طاقات انتباههم ولا قوة محبتهم بقدر اللحظة الحاليّة، التي هي وحدها مجال عيش المحبة “لا بالكلام أو باللسان، بل بالعمل والحق” (1يو 3/18). هذا بالضبط ما يقدس الحياة، عمليًا وكليًا. “الرجاء لا يخيب صاحبه، لأن محبة الله أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي وهب لنا” (روم 5/5). نفهم، بالنتيجة، ليس فقط سهولة القداسة في مدرسة مريم العذراء، بل أيضًا وخصوصًا، لماذا يُصرّ القديس بولس على أن يدعو المعمّدين “قديسين”، فالقداسة دعوتنا كلنا (روم 1/7).
خامسًا: مناجاة تأمليّة
يقول قداسة البابا بنديكتُس السادس عشر: “الحياة رحلة في خضم بحر التاريخ، رحلة محفوفة بالغموض وبالعاصفة، رحلة نبحث فيها عن النجوم التي تهدينا سواء السبيل. النجوم المختلفة في حياتنا هم الأشخاص الذين عرفوا كيف يعيشون في الاستقامة. إنهم أنوار الرجاء. من المؤكّد أن يسوع المسيح هو النور الأمثل، الشمس التي تشرق على كل ظلمات التاريخ. ولكن للوصول إلى المسيح نحتاج إلى أنوار قريبة، إلى أشخاص يعطون نورًا يستمدونه من نوره، فيقدمون بذلك توجّهًا صحيحًا لرحلتنا. ومن هو الشخص الذي يمكن أن يكون لنا نجمة الرجاء أكثر من مريم، التي بفضل الـ «نعم» التي قالتها فتحت إلى الله نفسه باب عالمنا، هي التي أصبحت تابوت العهد الحي الذي فيه تجسّد الله، فأصبح واحدًا منّا، وسكن بيننا (راجع يو 1/14)” (مخلصون بالرجاء، فقرة 49).
بالفعل، عجيبة غريبة مفارقات زماننا المعاصر. لا تخدعنا صور الفضائيات ولا شبكة المعلومات، فهناك واقع نلمسه، حولنا، لا تنقله دائمًا كاميرا مصور ولا قلم مراسل:
زاد الاحتباس الحراري، ونقُص دفء العلاقات الإنسانيّة،
تفشّت العولمة السياسيّة والاقتصاديّة، وانحسر قبول الآخر والانفتاح عليه،
زاد المال، ولم يقلّ عدد المعوزين،
زادت الملذات، ونقصت السعادة،
زاد السلاح والذخيرة، ونقُص الأمن والأمان،
زاد مخزون القنابل الذكيّة، ونقُص رصيد العقول الحكيمة،
زاد التعصّب الديني، ونقُص التديّن الأصيل،
استبيحت العلاقات الجنسيّة، وتفتت العائلات بألوان من الطلاق والخُلع وفنون من الهجر والانفصال.
كلها هموم نعيشها على الصعيد الشخصي والرعوي، وتجعلنا قلقين على مسار الإنسانيّة المعاصرة، حتى وإن كانت هناك أمور إيجابيّة لا يمكن إنكارها: إلى أين نمضي؟
ولكن، يفيدنا منطق الوحي بأنه “حيث كثُرت الخطيئة، طفحت النعمة” (روم 5/20)، وحيث يعم القلق، يسود “الرجاء الذي لا يخيب صاحبه” (روم5/5).
كيف لا وللبشريّة أم رؤوم، كلما لمحت فرح أبنائها مهددًا بالنفاذ، همست في أذن ابنها وفاديها: “ليس عندهم خمر”. إنها النجمة التي تقود إلى حيث يوجد يسوع.
قديمًا قاد نجم مادي طريق المجوس إلى طفل المغارة، ولكن نقلاً عن القديس غريغوريوس النزينزي، يقول قداسة البابا بنديكتُس: “إن اللحظة التي فيها سجد المجوس، الذين قادهم النجم، للملك الجديد، حددت نهاية علم الفلك، لأنه منذ تلك اللحظة فصاعدًا، ستدور الكواكب وفقًا للمسار الذي يحدّده المسيح” .
بناء عليه، اليوم بالنسبة لنا، تتولى مريم مهمة قيادتنا إليه في عواصف اليأس وأعاصير الإحباط.
في الختام، اسمحوا لي بأن أصغي معكم لقصيدة مناجاة للشاعر الرقيق الأب رفائيل نخلة اليسوعي يخاطب فيها مريم العذراء، نجمة الرجاء.
فتنت فــؤاد الله حــين رآها فــاقت خـلائقه بفــرط نقـاها!
قد عـم آدمَ والسـلالة سخطه فافترَّ عـن حلمٍ لــدى مــرآها!
قد بُشرت بقـدومها لخـلاصنا حـواء في الفردوس بعـد غـواها.
عـذراء قد حبلت بقوة ربـها؛ وهـبت حيـاةً للــذي أحيـاهـا!
أم الإله؛ أيا ملائكة، اذهــلوا؛ قد كـونت مولاكــمُ بحشــاها!
منذ الولادة شـوهتنا وصــمةٌ ما نـاب مـريم عـارهـا وأذاها.
الأرض قبلك، يا نقيّة، عـاطل، وبـك استبت رب الجمـال حُـلاها!
إن السماء قد صارمتها أعصرًا، فظهـرت واشتاقت إلى لقياهـــا!
للأرض أنت وللسـماء مليكةٌ؛ عقـل النوابـغ فـي جـلالك تاها!
وقلوب ربوات النصارى أولعت بكمال طهـر أبكـم الأفــواهـا!
أنت النجاة والافتخـار لجنسنا، وجمـال كـل الكـون فيك تناهـى!
يـا أمـنا، يـا مـن بدار شقائنا لم نـرجُ تسلـية لـنا بسـواهــا،
قد طال في وادي الدموع جهادنا والـروح ذابت مـن أسى منفاهـا؛
أم المراحــم، خففي أحمالها؛ قودي إلى الوطن العزيز خُطـاهـا؛
يا من بسلطان السـماء حبوتها، جلّـي لهـا مجــد الذي نجـاها!
تمّ،،،
عن مجلة صديق الكاهن العدد الأول2009